لو كنا في بلد يحترم فيه القانون وسلطة القضاء وهيبة المؤسسات لذهب فيصل العرايشي، مدير التلفزات الرسمية، إلى فراشه، أول أمس الثلاثاء، دون لقب الرئيس المدير العام للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، أي لأقيل من منصبه جراء تحديه لحكم قضائي، صادر عن المحكمة الإدارية بالرباط، يقضي بتوقيف قرار الهاكا، التي سمحت ببث إحاطات مجلس المستشارين في القناة الأولى، إلى غاية البت في موضوع الدعوى التي رفعتها الحكومة ضد قرار الهاكا، باعتبار هذه الأخيرة، عندما سمحت بإعادة بث إحاطات نواب المملكة، تجاهلت قرار المجلس الدستوري الذي قضى بعدم دستورية بث الإحاطات التي لا تعقبها تعليقات من الحكومة في إطار توازن السلط المعمول به في دستور المملكة. حكم المحكمة الإدارية كان مستعجلا وصدر يوم الاثنين الماضي، أي 24 ساعة قبل جلسة مجلس المستشارين، ومعلوم أن أحكام وقف تنفيذ القرار الإداري تبنى على اعتبارين: حالة الاستعجال وجدية الطعن. فماذا حدث حتى تحدى العرايشي ليس فقط سلطة الوزارة التي يتبع لها، ولكن حكم القضاء الذي لا معقب لأحد عليه في دولة المؤسسات؟ لنبدأ برواية العرايشي الذي قال مسؤولوه لهذه الجريدة، لما اتصلنا بهم لمعرفة أسباب تحدي قرار المحكمة، والسماح لإحاطات مستشاري المملكة بالظهور على التلفزة: «لقد تلقى مكتب الضبط بالشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة تبليغا بالحكم الصادر عن المحكمة الإدارية الثلاثاء، لكن مسطرة اطلاع مدير الشؤون القانونية بالشركة على الحكم وإبداء رأيه للمسؤولين أخذت وقتا، ما جعل الإحاطة تبث في القناة، ونحن سنمتنع عن هذا الأمر مستقبلا». هل يقنعكم هذا الجواب؟ وهل لمدير الشؤون القانونية رأي في حكم قضائي؟ وهل هذه مؤسسة عمومية استراتيجية تقع في قلب الفعل السياسي والإعلامي، أم مقاطعة منسية في إحدى مدن الهامش، تتوصل بحكم استعجالي من المحكمة وتتجاهله؟ ثم أين كان العرايشي، الرئيس المدير العام الذي يتقاضى أجرا يفوق أجر ثلاثة وزراء مجتمعين، أثناء احتدام الخلافات الحادة بين الحكومة والهاكا؟ ولماذا لم يأخذ علما بقرار المحكمة القاضي بتوقيف بث الإحاطات، علما أن الخبر نشر في عدد من الجرائد والمواقع الإلكترونية يوم الاثنين وصباح الثلاثاء؟ إذا كان العرايشي يعرف حكم المحكمة الإدارية وضرب به عرض الحائط، فهذه جريمة يعاقب عليها القانون، وإذا كان لا يعلم بحكم المحكمة، وهو في منصب حساس مثل منصبه، فهذا خطأ جسيم، وفي كلتا الحالتين يجب أن يعاقب على أحد الأمرين؛ إما عن خرق القانون بسوء نية، أو عن الإهمال وعدم الحرص على إدارة مرفق حساس مثل مرفق الإعلام... إذا فشل رئيس الحكومة في إقالة العرايشي، الذي أمضى 15 سنة في هذا المنصب كللت بالفشل الكبير، كما تدل على ذلك أحوال التلفزات المغربية اليوم التي لا شبيه لها سوى تلفزات اليمن وجيبوتي وقنوات العقيد القذافي أيام الزحف الأخضر.. إذا فشل رئيس الحكومة في إقالة العرايشي من هذا المنصب أمام هذا الخطأ الجسيم فعلينا أن نقرأ اللطيف على الدستور الذي جعل من القضاء سلطة فوق السلط، وأن نقرأ اللطيف على مشروع الإصلاح الذي يردده بنكيران كل يوم على أسماعنا، وأن نقرأ اللطيف على تساوي المواطنين أمام القانون (اليوم يتابع شباب في مقتبل العمر لأنهم رفعوا شعارات في تظاهرة 6 أبريل بالدار البيضاء ارتأت النيابة العامة أنها تخرق القانون، لكن مدير القطب الإعلامي العمومي يخرق حكما قضائيا صادرا باسم الملك والقانون ولا أحد يسأله عن جريمته، هذا عبث ما بعده عبث). الآن لنوسع زاوية الرأي أكثر، ونتساءل: لماذا تجرأ العرايشي، وهو واحد من المسؤولين الكبار ويعتبر نفسه من أقطاب نظام الحكم ومكلفا بالدعاية للسلطة واستعمال التلفزات كأدوات لممارسة السلطة.. لماذا تجرأ على خرق حكم قضائي؟ العرايشي يعرف من ممارسته الطويلة للسلطة ومن طبيعة الدولة «العميقة»، التي يحتك بها كل يوم، أنه «محمي»، وأن هناك نوعين من المؤسسات في المغرب؛ هناك المؤسسات الدستورية (الحكومة، البرلمان، القضاء...) وهناك مؤسسة «المخزن» التي تتحرك أحيانا باستقلالية حتى عن الجالس على العرش. عندما لا يكون هناك تعارض في القرارات والمصالح والاستراتيجيات، تشتغل المؤسسات الدستورية بلا مشاكل، لكن عندما يقع تعارض وتناقض بين منطق المؤسسات ومنطق المخزن يتعطل حكم الأولى (المؤسسات)، ويسري حكم الثانية (المخزن)، تماماً مثل سيارة تعليم السياقة؛ يجلس المتدرب أمام المقود، ويضع رجله على الدواسة ويبدأ في السياقة، لكن عند الضرورة يتدخل «المونيتور»، وعندها تتعطل وظيفة أدوات السياقة لدى المتدرب وتصبح السيارة في يد صاحبها. وظيفة الحكومة والبرلمان والإعلام الحر (وليس المسخر) وصناديق الاقتراع أن توسع حكم المؤسسات، وتضيق سلطة المخزن، وهذه عملية ومشروع في صالح الجميع، لكن هذه العملية لا تمر اليوم من دون مقاومة من قبل الحرس القديم الذي لم يبلع بعد الدستور الجديد ومشروع الملك لتحديث النظام، ولهذا مازال يقاوم، وما فعله العرايشي أول أمس جزء من هذه المقاومة.