«الحصول على الباكالوريا، وولوج الجامعة، ليس امتيازا، ولا يشكل سوى مرحلة في التعليم. وإنما الأهم هو الحصول على تكوين، يفتح آفاق الاندماج المهني، والاستقرار الاجتماعي»، هذه واحدة من الفقرات القوية في الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب لهذا العام. إنه إعلان رسمي عن أن الباكالوريا وبعدها الجامعة ما عادتا تضمنان، كما كانتا تفعلان من قبل، «الاندماج المهني»، ومن ثم «الاستقرار الاجتماعي». لقد سقطت الباكالوريا في الامتحان! سقطت الشهادة العتيدة في امتحان كانت ناجحة فيه من قبل. في ماضٍ بعيد عنا بعقود، كان «انتزاعها» كافيا لولوج سلك مراكز تكوين الأساتذة أو شغل مناصب بإدارات الدولة. ثم مع ارتفاع نسبة الحاصلين عليها مقابل تقلّص مناصب الشغل، صار الحصول على الباكالوريا غير كافٍ. بدأت المؤسسات تشترط شهادات أعلى لتوازن بين الطلب والعرض. ثم ما عادت هذه الشهادات العليا نفسها صالحة لشيء، وانقلبت المعادلة كما تقتضي تقلبات قانون العرض والطلب.. غير أن الفقرة أعلاه التي وردت في خطاب الملك في سياق تأكيده على «أهمية التكوين المهني في تأهيل الشباب، وخاصة في القرى، وضواحي المدن، للاندماج المنتج في سوق الشغل» تضعنا أمام أسئلة أعمق وأكبر. الولوج إلى الجامعة لم يعد امتيازا. هذا أمر واقع. معظم المحاولات التي سعت إلى استعادة «امتياز» التعليم الجامعي ورمزية الباكالوريا فشلت. لم ينجح أي إصلاح في قدح شعلة التعليم منذ انطفأت لأسباب مركبة. هنا نبقى أمام خيارين واحد سياسي وآخر فكري. واحد معني بتدبير الأزمة الآنية وحل الإشكاليات المُعاشة والثاني بأثر هذه الحلول على تطور الدولة ونسيجها الاجتماعي في المستقبل. الاتجاه السياسي يبحث عن حل أزمة التشغيل، ومن ثم دعم أسس الاستقرار وأسباب الرخاء، والاتجاه الفكري يتوجس من انعكاسات هذا التوجه على المجتمع، يخشى خلق فئات متفاوتة الحظوظ، فئة تحكم وفئة تخدم. والاتجاهان ظاهرة عالمية. ففي الحقيقة من يشجع التكوين المهني هو سوق الشغل العالمي النيوليبرالي التوجه، الذي يبحث عن يد عاملة رخيصة بمهارات تلائم حاجياته وتحافظ على أرباحه المرتفعة. يقدم حلا عمليا لأزمة البطالة باستيعاب أعداد واسعة من الحاصلين على تكوينات مهنية. حل عملي، لكنه ناقص بالنظر إلى ظروف العمل القاسية والأجور المتدنية وإمكانات الترقي المحدودة التي يتيحها. وهذا، للأسف، هو الاتجاه العالمي. فالفصل في التكوين بين المسارات الأكاديمية والمهنية الحرفية معمول في عدة دول ديمقراطية ومتقدمة استجابة لمتطلبات الشركات التي تفرض شروطها على الكل. الفرق قد يكون في أنظمة الحماية الاجتماعية والبيئة القانونية والسياسية والحقوقية التي تضمن حقوقا أكبر للعمال المتخرجين من مراكز التكوين المهني في تلك الدول. لكن على مستوى انعكاس هذه السياسة على محددات الطبقة الاجتماعية للجماعات، فتلك «ضريبة» تتساوى فيها كل المجتمعات. لأن القضية مركبة فعلا. الدولة تبحث عن حل أزمة الشغل لأعداد كبيرة من الأشخاص محدودي الكفاءة قياسا إلى الوظائف التي تؤهل لها الشهادات الجامعية أو الفرص المتوفرة من هذه الوظائف أو حالة الجامعة والتعليم العاجز عن مسايرة متطلبات الشركات، والشركات تبحث عن يد عاملة تنجز مهاما لا تحتاج إلى شهادات جامعية ومسارات علمية معقدة، وإنما مهارة تقنية وتقدم عرضا وفيرا من هذا النوع من الوظائف. المدرسة المغربية على أعطابها تنتج متفوقين يحصلون كل سنة على الباكالوريا بنقاط مبهرة ويلتحقون بالجامعات والمعاهد في تخصصات شتى وكثير منهم يحصلون على وظائف ومناصب تناسب شهاداتهم، لكنها تنتج، أيضا، وبأعداد أكبر طلبة ضعاف التكوين يلتحقون بالجامعة لأسباب رمزية أكثر منها واقعية ويحصلون على الشهادة بشق الأنفس، وما إن يحصلوا عليها حتى يطالبوا الدولة بإدماجهم وتوظيفهم. في حال قبلت الدولة بذلك، فهذا يعني توظيف سواعد مكسورة تماما وزيادة العطب الهيكلي، وفي حال رفضت، فهذا يعني عدم توظيف «حملة الشهادات العليا». ويا له من إثم عظيم! لذا، ففصل الطلبة في مراحل تعليمية مبكرة إلى أحد المسارين وبناء على نتائجهم إما باتجاه التكوين المهني، وإما التكوين الأكاديمي قد يصلح لتلافي الوصول إلى هذا الواقع. طبعا، ليس دون آثار جانبية.. قد يكون حل الإشكال الذي يطرحه هذا الفصل – الذي يقترب من «شر لا بد منه»- في تجاوز التقسيم النفسي والاجتماعي للمهن والوظائف بين دنيا وعليا، وذلك عبر تقريب ومعادلة الشواهد المتحصّلة من كل مسار، وإدماج مواد من كل مسار في الآخر، وتقريب سلم الأجور وتعزيز الرعاية الاجتماعية والأمان الوظيفي وتخفيض ساعات العمل والتحلي بطموح واقعي وواقعية طموحة أيضا.