للجمعة الرابعة على التوالي، خرج الجزائريون قبل يومين في حشود تبهر العالم الذي اعتقد أنها مجرد فقاعة ستختفي مع أول نفس تنفخه السلطة. خروج، كلما تململ الرئيس المريض في كرسيه المتحرك ملوحا له بالرجوع إلى بيت الطاعة، زاد توهجا وتعبئة وإبداعا. نحن هنا في الجانب الغربي من معبر «جوج بغال» لم نكن نتصور أن بيت الجيران الشرقيين سيفتح نوافذه المطلة علينا يوما ليغزو أنوفنا برائحة الياسمين التي ظلت الجزائر تمثل جدار صد يحجبها عنا منذ انطلاق الشرارة الأولى للربيع العربي في تونس قبل ثماني سنوات. إن أجيالا بكاملها في البلدين فتحت أعينها على القطيعة والعداء دون أن تكون لها في هذا الوضع أي مصلحة. فالأمر ليس مجرد قرارات سياسية وأمنية يتخذها هذا النظام أو ذاك، بل إن غياب التعاون بين المغرب والجزائر دين باهظ الكلفة يدفع الشعبان ضرائبه وأرباحه من نقط النمو وفرص الشغل ومستقبل الشباب، وموقع تفاوضي مع العالم في التجارة كما في السياسة والأمن والسيادة. إن ما تعيشه الجزائر حاليا، من حراك شعبي ومطالبة شاملة بالانعتاق من استبداد الأولغارشية الحاكمة وإقامة ديمقراطية حقيقية، لا ينفصل بشكل كلي عن الوضع المغاربي والعلاقات الثنائية المغربية الجزائرية. لقد أحسن النظامان السياسيان في البلدين استعمال كل منهما الآخر فزاعة لإدامة الاستبداد والتخويف من تسلل «الجار العدو» كلما اشتدت عليهما الضغوط والمطالب بإقامة ديمقراطية حقيقية. لنترك شأن الجزائر للجزائريين، ولنسجل كيف ضيّعت النخب السياسية المغربية ما ورثته عن فترة مقاومة الاستعمار من رصيد نضالي مشترك مع نخب الدول المغاربية الأخرى، وفي مقدمتها النخب الجزائرية، وهو الرصيد الذي كان بالإمكان استثماره في بناء مشترك جديد لا غالب فيه ولا مغلوب. فأحزابنا السياسية انساقت لما استدرجتها إليه القوى التي سعت إلى الهيمنة منذ سنوات الاستقلال الأولى، وبات فعلها السياسي مرتهنا للأجندة الرسمية التي كبّلتها بضرورة مواجهة «العدو الخارجي» وتأجيل المعركة الديمقراطية، فلا معركة مواجهة «العدو» حسمت، ولا الديمقراطية تحققت. إذا كنا نعتبر أن مشكلتنا هي مع نظام قائم في الجزائر وليس مع الجزائريين، فإن الخروج الشعبي الحالي ضد هذا النظام يدعونا أيضا، بعيدا عن أي انتهازية أو تشف، إلى مراجعة علاقاتنا مع هذا البلد الجار، والقيام بنقد ذاتي إن اقتضى الحالي. دعونا نتخلص لوهلة واحدة من عتاد الحرب والمجابهة الذي فُطرنا على إشهاره كلما أثيرت سيرة الجزائر أمامنا. دعونا نعترف بأننا، نحن المغاربة، ورغم لائحة المكائد التي أصابتنا من جانب حدودنا الشرقية، ظلمنا أشقاءنا الجزائريين حين سجناهم داخل قبو الأعداء الدفين في مخيلتنا الجماعية. لنكن متواضعين ونقر بنصيبنا الذي ساهمنا به بدورنا لإحداث هذا «الحاسي» العميق الذي فصل بيننا فجأة بمجرد حصول بلدينا على استقلالهما المزعوم. صحيح