أثار تقرير المجلس الأعلى للحسابات برسم سنة 2018 جدلا واسعا في مواقع التواصل الاجتماعي وبين الرأي العام الوطني، لسببين: الأول، أن التقرير كشف عن خروقات واختلالات في تدبير المال العام، بعضها أحدث صدمة لدى فئات واسعة، أما السبب الثاني، فهو أن التقرير لا تترتب عليه جزاءات رادعة، تفعيلا للمبدأ الدستوري المتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة. ما دفع البعض إلى التساؤل حول جدوى هذه التقارير إذا كانت حماية المال العام ليست أولوية بالنسبة إلى القضاء والحكومة والبرلمان. من بين تلك الاختلالات “الفاضحة”، وأحدثت صدمة أظهرت استهانة بعض المؤسسات العمومية بكرامة المواطن المغربي، ما يتعلق بعمل المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية، الذي يعمل تحت وصاية وزير الفلاحة والصيد البحري. التقرير كشف أن المكتب لا يراقب بقايا المبيدات في الفواكه والخضراوات الموجهة للسوق المحلية، على عكس المنتجات المعدة للتصدير، التي تخضع لمراقبة صارمة لبقايا المبيدات الزراعية، وسجل غياب المراقبة الصحية في أسواق الجملة للفواكه والخضر، حيث لا تمارس مصالح المكتب الوطني مهام المراقبة، بحجة أن هذه الوحدات غير منظمة بما فيه الكفاية، ولا تتوفر على نظام لتتبع الفواكه والخضر والنباتات العطرية من المزرعة إلى السوق. علاوة على غياب مراقبة المواد الغذائية التي تحتوي على عناصر معدلة جينيا، وسجل التقرير غياب إطار قانوني يؤطر استخدام المواد المعدلة جينيا. علاوة على ذلك، كشف التقرير عن نماذج لصفقات عمومية يبذر فيها المال العام، دون رقيب أو حسيب، ومن الأمثلة على ذلك اقتناء وزارة النقل والتجهيز ل50 وحدة من ذاكرات التخزين (USB) بسعر يفوق بكثير السعر المتداول في السوق، حيث اقتنت مصالح الوزارة “اليوسبي” واحد ب720 درهما بينما السعر المتداول في السوق لا يتجاوز 200 درهم. أما المجلس الجهوي للحسابات لجهة كلميم واد نون، فقد كشف عن فضيحة أخرى، تمثلت في إبرام جماعة الشاطئ الأبيض بإقليم كلميم، عقد الإطعام بمبلغ 55 مليون سنتيم. وأوضح تقرير أن حفل الغذاء المنظم بتاريخ 18 غشت 2018، لم يشمل وجبة الغذاء، كما هو منصوص عليه بالعقد، وإنما وجبة عشاء واحدة مكونة من خمس محتويات واستراحة شاي، بينما يتضمن العقد أربع وجبات غذاء تحتوي على مكونات أخرى معدة لفائدة 1600 شخص. رئيس المجلس الأعلى للحسابات قال، في بلاغ رسمي، إن غرف المجلس أصدرت 181 قرارا قضائيا فيما يخص مادة التدقيق والبت في الحسابات، و15 قرارا في ميدان التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية. مؤكدا أن النيابة العامة لدى المحاكم المالية أحالت 114 متابعا على هذه المحاكم في ميدان التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية. كما أحال الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى للحسابات ثمانية 8 قضايا تتعلق بأفعال قد تستوجب عقوبة جنائية على رئاسة النيابة العامة. لكن قرارات المجلس لم تطفئ نار الغضب في صفوف الرأي العام، الذي يطالب بقرارات أقوى، بدل الميل إلى سياسة امتصاص الغضب. سعيد السالمي، أستاذ العلوم السياسية بفرنسا، علّق بالقول: “لقد أخرجوا صفارة جطو لتنفيس طنجرة الضغط، ونسوا أن الوعي السياسي لدى المغاربة سنة 2019 لم يعد كما كان سنة 2010 وما قبلها”. لكن هذه التوجه لا يتقاسمه الجميع، رشيد أوراز، محلل اقتصادي، يرى أن التقارير تحدث أثرها حتى في غياب متابعات قضائية، “لا يمكن أن ننفي التأثير الذي تحدثه تقارير المجلس الأعلى للحسابات رغم أنها لا تليها دائما متابعات قضائية”. وتابع: “فيما يخص التقرير الأخير مثلا، فقد كشف عمق الاختلالات التي تعرفها قطاعات حيوية بالنسبة إلى الاقتصاد الوطني، وهذا مهم جدا بالنسبة إلى المواطن المغربي ولا أرى أي مؤسسة أخرى قادرة على كشف هذه الاختلالات، ولو في إطار معرفة ما يجري ويدور في دواليب المسؤولية”. واعتبر أوراز أن “غياب متابعات قضائية للمسؤولين عن تبذير المال العام، لا يعني أنهم يفلتون من محاكمة الرأي العام الشعبي والوطني، وهذه مهمة جدا”. واقترح محمد براو، خبير في الحكامة الجيدة ومكافحة الفساد، أن تتولى الحكومة دراسة تقارير المجلس وترتب عليها جزاءات إدارية، وعلّق قائلا: “لا مناص من التوقف عند هذا التقرير في هذه الظرفية المغربية الاستثنائية من أجل توظيفه في تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، بعيدا عن البكائيات السنوية، وبعيدا عن مطاردة الساحرات، أو تحويل جميع المسؤولين إلى النيابة العامة”. وأضاف “اقتراحي بسيط؛ لتدرس الحكومة التقرير وتستخلص العبرة من خلال إعفاء جميع المسؤولين الذين ثبت في حقهم سوء تدبير إدارتهم وتقصيرهم في مهامهم، واستبدالهم بكفاءات جديدة”.