منذ زمن بعيد ظل الكتاب يلعب أدوارا طلائعية في حياة الإنسان، ويساعده على التعرف على نفسه وعلى الآخرين. وعلى مر العصور ظهرت ملايين الكتب التي تم تداولها بين الناس، ولكن الكتب التي حافظت على رونقها واخترقت الأزمة والأمكنة قليلة. والسبب في ذلك راجع إلى أن القراءة حاجة قبل كل شيئ، ومن ثم فإن القارئ هو من يمنح الكتاب عمرا مديدا أو يقوم بوأده بمجرد ظهوره. وتلك الحاجة تمليها السياقات المختلفة للقارئ الذي يبحث عن أجوبة مقنعة لأسئلته الكثيرة عما يحيط به. فما الذي يجعل كتابا رأى النور منذ قرون موضوع اهتمام كبير، وما الذي يجعل كتابا حديث العهد محل إهمال كبير؟ وحدها «أمهات الكتب» هي التي تحافظ على راهنيتها وتخترق الأزمنة والأمكنة لتحيى بين الناس. الاستشراق في تعريفه الأولي والمبسط هو مجموع الدراسات التي أنجزها في مختلف المجالات علماء وباحثون غربيون عن «الشرق». ولكلمة «الشرق» هنا معنى خاص، ذلك أنها لا تشير إلى جهة جغرافية ولا إلى صيرورة تاريخية بقدر ما تشير إلى «ثقافة أخرى» تختلف عن «الثقافة الغربية» بما يعنيه مفهوم الثقافة في اتساعه وشموليته. وقد ترسخ في الأذهان، بفعل الصورة التي يقدمها «الغربيون» عن «الشرق» والصورة التي يقدمها «الشرقيون» عن «الغرب»، أن المفهومين يشكلان ثنائية مضادة. وأصل هذا التضاد يعود بالدرجة الأولى إلى أسباب تاريخية وثقافية لا سبيل إلى الخوض فيها. ونكتفي بالإشارة إلى أن هناك منذ القديم محاولات من «الغربيين» لفهم «الشرق»، كما أن هناك محاولات من «الشرقيين» لفهم الغرب. ولكن حدود هذا الفهم «المتبادل» كانت مسيجة بمجموعة من العوامل التي تتعدى الجانب «المعرفي» بكثير لكي تطال ما هو اقتصادي واجتماعي وسياسي. ومن هنا بدا أن «الاستشراق» و«الاستغراب» معا ما هما إلا مقدمة لحسم «صراع تاريخي» تعبر عنه الثنائية الضدية شرق/غرب. هكذا يبدو أن مفهومي «الغرب» و»الشرق» هما مفهومان جديدان على الفكر الإنساني، برزا عقب النهضة الأوربية خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر. فقد فرضت شروط استكمال النهضة على الأوربيين ضرورة البحث عن أسواق جديدة لتصريف المنتجات الصناعية، والبحث عن المواد الأولية لتشغيل المصانع، فراحوا يبحثون عنها خارج حيزهم الجغرافي. وللاستفادة من تلك الأسواق والموارد فإن الأمر يقتضي إقامة «اتصال وتواصل» مع أصحاب الأرض، ومن ثم التعرف عليهم. كيف يفكرون؟ كيف يعيشون؟ ما هي حاجياتهم الأساسية؟ ما هي معتقداتهم، إلى غير ذلك من الأسئلة التي بإمكان الجواب عنها أن يحقق امتيازات اقتصادية وغير اقتصادية تضمن التطور والاستمرار للنهضة الأوربية. ولكن الجواب عن هذه الأسئلة لا يمكن إلا أن يكون علميا، ينسجم مع نمط التفكير الذي اعتمده الأوربيون، وبالتالي أصبحت دراسة «الشرق» مدخلا أساسيا للاستفادة منه. ومع الحركة الاستعمارية تحولت المعرفة ب»الشرق» إلى ضرورة ملحة تمهيدا للغزو المباشر، وإخضاع شعوب «الشرق» لإرادة «الغرب»، ومن ثم تحول «الاستشراق» إلى أداة للهيمنة، وأصبح الأربيون والأمريكيون ينجزون دراسات في مختلف المجالات، ترمي إلى رسم صورة واضحة ل»الشرق»، واصطلح على تلك الدراسات بالاستشراق. وقد تعاملت الثقافة العربية الحديثة منذ النصف