أعاد التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات، برسم سنة 2018 إلى واجهة النقاش العمومي، التساؤل حول جدوى تلك التقارير، إن لم يتم تفعيل المبدأ الدستوري المتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة. التقرير الأخير، مثل غيره من التقارير السابقة، تضمن نواقص واختلالات جسيمة في شتى المؤسسات والقطاعات العمومية التي شملها افتحاص قضاة المجلس وطنيا وجهويا، اختلالات أبانت عن حصول تبذير وإهدار للمال العام، يفترض معها تفعيل المحاسبة القضائية في حق المسؤولين الذين تشير تلك التقارير إلى خروقاتهم وهو الأمر الذي لا يحدث، بينما لا يُعرف مصير تلك التقارير، ويطرح السؤال حول الجدوى منها أساسا. اختلالات جسيمة التقرير السنوي الجديد برسم سنة 2018 تضمن حصيلة 50 مهمة رقابية في ميادين مراقبة تسيير الأجهزة العمومية وتقييم البرامج العمومية، علاوة على حصيلة إنجازات المجالس الجهوية للحسابات، والتي يمكن تلخيصها في تنفيذ 224 مهمة رقابية، تندرج في إطار مراقبة التسيير على مستوى بعض الجماعات الترابية والمؤسسات العمومية المحلية، وكذا بعض شركات التدبير المفوض. وخلفت معطيات التقرير صدمة كبيرة بين مختلف المتتبعين، وتداول النشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي العديد من تلك المعطيات، خاصة ما يهم عمل المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية، الذي تشكل النقائص المسجلة على مستوى عمله، خطرا كبيرا على صحة المغاربة. وبحسب التقرير، فإن المكتب لا يراقب بقايا المبيدات في الفواكه والخضراوات الموجهة للسوق المحلية، على عكس المنتجات المعدة للتصدير، التي تمر بالضرورة عبر محطات التعبئة، والتي تخضع لمراقبة صارمة لبقايا المبيدات الزراعية، وغياب المراقبة الصحية في أسواق الجملة للفواكه والخضر، حيث لا تمارس مصالح المكتب الوطني مهام المراقبة، لأنها تعتبر أن هذه الوحدات غير منظمة بما فيه الكفاية، ولا تتوفر على نظام لتتبع الفواكه والخضر والنباتات العطرية من المزرعة إلى السوق، علاوة على غياب مراقبة المواد الغذائية التي تحتوي على عناصر معدلة جينيا، وسجل التقرير غياب إطار قانوني يؤطر استخدام المواد المعدلة جينيا. إلى جانب اختلالات تشكل تهديدا خطيرا لصحة المواطنين، هناك تبذير للمال العام، وعلى سبيل المثال تم التركيز على اقتناء وزارة النقل والتجهيز ل50 وحدة من ذاكرات التخزين (USB) بسعر يفوق بكثير السعر المتداول في السوق، حيث اقتنت مصالح الوزارة “اليوسبي” واحد ب720 درهما، بينما السعر المتداول في السوق لا يتجاوز 200 درهم. فضيحة أخرى فجّرها التقرير تتعلق بالاختلالات المرتبطة بصفقات بالمجالس الجماعية، من ضمنها ما أشار إليه المجلس الجهوي للحسابات لجهة كلميم واد نون، بخصوص إبرام جماعة الشاطئ الأبيض بإقليم كلميم، عقد الإطعام بمبلغ 55 مليون سنتيم. وأوضح تقرير أن حفل الغذاء المنظم بتاريخ 18 غشت 2018، لم يشمل وجبة الغذاء، كما هو منصوص عليه بالعقد، وإنما وجبة عشاء واحدة مكونة من خمسة محتويات واستراحة شاي، بينما يتضمن العقد أربع وجبات غذاء تحتوي على مكونات أخرى معدة لفائدة 1600 شخص. المحاسبة.. مقاربة جطو في بلاغ أصدره رئيس المجلس الأعلى للحسابات يتضمن التقرير السنوي من سنة 2018، 50 مهمة رقابية في ميادين مراقبة تسيير الأجهزة العمومية وتقييم البرامج العمومية، وكشف أن غرف المجلس أصدرت 181 قرارا قضائيا فيما يخص مادة التدقيق والبت في الحسابات، و15 قرارا في ميدان التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية. مؤكدا أن النيابة العامة أحالت لدى المحاكم المالية 114 متابعا على هذه المحاكم في ميدان التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية. كما أحال الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى للحسابات 8 قضايا تتعلق بأفعال، قد تستوجب عقوبة