عندما يعجز المرء عن فعل شيء إزاء نهايته، فإنه يصدر كومة من الهذيان. ينصح المشرفون على مثل هذه الحالات قائلين: لا تلتفتوا إليه. إن المصالحة كما يُروجها إدريس لشكر، في هذه الأثناء، ليست أكثر من هلوسة، وقد أضيف إليها الهوس الجنوني بوجود أمل في النجاة. لماذا هي هلوسة؟ لشكر لم يفعل، طيلة سبع سنوات من إدارته دفة قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي، سوى دفع هذا الكيان نحو الغرق. أسوأ النتائج المحققة على الصعيد الانتخابي كانت في عهده، حتى إن الرجل لم يرف له جفن وهو يقضي على ذلك الاستقرار الإيجابي ما بين 2007 و2011. هوى الحزب إلى أسفل الترتيب بالشكل المرعب كما حدث في 2016، دون أن يشعر لشكر بوجود مشكلة. قضى على معارضيه الواحد تلو الآخر دون شعور بأي وخز في الضمير. لاحق شخصيات صنعت الحزب جدارا جدارا، وأقفل أبواب مقرات حزبه دونها. حدث ذلك فقط في السنتين الماضيتين. ولقد شكل مكتبا سياسيا دون رائحة على شكل طاقم من الموظفين المساعدين، حتى لا يزعجه أحد برأي. الشهادات التي يرويها الأشخاص الذين كانوا يشيدون الحزب بالدم كما العرق، قبل أن يُرمى بهم على قارعة الطريق كأنهم زوائد بشرية، تستحق وحدها أن تُشكل إدانة سياسية. لكن يمكنكم أن تسألوا عن مصير أولئك الذين حاولوا إدانة لشكر. الشعور بالندم عنده ضعف غير لائق، والمراجعات مجرد اضطراب سيكولوجي. المصالحة، عكس ذلك، مفردة سياسية مغرية، فهي بقدر شفافيتها، فإنها أيضا تقبل التمطيط. وفي معجم إدريس، يمكن أن تتحول المصالحة إلى نقيضها دون أي إحساس بالحرج. الحشود التي تظهر مستسلمة داخل المقر الرئيس للحزب هذه الأيام، وأعناقها تشرئب إلى الزعيم وهو ينثر أبياتا كئيبة حول المصالحة، لا تشعر، في غالب الأحوال، بأن القضية جدية. إن أفضل ما سيحصلون عليه سيكون فرصة قصيرة للكلام، ثم عفو شامل. يشبه ذلك وضعا يكون فيه ديكتاتور مغلوب على أمره بالكاد يستطيع السيطرة على شيء في بلاده، ثم يقدم لرعاياه «هدية» المصالحة على شكل إعانات اجتماعية إضافية. في كل تلك المشاهد الأخيرة، ينتهي الزعيم على مقعد طائرة تحلق مبكرا وخفية، خارج البلاد، أو في غرفة سجن. لا تتحقق المصالحة بوجود ديكتاتور لا يرى خطأ في ما فعله. أن يتنحى لشكر ليس قضية ذات نفع كذلك، فأن يفعل ذلك ليس معناه العثور على مصل لمعالجة أمراض حزبه سيشفيه مما أصابه طيلة هذه السنين. في كل الأحوال، لم يعد الاتحاد الاشتراكي قادرا على المشي بطريقة مختلفة عما هو عليه الآن. لقد نسي، تحت وطأة سنين مدمرة، طريقته القديمة في المشي، وإذا رحل لشكر، فإن النتيجة لن تتغير. بحفنة مقاعد في البرلمان، وبضعة وزراء لا يفعلون شيئا ذا بال، لا يستطيع لشكر زحزحة الاتحاد الاشتراكي شبرًا. عليه أولا أن يحصل على الموافقة. حتى الآن، مازال يلاحق أعضاء بحزبه في المحاكم فقط لأنهم رفضوا تعليماته بأن يتحالفوا مع حزب التجمع الوطني للأحرار في بعض الجماعات. يمكننا تخيل ما كان سيحدث لحزب الاتحاد الاشتراكي بعد أكتوبر 2016، لو لم تمتد إليه تلك «اليد الرحيمة» لأخنوش. كل ما يمتلكه حاليا هو في الحقيقة ليس سوى كراء في الباطن. الملكيات جميعها في محفظة التجمع الوطني للأحرار. لم يكن على لشكر سوى أن يُومئ برأسه موافقا على كل ما يُملى عليه ويحصل عليه. لا يمكن، بأي حال، أن تُترك كلمات لشكر تتسلل إلى العقول. الخطاب انفصامي، والقلب، وإن خفق يسارا، فهو لا يحتمل سرعة «دق» الوتد على كل ما كان يمثله الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. كل ما بقي لنا الآن هو «قوات مساعدة» لحزب آخر يحاول شق البحر عنوة بعصاه. والحق أن لشكر كان واقعيا، فالحزب وقد خلا من أهله، لم يعد يصلح سوى ليكون صكا للمقايضة. فعلها مع حزب الأصالة والمعاصرة، ثم تكيف، بشكل أفضل، مع حزب التجمع الوطني للأحرار. حماية الأقليات باتت التسمية الكاريكاتورية لهذه العملية التجارية. لم تشعر أقلية سياسية يوما بضرورة أن يحميها أحد غير نفسها. لكن بعض المفاهيم تغيرت، فالتقدم والاشتراكية يحميه حزب العدالة والتنمية، ولا بأس أن يطلب الاتحاد الاشتراكي حماية من أخنوش أيضا. هاجس الانقراض يدفع إلى أشياء جنونية لضمان البقاء. هذه وقائع غير مُتخيلة، ويمكن المقاومين الذين مازال لديهم أمل في تغيير شيء داخل الاتحاد الاشتراكي أن يشعروا بالفخر، ليس لأن بمقدورهم فعل ذلك، ولكن لأنهم أشخاص صبورون، كما هم جاهزون للهلاك في سبيل لا شيء. لن يتذكر أحد ما سيفعلونه، وفي الغالب، لن يجد أي تقدير. سيكون ذلك مصير كل هذه الدعاوى المتطايرة لتعديل الدستور. إن لشكر وهو يتعهد بأن يُغير المشروع السياسي لحزبه، ربما لكي يطمر ميراثه بشكل نهائي، ليست لديه فائدة من وراء تعديل الفصل 47 من الدستور على كل حال. إن تدحرجه نحو الأسفل لن يتوقف. لكن «الأحرار» يريدون تغييره؛ إذن، ليست هناك مشكلة في أن يطلب لشكر ذلك أيضا، ومعه أيضا «زيادة في حجم الدعم العمومي للأحزاب»، وهي ليست سوى المكافئ الغارق في اللغو المعياري للعبارة البشرية ذات العمق اليساري: «نريد زيادة في الأجر كذلك».