الثاني من القرن العشرين مع الدراسات «الاستشراقية» واستأنست بها، ووجدت فيها لبنة أولية لتأسيس منظور جديد للثقافة العربية الحديثة، ولا سيما في مجال الآداب والعلوم الإنسانية، من باب الاعتراف بأن المستشرقين كانوا سباقين إلى اكتشاف التراث العربي وتحقيقه ونشره، كما كانوا مثار إعجاب الدارسين العرب بطريقتهم في التفكير ومناهجهم الدراسية. وهذا ما يفسر استفادة رواد النهضة العربية من «الاستشراق» وتوظيفهم مفاهيمه ومناهجه. ولكن جيلا آخر من الباحثين العرب سرعان ما فطن إلى أن الدراسات «الاستشراقية» توظف لخدمة أهداف استعمارية، فعمل على كشف الخلفيات التي تحركها، و»فضح» أهدافها المعلنة والخفية، وهو ما شكل منذ بداية القرن العشرين إرهاصات لما يمكن أن نسميه «نقد الاستشراق». على أن ذلك النقد بفعل تواضع المقاربات التي كانت سائدة آنذاك نظر إلى «الاستشراق» من الخارج، أي من حيث علاقته بالهيمنة الاستعمارية على العالم العربي، ومن ثم كان نقدا أيديولوجيا قائما على تعارض المصالح وتناقض الرؤى. وظل العالم العربي بحاجة إلى من يقدم دراسة حول «الاستشراق» باعتباره خطابا. وأهمية كتاب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد «الاستشراق» تستمد بالذات من استجابته لهذه الحاجة. صدر كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد لأول مرة سنة 1978 باللغة الإنجليزية، وأعقبته طبعات أخرى منها ما خضع للتعديل، وسرعان ما تلقفته أيدي المترجمين فنقلته إلى أشهر لغات العالم في زمن قياسي. وقد ترجم إلى العربية في نسختين: واحدة أنجزها عن الطبعة الأولى كمال أبو ديب وصدرت سنة 1980، والثانية ظهرت سنة 2006 وقام بها محمد عناني اعتمادا على النسخة المعدلة التي صدرت سنة 1995. ولم يقتصر اهتمام الدارسين والباحثين على نقل الكتاب إلى أشهر لغات العالم، بل كان موضوع عدد لا يحصى من الدراسات والأطاريح الجامعية في مختلف أنحاء العالم، مما يعني أن الكتاب حظي باستقبال استثنائي من طرف المهتمين والقراء. ومن كثرة ما أثاره من ردود الآفعال اضطر إدوارد سعيد إلى كتابة عدد من المقالات والأبحاث، ترد وتعقب، جمعها وترجمها وأخرجها صبحي حديدي بعنوان «تعقيبات على الاستشراق». يقدم كمال أبو ديب كتاب «الاستشراق» كما يلي: «يمثل كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» جزءا من ثورة جديدة في الدراسات الإنسانية، تضرب جذورها في الماركسية والثورة الألسنية والبنيوية وما يكاد يكون مدرسة جديدة من «التاريخ الجديد» تنتسب بعمق إلى ميشيل فوكو بشكل خاص». ولا شك أن هذه الإشارة تختصر الكتاب كله موضوعا ومنهجا. يتكون كتاب «الاستشراق»، الذي يغطي في نسخته العربية بترجمة محمد عناني أكثر من خمسمائة وستين صفحة من مقدمة وثلاثة فصول. انكب إدوارد سعيد في الفصل الأول منها على تحديد «نطاق الاستشراق». وبالتالي فإن هذا الفصل اختص بالوقوف على بعض المفاهيم الأساسية، التي تعتبر أساس الخطاب الاستشراقي، مثل مفهوم «الشرق» نفسه، وبين كيف أن الشرق ليس جغرافية، بل هو بالأحرى فكرة أوربية وأمريكية. ومن ثم توقف عند هذه الفكرة التي ترسم الملامح الكبرى لصورة الشرق عند الغربيين. أما الفصل الثاني فوقف عند نماذج من الخطاب الاستشراقي