جنائية على رئاسة النيابة العامة. وبخصوص دور المجالس الجهوية للحسابات، أكد بلاغ المجلس الأعلى للحسابات، أنها أنجزت تنفيذ 224 مهمة رقابية تندرج في إطار مراقبة التسيير على مستوى بعض الجماعات الترابية والمؤسسات العمومية المحلية، وكذا بعض شركات التدبير المفوض. بالإضافة إلى إصدار 1.963 حكما نهائيا في مادة التدقيق والبت في الحسابات، و53 حكما في ميدان التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية. الظاهر أن مقاربة رئيس المجلس إدريس جطو ليست عقابية، بل توجيهية تقويمية، تهدف إلى تجاوز الاختلالات في إطار تقييم وتقويم السياسات العمومية والقطاعية للقطاعات الحكومية والمؤسسات العمومية، لهذا، ومقارنة مع تقارير المجلس في عهد الرئيس السابق مثلا، أحمد الميداوي، يبدو الطابع الفضائحي أقل، رغم الجدل الذي أثاره التقرير الأخير برسم سنة 2018، والذي ركز في جوانب منه على خروقات أثارت صدمة لدى الرأي العام، ودفعت البعض إلى التساؤل لماذا لا تعقبها متابعات قضائية. محمد براو، خبير في الحكامة الجيدة ومكافحة الفساد، كتب على هامش ما وصفه ب”التقرير المقلق” للمجلس الأعلى للحسابات برسم سنة 2018 قائلا إنه: “لا مناص من التوقف عند هذا التقرير في هذه الظرفية المغربية الاستثنائية من أجل توظيفه في تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، بعيدا عن البكائيات السنوية، وبعيدا عن مطاردة الساحرات، أو تحويل جميع المسؤولين إلى النيابة العامة”. وأضاف “اقتراحي بسيط؛ هو أن تدرس الحكومة التقرير وتستخلص العبر من خلال إعفاء جميع المسؤولين الذين ثبت سوء إدارتهم وتقصيرهم في مهامهم، واستبدالهم بكفاءات جديدة”. وبرّر اقتراحه بحجتين قائلا: “فمن جهة أولى، المجلس وحده ليس بإمكانه أن يملك العصا السحرية ولا أن يمارس دور دونكشوط، ومن جهة ثانية، ستنسجم الحكومة مع التوجه الملكي الجديد، ومن جهة ثالثة، فإن كلفة التغيير أقل بكثير من كلفة اللامبالاة”. تقارير للتنفيس فقط إلى جانب المطالبة من قبل نشطاء الفايسبوك وعدد من الفاعلين الحقوقيين، باستثمار تقارير المجلس من أجل ربط المسؤولية بالمحاسبة، ثمة قراءة سياسية تفيد أن الغرض من التقارير وما تكشف عنه من اختلالات وفضائح ليس المحاسبة، بل التنفيس وامتصاص الغضب الشعبي. سعيد السالمي، أستاذ العلوم السياسية بفرنسا، علّق بالقول: “لقد أخرجوا صفارة جطو لتنفيس طنجرة الضغط، ونسوا أن الوعي السياسي لدى المغاربة سنة 2019 لم يعد كما كان سنة 2010 وما قبلها”، وتابع قائلا: “لقد بات المغاربة يتساءلون عن إجراءات المحاسبة من كل هذا؟ وكم تقريرا نفّس به المجلس الوضع قبله، لذلك صار دور جطو نفسه محط مساءلة أكثر من أي وقت مضى، بالنظر إلى انتقائية الملفات التي يبحث فيها المجلس الأعلى للحسابات”. أما رشيد أوراز، مختص في الاقتصاد السياسي وباحث رئيسي في المعهد المغربي لتحليل السياسات، فقد عبّر عن رأي مخالف لما ذهب إليه سعيد السالمي، مؤكدا في حديث مع “أخبار اليوم” أنه “لا يمكن أن ننفي التأثير الذي تُحدِثه تقارير المجلس الأعلى للحسابات، رغم أنها لا تعقبها دائما متابعات قضائية”. وتابع: “فيما يخص التقرير الأخير مثلا، فقد كشف عمق الاختلالات التي يعرفها الاقتصاد الوطني في ما يخص مجموعة من القطاعات الحيوية، وهذا مهم جدا بالنسبة إلى المواطن المغربي، ولا أرى أي مؤسسة أخرى قادرة على كشف هذه الاختلالات، ولو في إطار معرفة ما يجري ويدور في دواليب المسؤولية”. واعتبر أوراز أن “غياب متابعات قضائية للمسؤولين عن تبذير المال العام، لا يعني أنهم يفلتون من محاكمة الرأي العام الشعبي والوطني، وهذه مهمة جدا، لأنها تساهم في تطوير وعي المواطنين تجاه المسؤولين السياسيين والإداريين، وقد رأينا كيف تفاعل الرأي العام مع النسخة الأخيرة من التقرير، وكيف حاسب المسؤولين على الاختلالات، ولا شك أن ذلك سيؤثر على مستقبلهم