أن جماعة بنبلة وبومدين وبوتفليقة، وباقي قادة جزائر ما بعد الاستقلال، نقضوا عهود الأخوة التي جعلت المغرب يرفض حسم حدوده الشرقية مع فرنسا، ويستقبل الثوار الجزائريين فوق أراضيه، ويدعمهم بالمال والسلاح، وصحيح أن عنفوان الثورة التي طردت جيش المستعمر دفعت إخوتنا في الجزائر إلى جرنا نحو حرب الرمال التي خلفت ندوبا لم تندمل إلى اليوم، ولا شك أيضا أن «جماعة وجدة» قبلت صفقة مع الفرنسيين جعلتهم يصبحون حجرا في حذاء المغرب لمنعه من استرجاع نصفه الجنوبي بعد بتر أراضيه شرقا؛ لكننا أيضا بقينا حبيسي نظرة استعلائية تجاه جيراننا، نحن أيضا لا ننظر إلى ما وراء جوج بغال إلا من شرفة الإمبراطورية المغربية التي لا تغيب عنها الشمس، نحن أيضا عجزنا عن التخلص من عقد الماضي وبناء المستقبل انطلاقا من معطيات الواقع الذي لا يرتفع. إذا كنا تمكنا من تجاوز خلاف من حجم الاستعمار مع فرنسا التي أصبحت «حبيبنا الأول»، ومع إسبانيا التي لم تغادر صحراءنا إلا بعدما زرعت بذور الانفصال تحت رمالها، ورفضت أن تفتح معنا أي مجال للتفاوض حول مدينتينا المحتلتين في الشمال، وتركنا ماضينا الإمبراطوري القديم خلف ظهورنا لنقبل ببناء علاقة جوار بناء وواقعي مع إخوتنا في موريتانيا؛ كيف عجزنا عن فتح كوة مع جيراننا في الجزائر؟ وما الذي منع برلماننا من الاجتماع والمصادقة على اتفاقية ترسيم الحدود تبديدا لشكوك الجزائريين في «مطامعنا» الترابية؟ وهل كانت الأحزاب والقوى السياسية مرغمة على مسايرة السلطة في كسر جسور اللقاء والتعاون مع المجتمع والقوى الحية في الجزائر؟ على أجيال ما بعد الاستقلال والحرب الباردة أن تفتح أعينها جيدا على التحولات السريعة والشاملة التي يعرفها العالم من حولنا والمجتمع تحت أقدامنا، دون طوباوية أو أوهام، فإن المطلوب منها ليس ما قالته رسالة بوتفليقة الأخيرة إلى الشعب الجزائري من تسليم للمشعل إلى الأجيال الجديدة؛ بل يكفي الإنصات إلى الأجيال الجديدة، وتحويل غضبها إلى طاقة إيجابية تبني مستقبلنا جميعا. وإذا كان الشباب الصاعد يرفض حتى الإنصات إلى السرديات التقليدية، فبالأحرى تصديقها، فإن مطلبي الديمقراطية والتنمية اللذين يرفعهما، لا ينفصلان عن مطلب الاندماج المغاربي، باعتباره ضروريا لأي إقلاع اقتصادي لدول المنطقة، وحلما مشتركا لشعوبها. على من لا يدرك رسالة هذا الجيل أن يشاهد ذلك المقطع القصير الذي بثته إحدى القنوات العربية، عندما فوجئت مراسلتها التي كانت تغطي رد فعل الشارع الجزائري على رسالة بوتفليقة قائلة إن الجزائريين يهنئون بعضهم ويحتفلون، ليفاجئها شاب بالمقاطعة والوقوف أمام الكاميرا مكذبا إياها قائلا: «ما كاين منها ما كاينش يهنئون بعضهم، نحّاو بيون (بيدق) وجابو بيون»، وحين طالبته الصحافية بالحديث باللغة العربية رد عليها قائلا: «ما نعرفش العربية هادي هي الدارجة تاعنا، يتنحاو كاع».