ماذا يجب على كتاب الرواية السياسية أن يفعلوه كي يصبحوا أكثر إثارة للاهتمام؟ هذا الفن ليس سهلا، فهو يحمل رسالته في ذاته. رسالة ممتعة بقدر ما هي خطرة. في هذه السلسلة، يحاول الكاتب أن يؤسس لتصور حول مشروع للطريقة التي ينبغي أن تكون عليها الرواية السياسية. …فهم يرون أنهم يعيشون نمط الحياة العصرية، حياة بلا مسؤوليات خالية من المشاكل والتعقيدات، ودائما ما يسعون إلى الخوض والاستغراق في هذه الحياة، حياة اللهو والشيشة والجنس. ولا تخلو حواراتهم ومناقشاتهم وثرثرتهم من نبرات السخرية اللاذعة والتهكم من كل ما يجري في الواقع، مما يدل على مواقفهم التي تتميز بالسلبية واللامبالاة بكل ما يحدث من حولهم، ويحاول نجيب محفوظ التعبير عن رأيه في هؤلاء المثقفين، من خلال نموذج الصحفية الشابة سمارة بهجت، والتي أتت إلى هذه العوامة للبحث عن مادة مناسبة لمسرحيتها الجديدة، وسرعان ما أدركت سمارة أن أفراد هذه العوامة ما هم إلا أناس بلا عقيدة ولا فكر ولا رأي، وللأسف فإن هذه المجموعة من الناس لا يمثلون ظاهرة استثنائية أو نادرة، وإنما يوجد الكثير ممن يشبهونهم في المجتمع، بل ومما يعملون معها، وقد لخصت سمارة بهجت كل ملاحظاتها في الرواية في هذه العبارة: “الواحد منهم ذو مظهر براق بالثقافة وباطن أجوف متداع تفوح منه التعاسة والنتانة” (الرواية ص112). فهي ترى أن هؤلاء يعيشون بلا عقيدة ولا مبادئ ولا خلق ولا يتورعون عن ارتكاب جريمة إذا أمنوا العقاب، يقضون أوقاتهم في العبث لينسوا أنهم سيتحولون بعد قليل إلى رماد وعظام، ويرهقهم في ذات الوقت أن الحياة اليومية تفرض عليهم ألوانا من الجدية الحادة التي لا معنى لها… أمثال هؤلاء لا يعملون ولا يتطورن، ويعلق محفوظ الكثير من الآمال على سمارة بهجت الصحفية الشابة الجادة المثقفة، فقد أتت من الشاطئ الذي يمثل عالم الواقع إلى العوامة التي تمثل العالم الخاص المنعزل عن ذلك الواقع، أتت محاولة أن تجذب أفراد العوامة إليها وتدعم موقفها الإيجابي وتغير من آرائهم في الحياة، ولكنها تنتمي بدورها إلى هذه الطبقة المثقفة التي تحمل بداخلها الكثير من الانحلال والفساد، وتفشل سمارة بهجت بخبراتها القليلة أن تحقق هدفها، ومن هنا انقطع آخر أمل في ربط هذه العوامة، أي هؤلاء المثقفين بالشاطئ، أي بالعالم الخارجي. وفي المرة الوحيدة التي حاولوا فيها الخروج إلى الواقع والاتصال بالعالم الخارجي ارتكبوا حادثة رهيبة في شارع الهرم، حيث صدموا ليلا مصادفة إحدى الفلاحات، وأردوها قتيلة وقد فجرت هذه الحادثة بينهم مصادمات وتباين آراء حول مصيرها، هل ينقذونها أم لا؟ هل يعترفون بخطيئتهم أم لا؟ ومما لا يدع مجالا للشك في سلبية مسؤوليتهم بإزاء الحياة وإزاء الآخرين واستهانتهم بالإنسان ككائن حي، وكقيمة عليا، قرروا الفرار كناية عن فرارهم كمثقفين سلبيين من الواقع، وعدم قدرتهم على تغييره نحو الأحسن، فهم في النهاية أشباه المثقفين. ونجد لدى المؤرخ المغربي هم رصد إخفاقات المثقف، وتعثرات مشروع الدولة الوطنية ما بعد الاستعمارية، فهو في كتاباته منذ السبعينيات من القرن الماضي يحاول رصد هذه الإخفاقات، لاسيما