السياسي، ومستقبل تحملهم لأي مسؤوليات مستقبلا”. واعتبر أوراز أن “محاربة الفساد والحد منه لا يمكن أن تكون عبر سياسة محاربة طواحين الهواء، بل ستكون عبر مراحل، أولاها ترسيخ سياسة بعيدة المدى لكشفه وتعريته وتقديم تقارير للنقاش العام، وثانيها، من خلال المحاسبة القانونية، لكنها ستكون مرحلة أخرى لاحقة، وتحتاج إلى مؤسسات محاسبة قوية وإلى إرادة سياسية، وأيضا، ضمان أن لا يعيق ذلك السير العادي للمؤسسات القائمة”. غير أن عدم تحريك المتابعة القضائية، بحسب محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، يؤدي إلى تفاقم الاختلالات أكثر. فالتقرير الأخير تضمن توثيقا لمجموعة من الاختلالات المالية بمؤسسات عمومية وجماعات ترابية وقطاعات حكومية ومشاريع مختلفة، غير أن ضعف المساءلة، وآليات الرقابة، ساهم إلى جانب عوامل أخرى، في تكوين شبكات مصالح معقدة محليا وجهويا ووطنيا. واعتبر الغلوسي أن هذه الشبكات أصبحت من الناحية السياسية “أكبر عائق أمام أي إصلاح أو تحول ديمقراطي”، مستغلة “علاقاتها وضعف حكم القانون وسيادة الإفلات من العقاب من أجل مقاومة كافة البرامج والسياسات التي قد تتوخى إحداث أي إصلاح مهما كان جزئيا ومحدودا”. أثر تقرير جطو على التعديل الحكومي ويلاحظ أن الإفراج عن التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات برسم سنة 2018 تزامن مع النقاش الدائر حول التعديل الحكومي، الذي أمر به الملك محمد السادس في خطاب العرش الماضي، ما دفع إلى التساؤل حول إمكانية أن يؤثر التقرير على مستقبل بعض الوزراء والمسؤولين العموميين الذين تمت الإشارة إلى قطاعاتهم، في سياق الحديث عن اختلالات جسيمة. خالد يايموت، أستاذ العلوم السياسية، يرى أن الهدف من تقرير المجلس الأعلى للحسابات يبقى “سياسيا بالدرجة الأولى”، بمعنى أن “تظهر الدولة وكأنها تتخذ خطوات إيجابية فيما يخص محاربة الفساد”، مؤكدا أن هذا “الخطاب يروج له رئيس الحكومة في السنوات الأخيرة”. وبخصوص إمكانية تأثير التقرير على التعديل الحكومي، فإن يايموت يرى أن هناك تأثيرا، أولا، داخل الأحزاب بفعل الصراع فيما بين نخبها حول المناصب. والثاني، مرتبط بعلاقة الشخص المستوزر بأجنحة معينة داخل الدولة، ويمكن أن يستخدم هذا النوع من التقارير ضده. وأوضح أستاذ العلوم السياسية، أن “رئيس الحكومة قد يجد في هذه التقارير ما يساعده على إزاحة بعض الأسماء، لكن ليس على مستوى منهج العمل وتركيبة الحكومة”. يشير يايموت إلى الاستغلال الحزبي-الحزبي للتقرير الصادر عن المجلس الأعلى للحسابات، سواء داخل الأحزاب بين التيارات والنخب المتنافسة، أو استغلال التقرير من قبل قوى أخرى خارج الحزب ضد هذا الوزير أو ذاك، في إطار التنافس حول المناصب وما يرتبط بها من امتيازات، لكن لا يبدو أن التقرير في حد ذاته سيكون له تأثير في إزاحة هذا الوزير أو ذاك، خصوصا وأن التقرير مافتئ يتعرض بدوره للنقد من قبل الأطر العليا في الإدارة التي ترى أن تقارير جطو تفتقر إلى المهنية والدقة في كثير من القضايا التي تتناولها. 8 متابعات جنائية و114 متابعة تأديبية سلط المجلس الأعلى للحسابات تقريره السنوي لسنة 2018، على العديد من القطاعات وضم التقرير 11 مهمة رقابية، إضافة إلى 50 مهمة رقابية في ميادين مراقبة تسيير الأجهزة العمومية، وتقييم البرامج العمومية قامت بها المحاكم المالية، وأصدر المجلس 1963 حكما نهائيا في مادة التدقيق والبت في الحسابات، و53 حكما في ميدان التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية. ومن جهة أخرى، أحالت النيابة العامة لدى المحاكم المالية 114 متابعا على هذه المحاكم في ميدان التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية. كما أحال الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى للحسابات 8 قضايا تتعلق بأفعال قد تستوجب عقوبة جنائية على رئاسة النيابة العامة.