قال المفكر عبد الله العروي، في حوار صحافي، يعرف نفسه: «أنا روائي بالميول، وفيلسوف بالاستعداد، ومؤرخ بالضرورة». يعكس هذا التصريح موسوعية الرجل في المعرفة والكتابة. لكن قراءة أعماله الأدبية والفكرية تبرز ريادته في مجالات شتى: البحث التاريخي، والتأمل النظري، والإبداع الأدبي، والترجمة، الخ. في هذه الحوارات، نقدم هذا الفكر المتعدد، من خلال أسئلة نطرحها على كتاب ونقاد وباحثين، في محاولة لتفكيك منظوره الفكري المركب. وأحيانا تكون الثقافة ملازمة للتاريخ وكامنة فيه من حيث ظهور شخصيات قاعدية أو التأسيس لدول وامتدادها. وكم لفتتْ نظري، وعلى تواضعي، في كتاب أخير قرأته بعنوان: “تاريخ المغرب الأقصى من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال” (2019) المكانة التي يوليها صاحب العمل المفيد امْحمد جبرون للثقافة في التأريخ للتحوّلات الكبرى التي شهدها المغرب على مدار ثلاثة عشر قرنا. وهو يولي هذه الأهمية للثقافة لا كبنيات ومؤسسات وقوى إنتاج بخاصة في الحواضر السلطانية الكبرى لدى الدول الكبرى التي حكمت المغرب وإنما كركيزة ارتكزت عليها بعض هذه الدول على مستوى التشكل والامتداد وبما في ذلك الامتداد أو التوسّع الإمبراطوري. فالدولة الموحدية، مثلا، هزمت الدولة المرابطية ثقافيا قبل أن تهزمها عسكريا. وكما أن بناء بعض هذه الدول كان على أساس ثقافي أو ما يسمى اليوم “الإسلام الثقافي”. إجمالا تبدو خطاطة “الدولة المجتمع والثقافة” خطاطة قاعدية في العمل المشار إليه من قبل. وفيما يخص موقف العروي من الأنثروبولوجيا، فهو متداول أو مستقرّ عليه. ونحن لا يمكن لنا أن نطالب هذا المفكر أو ذاك بالتموقع في الأنثروبولوجيا أو أن نطالبه بالانكباب على هذا الموضوع دون ذاك. لا يمكن أن نحاسب محمد عابد الجابري على عدم إعطائه أهمية تذكر، في مشروع “نقد العقل العربي”، ل”ألف ليلة وليلة” أو أخبار الحمقى والمغفلين… بحجة أن نص الليالي لا يمكن القفز عليه بالنسبة إلى أي دارس للتراث. وكذلك لا يمكن أن نلزم المؤرّخ بالانكباب على دراسة الأسواق والزوايا والقبيلة والطرق واللهجات… إلخ. لكن هناك في مقابل ذلك يوجد مؤرّخون درسوا الموضوع (التاريخ الاجتماعي) بشكل رصين وغير مسبوق، ويمكنني أن أحيل هنا على أبحاث عبدالأحد السبتي، وبخاصة كتابه: “بين الزطاط وقاطع الطريق: أمن الطرق في مغرب ما قبل الاستقلال” (2009). علاوة على هذا الموضوع، فالكتاب دال على ثراء منهجي وتصوّري. وقد ينحصر الخلاف مع العروي في توصيفاته للمستودع البشري وفي تحقيره للأنثروبولوجيا، وطبعا ليس كل الأنثروبولوجيا لأنها فرضت ذاتها عليه في تعاطيه مع مواضيع محدّدة. يشيد المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، في كتابه: “الاستشراق”، بالعروي كونه العربي الوحيد الذي قارب إرث بعض المستشرقين. لكن لا يعتبره ناقدا ثقافيا، بل صاحب نظريات سياسية. ما رأيك؟ الظاهر أن إدوارد سعيد نادرا ما يحيل على المفكرين العرب، وسواء من الذين انتقدوه أو من الذين كان من المفروض أن يحاورهم، بل تحدّث في تذييل طبعة 1995 عما سمّاهم ب”النقاد العقائديين” في العالم العربي والهند. هذا مع أنه في الهند نوقشت أعماله بشكل لا يقارن مع العالم العربي الذي تحدّر منه إدوارد سعيد. إجمالا يشير إدوارد، في أهم كتبه الإشكالية، إلى العروي. ينعته ب”المؤرّخ والمنظّر السياسي” في كتاب “الاستشراق”، وينعته ب”أفضل مؤرِّخ في شمال إفريقيا اليوم” في “الثقافة والإمبريالية”. وتوصيفات من هذا النوع لها دلالتها، لا سيما إذا ما ذكّرنا بتلهّف كثير من المثقفين العرب لإدوارد سعيد وتقديمهم لأنفسهم له على أنهم “علمانيّون” حتى يحظون بإشارات منه. ومن الجلي أن يشير إدوارد سعيد إلى عبد لله العروي من منظور الاستشراق، باعتباره “ظاهرة ثقافية” كما تعاطى معها سعيد نفسه، في إطار من منظور التشكّل الخطابي وعلاقات المعرفة بالسلطة. والمثير، هنا، أن العروي لم يضع مؤلفا موضوعا في نقد الاستشراق كما فعل إدوارد سعيد، بل لم يكتف ولو بوضع مقال مطوّل في الموضوع كما فعل أنوار عبدالمالك: “الاستشراق في أزمة” (1963). ورغم ذلك، تمكّن العروي من تقديم تصوّر محكم في الموضوع وإن من خلال إشارات وأفكار وانتقادات متضمّنة في أكثر من كتاب له. وللإشارة، فموقف عبد لله العروي مغاير ولا صلة له بنقض أو فهم اعتراضي للاستشراق، بخاصة عندما “يكون الاستشراق قد ذاب في العلم الموضوعي”، بتعبير العروي. إضافة إلى إقراره بإسهام المستشرقين في الكتابة التاريخية ذاتها أو التأليف التاريخي الإسلامي على مستوى المنهج، دون تغييبه ل”الأغراض والنوايا” كما يسميها. وهو كلام جدير بالتمييز بين مستويات الاستشراق، وبالتالي حجم إسهام هذا الأخير مهما علا الاختلاف حول تقدير هذا الإسهام. وفي هذا الصدد، يمكن أن نفهم، أيضا، النقد الكاشف والموجَّه لإدوارد سعيد من قبل الأكاديمي الأمريكي الإيراني حميد دباشي في كتابه: “ما بعد الاستشراق”.