مع بروز التغييرات في العديد من مفاهيم السياسة الأساسية، ومنها مفهومي الدولة والمثقف. وأبرز أشكال إخفاق المثقف في العالم العربي، الإخفاق في الاضطلاع بالمهمات التاريخية، لكون المثقف العربي لم يتمكن من المساهمة في بناء ثقافة عصرية تسعف في مواجهة العصر الحالي بتحدياته، رغم بروز الكثير من مفاهيم الحداثة والتحديث في إطار الدولة الحديثة. وكأن المثقف العربي يخوض نوعا من الإضراب الطوعي عن قول ما ينبغي قوله، أو الاضطلاع بدوره الأساسي في مجتمعات تعاني الكثير من الاضطرابات، وتتعايش مع ثالوث الفقر الاقتصادي والفقر الفكري والفقر الاجتماعي. ويعبّر العروي عن كل هذه الأفكار بشكل صريح في حوار صحفي معه، يقول فيه: ” أنا لدي موقف يرفضه الكثيرون، وهو أنني أحمل أغلبية المسؤولية للمثقف الحر الذي له إمكانية الجهر بمعتقداته السياسية. لكنه وللأسف في غالب الأحيان لا يفعل ذلك. فلننظر إلى المثقف المرتد.. لماذا أقول المرتد، لأنه يدافع عن ما يسمى الفكر الحر أو الحداثة، لكنه لأسباب كثيرة منها الإغراء المادي قد يدافع عن غير ذلك، وهذا واقع المثقف العربي منذ أكثر من ثلاثين سنة”. وحول جدل الثقافي والسياسي، يرى العروي بأن الإصلاح الثقافي سابق عن الإصلاح السياسي، على اعتبار أن المنظومة الثقافية هي التي تحدد القيم المعيارية الموجّهة للمنظومة السياسية. ورواية “أوراق” تجسيد لأزمة المثقف العربي، من خلال أزمة بطلها “إدريس”، باعتباره يمثل جيلا بأكمله، وهو الجيل الذي كان يطمح إلى الاستقلال والتحرر من كل أشكال التبعية للغرب، وفي الوقت ذاته ينجذب وجدانيا لهذه الحضارة الغربية ومفاهيمها العقلانية… وللهوية الإسلامية. وهكذا يتم تُمَثل مكتسبات الحضارة الغربية وقيمها السياسية والثقافية والعلمية والتقنية، والعمل على تكييفها مع المعطيات الوطنية والقومية عبر التسلح منهجيا بالوعي التاريخي أو التاريخاني. ولعل هذه الأزمة تتمثل في التشويش الحاصل في المرجعية الفكرية والعلمية، والنابعة أساسا من التراث الأدبي والعلمي والفلسفي للغرب، الشيء الذي يؤدي إلى الازدواجية بين النهل من الغرب ومعاداته كقوة استعمارية استعبادية لشعبه. من أهم تلك المواقف التي ثار ضدها إدريس بوصفه مثقفا أصيلا يناضل من أجل وطنه؛ موقفه من إدريس الشرايبي الذي ألف رواية بعنوان (الماضي البسيط)، فاستغلتها فرنسا لتبرير سياستها الرجعية. كما اعتمدت على محتواها لتقول إن الوطنية حركة تمثل مطامع ومصالح الطبقة البرجوازية المغربية، فرد عليه إدريس في مقالة ردا عنيفا ينكر عليه مغربيته التي يدعيها. يقول: “تقول إنك مغربي. ولكنك مغربي من نوع خاص، منخدع، متهافت، منحط. إنك لا تمثلنا في شيء. أسرد. حلل اشرح. صور. مهما تفعل إنك لا تصور إلا ذاتك، بئس أنت، لا فائدة من عملك ولا نفع. تتزين ليحبك الأجنبي الذي لا يهوى سوى الأمور الغربية الشاذة الخلابة التي تكرس أوهامه عنا. كنت تفرح لو استطعت إلحاق الضرر بنا. نشر الخوف والشك بيننا. هيهات كيف يشك الفلاح أن الأرض تحت قدميه والسماء فوق رأسه؟ تقول إنك تتحاشى السياسة لأنها لا تمس سوى القشور” (رواية أوراق ص23).