مفككا بنياته الأساسية، وهو يتشكل من أربعة محاور كبيرة: المحور الأول قدم الخصائص العامة لقراءة الغربيين للشرق، وبين كيف ان المستشرقين أعادوا رسم الحدود وتعريف القضايا، وكيف نظروا إلى الدين من وجهة نظر علمانية. أما المحور الثاني فقد حلل أعمال سلفستر دي ساسي وأرنيست رينان من زاوية الأنطروبولوجيا و»مختبر» فقه اللغة. وتعرض المحور الثالث لأعمال بعض المستشرقين الذين أقاموا بالشرق ودرسوا لغته وأدبه، في حين قارب المحور الرابع والأخير «الرحلة» في الخطاب الاستشراقي. وإذا كان الفصل الأول تمهيدا للخطاب الاستشراقي والفصل الثاني «وصفا» له، فإن الفصل الثالث عمل على تقديم قراءة لهذا الخطاب من زوايا مختلفة، موضحا كيف أن هذا الخطاب ينطوي على مفهومين للاستشراق: الاستشراق الكامن أو الباطن، والاستشراق السافر أو الظاهر. وحلل أبعاد هذه الثنائية من خلال الكشف عن طبيعة الدراسات الاستشراقية التي تقوم بالدرجة الأولى على أهداف منفعية ترتبط بمصالح الدولة التي يمثلها المستشرق. ووقف في محور ثالث عند الاستشراق الأنجلوساكسوني الحديث، كما وقف في المحور الرابع من هذا الفصل عند آخر مرحلة من مراحل الاستشراق. عندما عكف إدوارد سعيد على تأليف كتاب «الاسشراق» لم يكن يعتقد أنه سيلقى ما لقيه من اهتمام عالمي قلما يحظى به كتاب من نوعه. فهو يصرح في الفصل الذي أضافه إلى النسخة المعدلة التي صدرت سنة 1996 بأنه لقي في البداية صعوبة في إثارة اهتمام دور النشر بعمله. ولكن الكتاب عندما صدر أثار ضجة كبيرة في أوساط الفكر والسياسة معا، خاصة أن صاحبه عربي. ومن ثم فهم لدى بعض الغربيين بأنه يمثل عداء، وأنه يصور الغرب عدوا للشرق. وهذا ما يفسر الحملة التي تعرض لها من بعض الصحف السيارة بصفة خاصة. إن هذا الموقف يتناقض مع الهدف المعلن من الكتاب، الذي يعارض أي مبدأ للتصنيف البات والجوهري، وهو ما يفصح عنه وضع كلمتي «الشرق» و»الغرب» بين مزدوجتين. فليس هناك شرق خالص ولا غرب خالص. ومن الطريف أن بعض الدراسات العربية نظرت إلى الكتاب من نفس المنطلق العدائي، وإن اختلفت الأسباب والدواعي والخلفيات. ومن حسن حظ الكتاب وصاحبه أن أغلب من كتبوا عنه من الباحثين الجديين اعتبروه حدثا ثقافيا بكل المقاييس. إن هذا التفاوت في تقويم عمل ريادي ك»الاستشراق» طبيعي جدا، خاصة أن الكتاب يلامس مناطق فكرية حساسة بالنسبة إلى «الشرقيين» و»الغربيين» على السواء. ولكن الكتاب لم يلق هذا الاهتمام بموضوعه ولا برؤيته الواضحة، التي انطلقت من أن «الشرق» هو في النهاية فكرة غربية فحسب، بل استمد قوته من أمرين مرتبطين: الأمر الأول يتمثل في الأفق الثقافي الموسوعي الذي يتميز به إدوارد سعيد، وهو أفق ينعكس في جميع مؤلفاته قبل وبعد «الاستشراق»، إذ لا بد من ربط الكتاب بالمسار الفكري لإدوارد سعيد، والذي برز بشكل لافت للنظر باعتباره أحد المؤسسين العالميين لما يصطلح عليه النقد الثقافي. أما الامر الثاني فيتجلى في المنهج الذي اعتمده المؤلف، والذي استطاع أن يجمع أشتات خطاب شاسع بالقبض على ملامحه الدقيقة، والوصول إلى جوهره. ولم يكن هذا ليتأتى لسعيد دون استفادته من مناهج الدراسات الحديثة في العلوم الإنسانية، وبالخصوص في مجال تحليل الخطاب. حسن مخافي