يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما، ولد سنة 1952، عالم وفيلسوف وأستاذ جامعي أمريكي، كان قبل ثلاثة عقود زلزل العالم السياسي بأفكاره التي ضمنها في كتابه «نهاية التاريخ»، لكن صدق توقعاته تطرح أكثر من سؤال اليوم، لهذا أصدر هذه السنة كتابا جديدا تحت عنوان: «الهوية»، حيث يحلل التحديات الجديدة التي تواجه العالم اليوم. كم مرة سئلت فيها إن كنت لازلت متشبثا بالأفكار عينها التي عبرت عنها في كتاب: «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» (1992)؟ عمليا، في كل لقاء وفي كل مرة يحدث فيها حدث سياسي معين في العالم، إلا وأتلقى الأسئلة عينها. لقد استسلمت لذلك، غير أنه في الكتاب استشرفت صعود شخصية مثل دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي، واستعملت بعض المفاهيم الأساسية التي تصف الانتقال الحالي من السياسة إلى الهوية. لذا، بطريقة أو بأخرى، كنت أتوقع بعض الأشياء التي حدثت مؤخرا. في الكتاب السالف الذكر كنت سلطت الضوء على خطرين داهمين وهما: القومية والدين. هل أصبح هذان العنصران أكثر أهمية مما كنت تظنه قبل 30 عاما؟ الشيء الذي فاجأني حقيقة أكثر، هو ما حدث في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وفي المملكة المتحدة، وفي بعض الدول التي كانت تعتبر أنموذجا للديمقراطية. لم يفاجئني أن تسلك بولونيا والمجر هذا الاتجاه (أي القومية المنكفئة على نفسها)، لكن أن يختار الناخبون الأمريكيون شخصا مثل ترامب، فهذا ما لم يكن متوقعا. في الحقيقة، فاجأني تصاعد الحركات الشعبوية في الديمقراطية الراسخة. ثم إن هذا الأمر يشكل خطرا على الديمقراطية الليبرالية التي أبدعناها. إنها ظاهرة كونية، بعيدا عن أجندة القرن العشرين، انتقلت من النضال من أجل قضايا اقتصادية إلى أخرى تتأسس على الهوية. إنها حركات مقلقة، حيث يستعمل السياسيون الشرعية الديمقرطية للهجوم على الجوانب الليبرالية في النظام، مثل الدستور والمؤسسات… فكرة سياسة الهوية تمزج قضايا مختلفة جدا: القومية والنسوانية وفلادمير بوتين والحركة الإفريقية في المجتمع الأمريكي (حياة السود مهمة)… ما يجمع بينها هو نوع من السيكولوجية. من وجهة نظري، تقوم الهوية على الإحساس الذي لدينا جميعا حول «أنا» داخلية لديها نوع من الكرامة والقيمة. ونريد أن يعترف لنا الناس بهذه الكرامة. الآن، من البديهي أن التقييم الأخلاقي لهذه الحركات مختلف جدا. يجب الاعتراف بأن حركتي «حياة السود مهمة» و»أنا أيضا (MeToo)»، هي تحصيل حاصل لظلم اجتماعي معيش؛ فيما روسيا بوتين حالة مختلفة، إنها عدوانية، لأن تصورها للأمة يعني الهيمنة على بلدان أخرى مجاورة لها. وهذا غير شرعي. هذه الحركات غير متشابهة أخلاقيا، لكن يوحدها الشعور بالكرامة الناقصة. لكن الاختلاف، أيضا، هو أن النسوانية وحركات مثل «حياة السود مهمة» تسعى فقط إلى تجاوز الهوية، أي أن يتساوى الأبيض والأسود في أمريكا، وتحقيق المساواة بين الرجال والنساء.. هذه هي نقطة انطلاق الكثير من الحركات الهوياتية التقدمية، مثل الحركة الأصلية من أجل الحقوق المدنية، لكن الكثير منها ينتهي بها المطاف إلى القبول بأن تحدد الجماعة الهوياتية شرعيتها ومواقفها السياسية. مثلا، في الكثير من الجامعات إن كنت أبيض البشرة لا يمكنك الخوض في بعض القضايا، بكل بساطة، لأن طريقة ولادتك تحدد شرعيتك أثناء التعبير عن رأيك. إنها طريقة خاطئة في تأويل الهوية. تجربتك الخاصة تصبح مهمة عند تحديد من أنت، إذ يصبح من الصعب تشكيل مجتمع مع أشخاص مختلفين عنك. هذا هو المستوى الذي تصبح فيه الهوية إشكالية. ألا تعتقد أن الهوية تُشكل من الخارج؟ مثلا، تحكي الكاتبة النيجيرية «تشيماماندا نغوزي أديتشي», أنها لم تشعر أنها سمراء حتى انتقلت إلى العيش في الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث عُومِلت معاملة مختلفة عن البيض.. نعم، المجتمع هو الذي يصنفك من الخارج كعضو في مجموعة، لكن في بعض المرات تصنف نفسك بنفسك وتفكر أنك مختلف. جيد، كلنا لدينا هويات خاصة، لكن في الديمقراطية من المهم، كذلك، أن يكون هناك حس المجتمع، لأنه من الواجب أن تشارك في النظام السياسي الديمقراطي؛ وإذا أحسست أن لا علاقة لك مع بقية الأشخاص بسبب هذه الاختلافات، المرتبطة بالعرق والدين والنوع، فإن ذلك سيخلق لا محالة مشكلة للديمقراطية. هل يمكن لديمقراطية حقيقية، مع مساواة كاملة، أن تقضي على الهوية؟ لا أعتقد ذلك، الهوية نابعة من التجارب المشتركة، ولا توجد في العالم ديمقراطية تستوعب كل التجارب المشتركة، لهذا، لا أظن أن ذلك مرغوبا فيه. التنوع متأصل في المجتمع ويتطور. هل تعتقد أن هناك مستوى يصل فيه المرء إلى التوقف عن النضال من أجل حقه في أن يكون مثل الآخرين، بحيث يبدأ في الاعتراف أنه استثناء. هل يمكن أن تعطينا مثالا على ذلك؟ الحركة الإفريقية الأمريكية الحقيقية تريد المساواة، وجعل المجتمع يقبل بها، لكن هناك جهات نافذة في الحركة تقول: «لا. الحقيقة هي أننا نحن السود لا نريد أن نكون مثل الآخرين، لدينا ثقافتنا الخاصة، وتصورنا الخاص للعالم، ونريد أن يتم الاعتراف بنا كمجموعة». الاعتراف بالمجموعة يصبح إشكاليا عندما يتأسس على مبادئ غير ديمقراطية. هذا واحد من الأسباب التي جعلت الإسلام مثيرا للجدل. الجاليات المسلمة الأكثر محافظة لا تتعامل مع المثليين، والنساء، واليهود، بالقدر من المساواة والاحترام اللذين يطلبهما المجتمع. هذا النوع من الثقافة يتناقض مع المبادئ الأساسية للمجتمع العام. كان المنظر السياسي «صامويل هنتنغتون» يقول إن اللاتينيين يواجهون صعوبات في الاندماج في الولاياتالمتحدة أكثر من المهاجرين الآخرين بسبب افتقارهم إلى الثقافة الأنغلوسكسونية. هل تعتقد أن الشيء ذاته ينطبق اليوم على المسلمين؟ إنها واحدة من تلك المحادثات الصعبة التي أعتقد أنها ضرورية اليوم. كان هنتنغتون مخطئًا في توصيف اللاتينيين، لأنهم ليسوا مختلفين ثقافياً عن الأنغلوسكسونيين، وأعتقد أنه سيتم استيعابهم في المجتمع الأمريكي. من جهة أخرى، المشكلة ليست في الإسلام في حد ذاته، المشكل في أوروبا يكمن في التأويل المحافظ المتشدد للإسلام المدعوم بالكثير من المال من المملكة العربية السعودية. هذه هي المشكلة التي تطرحها جماعات موازية لا تريد الاندماج. في كتابك الجديد «الهوية» تضرب المثل بالمسلمين الذين يرفضون دروسا حول المثلية في المدارس أو لا يقبلون تقديم المساعدة لهم من قبل الممرضات والطبيبات.. هذا غير مقبول. يجب ألا يمتد احترام التنوع الثقافي إلى الممارسات الثقافية التي تتعارض مع المبادئ الأساسية لديمقراطيتك، والتي من بينهما مبدأ المساواة بين النساء والرجال، واحترام حقوق المثليين. لا يمكنك تقليص هذه الحقوق احتراما لثقافة لا تحب هذه الحقوق. وما الذي يمكن أن تتعلمه أوروبا من أمريكا في مجال الهجرة؟ وما الذي يجب عليها تجنبه مهما كلف ذلك من ثمن؟ الشيء الجيد الذي قامت به أمريكا هو خلق هوية وطنية لا علاقة لها بالعرق والإثنية. وهذا لم يكن متاحا قبل عقود، حيث كانت حقوق الأفارقة مهضومة، كان نضالا طويلا تطلب حربا أهلية، أعقب ذلك 100 سنة من الانقسام… هذا هو ما تحتاجه أوروبا؛ هوية مدنية حيث يمكن لأي مسلم في إيطاليا أو ألمانيا أن يعتبر نفسه إيطاليا أو ألمانيا، لكن هذه المفاهيم أصحبت اليوم مرتبطة بإثنية. الخطأ الذي قمنا به في أمريكا هو أننا دخلنا في حالة من التقاطب في قضية الهجرة، إذ لسنا قادرين على معالجة أكبر مشكلة نواجهها. ويجب الإقرار بأن الديمقراطيات تستفيد من الهجرة، لكن يجب أن تستفيد من هجرة مراقَبَة، وهذا لا نقوم به بشكل جيد في الولاياتالمتحدةالأمريكية. لننتقل إلى موضوع آخر، عندما يتم تحليل التصويت لصالح الرئيس البرازيلي الجديد، بولسونارو أو سالفيني في إيطاليا، يتم الحديث عن «صوت الغضب». ألا يمكن اعتباره، كذلك، صوت الكراهية؟ في نظري لا يجب الخلط بين الأمرين. هناك عنصريون، لكن ليس كل المصوتين للأحزاب الشعبوية عنصريين أو معادين للأجانب، والتقدميون لم يحسنوا في الكثير من المرات قراءة ما يجري. هل ترى أن وسائل الإعلام تساهم في بروز الحركات الشعبوية؟ لا أعتقد أنها تتسبب في إحداث مشكلة. لكن المشكلة في الحقيقة تتركز بالأساس في التغيير الاقتصادي والاضطرابات الاجتماعية المتنامية، ثم إن ما يشحذ، فعلا، الجانب الهوياتي هو شبكات التواصل الاجتماعي، لأنها منصات تتكيف تماما مع سياسات الهوية، حيث يمكنك التحدث إلى أشخاص من جميع أنحاء العالم، ممن يشبهونك تمامًا، ويصرخون في وجه الذين يفكرون بطرق مختلفة. إنه التأثير السلبي للتكنولوجيا. «لاري دايموند»، عالم السياسة، يتحدث عن ركود ديمقراطي عالمي. ما هو توقعك لمستقبل الديمقراطية في السنوات المقبلة؟ ليتني كنت أعرف. لكن السؤال العريض هو ما إذا كان هذا مجرد ركود وسنتعافى منه، أو ما إذا كنا سنشهد ركودًا طويل المدى. أنا متفائل، بشكل عام، لأنني لا أرى بديلاً حقيقياً أكثر جاذبية من الديمقراطية الليبرالية، ثم إنني لا أعتقد أن الناس ستتبنى قريبًا نموذجًا مثل النموذج الصيني. فيكتور أوربان (Viktor Orbán) يواجه العديد من المشكلات مع هذا النظام غير الليبرالي الذي يريد إنشاءه. كما أستشرف أن بعض السياسات الشعبوية ستحدث كوارث حقيقية، مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فإذا ما تكرس خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، فسيكون ذلك فظيعًا بالنسبة إليها. استطاع مؤيدو «البريكسيت» حتى الآن من القول لناخبيهم إنهم سيكونون أفضل وهم خارج الاتحاد الأوروبي، لكن الناس سيرون أن هذا ليس هو الحل. يُقال إن الديمقراطية الليبرالية لازالت هي نظام الحكم الأفضل الذي نعرفه. ومع ذلك، ظهرت بمظهر هش على ما يبدو. هل تعتقد أن سقوط الشيوعية، وبالتالي غياب هذا الخصم، جعل النظام الديمقراطي الليبرالي يسوء؟ ليس سقوط الشيوعية، فحسب، بل، كذلك، السقوط الشامل والمدوي لليسار في جميع أنحاء أوروبا. لذلك لا يبدو أن هناك العديد من البدائل لليمين الوسط. ثم إن ما يحدث في الولاياتالمتحدةالأمريكية والمملكة المتحدة، هو إلى حد كبير نسخة من رأسمالية السوق الحرة غير المقيدة. الشركات الأمريكية مستعدة للضغط على عمالها مقابل كل سنت باستخدام هيمنتها على السوق. هذا صحيح، حتى مع رجال الأعمال ذوي الأفكار الليبرالية مثل Jeff Bezos في شركة «أمازون»، وهو أمر فظيع بالنسبة إلى عمالها. أعتقد أن السبب في ذلك هو أن الناس لا ترى بديلاً في يسار واقعي. (بتصرف عن «إلباييس»)