في كل ما قيل حول قضية الصحافية هاجر الريسوني، لم أستوعب شيئا واحدا، وهو كمية العنف الهائلة التي واجهت بها السلطة فتاة عزلاء من كل شيء، إلا قلمها. إن من يقرأ محاضر الشرطة القضائية لا شك سيلحظ أن ما تعرضت له هاجر الريسوني وخطيبها، يوم السبت 31 غشت الماضي، يشعر وكأن هاجر ضُبطت متلبّسة بالخيانة العظمى، أو أنها كانت على وشك أن تقود دبابة حربية لقصف المؤسسات والمنشآت الحيوية في هذه البلاد. لقد تعرضت هاجر للدهس بشكل لا يستوعبه العقل، حتى إن ما وقع ليبعث على التساؤل: هل يمكن للدولة أن تحقد على أبنائها؟ يبدو لي أن كمية العنف المادي والرمزي التي واجهت بها أجهزة الدولة المواطنة هاجر الريسوني، تدعو إلى التفكير جديا في ذلك. لأن ما حدث يناقض كل التصورات الثابتة حول عقل الدولة عندنا، ففي كثير من النصوص السياسية طالما كنا نقرأ أن عقل دولتنا هو نموذج للحكمة والعقلانية في المنطقة. وفي آخر حوار لي مع الأستاذ عبدالله ساعف لهذه الجريدة قبل شهر، أكد على الطرح عينه، فالشخصية المغربية في تصوره تتميز بخصائص منها؛ التأني، الحذر، البرغماتية، وهي صفات ضد الانفعال والتوتر، وضد التهور وروح المغامرة، مشيرا إلى أن تلك الصفات هي التي تفسر الجانب التقليداني في شخصيتنا الجماعية. أما الأستاذ حسن أوريد، فقد كتب في نصوص سياسية وأدبية عديدة مدافعا عن النموذج الأندلسي، مؤكدا أن المغرب استطاع التوفيق بين العقل والتقاليد لأنه الوريث الشرعي لذلك النموذج. بيد أن المتتبع لسلوك السلطة، سواء في قضية هاجر الريسوني أو توفيق بوعشرين أو غيرهما، يلحظ بوضوح سيطرة صفات الانفعال، والتوتر، وحتى التشفي على سلوكها وتبريراتها، ما يجعله سلوكا أبعد ما يكون عن الحكمة والعقل، أو مراعاة التقاليد والأخلاق، ولا حتى مراعاة حالة صحافية شابة هشة، تبحث عن عيش آمن في ظروف صعبة. لقد تصرف المقرر في هذا النازلة استجابة لمشاعر، لا يبدو أنها تمت لمنطق الدولة بصلة، والراجح أنها مشاعر غلبت منطق المؤسسة، فانجرفت هذه الأخيرة وراء روح الانتقام، أقصد بوضوح الانتقام من جريدة (أخبار اليوم)، ومن عائلة (آل الريسوني)، ومن فتاة محبة للحياة، فكان قرار التوقيف والاعتقال أشبه ما يكون بحالة دهس تسبب فيها ثور هائج. إننا إزاء سلوك سلطوي لم يكن معهودا حتى في ما يُعرف بسنوات الرصاص؛ ففي زمن الملك الراحل، الحسن الثاني، ووزيره في الداخلية إدريس البصري، لم يثبت استعمال سلاح الأخلاق في طحن السياسيين أو الصحافيين وغيرهم، وقد كانوا معارضين عن حق، قولا وفعلا. لا يعني ذلك أن الأجهزة لم تكن تراقب كل صغيرة وكبيرة في الحياة الخاصة والعامة للمعارضين، ولكن لأن رجال الدولة وقتها كانوا يأنفون من استعمال الحياة الخاصة علانية في صراع سياسي مفتوح حول السلطة، ويفضلون المواجهة الشريفة التي تحفظ للخصم كرامته على الأقل. لكن، يبدو أننا اليوم أمام مقاربة أخرى، فمن خلال الوقائع المتتالية التي تم خلالها استهداف سياسيين، وصحافيين، وحقوقيين، يظهر أن هناك من جعل من سلاح الأخلاق سياسة ممنهجة في مواجهة الخصوم، سواء أكانوا علمانيين أو إسلاميين أو غيرهم، والسبب الراجح وراء ذلك، أن من بيدهم السلطة اليوم، لم يعد بيدهم ما يواجهون به خصومهم، سوى تعرية عوراتهم على الناس، ولذلك كلما عثروا على حالة هنا أو هناك، إلا وسارعوا إلى استغلالها أبشع استغلال، وذلك هو ما حدث لهاجر، وقبلها بوعشرين ونادية ياسين وآمنة ماء العينين وأحمد عصيد والمعطي المنجب وغيرهم. في ظل سلطة من هذه النوع، لا قيمة للقوانين والأخلاق والأعراف، لأن الاحتكام إلى القانون معناه الاحتكام إلى العقل، والبعض حين يتعلق الأمر بالانتقام من الخصوم يفقدون عقلهم، فتنتصر عليهم شهوة الحقد وروح التشفي، وهاجر ضحية لهذه الروح الشيطانية. وليس القانون، في هذا الصدد، سوى أداة يمكن تطويعه مهما كان تقدميا، ولو كان القانون يردعهم، لاستمعوا قبل ذلك إلى صوت الضمير والأخلاق التي تحث على مراعاة الشرف والكرامة التي قصدوا الدوس عليها عمدا.