محمد مصباح – سعاد أحمادون للوهلة الأولى، تبدو المقاربة الأمنية التي تنتهجها الدولة المغربية من أجل التصدّي للتطرف فعالة في درء الهجمات الإرهابية. حتى الحادثة الأخيرة، التي شهدت مقتل سائحتَين اسكندينافيتين في إمليل في 15 دجنبر، بدت حالةً معزولة. فقد بادرت السلطات المغربية سريعاً إلى توقيف الفاعلين، وخلال الأسبوعَين اللاحقين، اعتقلت السلطات ثمانية عشر جهادياً إضافياً بشبهة تقديم المساعدة إلى المنفّذين. بيد أن نظرةً أعمق إلى الاستراتيجية الأوسع التي تعتمدها الرباط في التصدّي للتطرف العنفي تكشف عن إخفاقها في إعادة تأهيل المعتقلين السلفيين الجهاديين السابقين وإدماجهم من جديد. لطالما عملت الرباط من أجل التصدّي للمجموعات المتشدّدة، لاسيما منذ تفجيرات الدارالبيضاء في العام 2003. وهكذا بين العامَين 2002 و2018، أوقِفت السلطات المغربية أكثر من 3000 جهادي مشتبه بهم، وجرى تفكيك 186 خلية إرهابية، منها 65 خلية مرتبطة بالدولة الإسلامية. إلا أنه تُسجَّل نسبةٌ مرتفعة من حالات العود في صفوف السجناء الجهاديين. فمن ضمن هؤلاء الذين سبق أن أوقِفوا في تهمٍ إرهابية خلال هذه الأعوام، تم تسجيل حوالي 220 حالة عود، ناهيك عن 1300 مغربي غادروا البلاد، بحسب التقديرات، للقتال في سورية. ويرأس معتقلون جهاديون سابقون العديد من الخلايا الإرهابية التي تم تفكيكها منذ العام 2015. كذلك، كان ثلاثة عناصر من خلية إمليل موقوفين سابقاً، بينهم أمير الجماعة عبد الصمد الجود الذي حُكِم عليه بالسجن أربع سنوات في العام 2014 بتهمة محاولة الالتحاق بتنظيم الدولة الإسلامية في سورية. وقد أُخلي سبيله بعد عشرة أشهر لعدم توافُر إثباتات عن نواياه، فجمع حوله شباناً مهمّشين يلتقون معه حول الأفكار نفسها، وعاونه في ذلك إمامٌ محلي. تسعى الرباط إلى اعتماد سياسة شاملة للتصدي للتطرف العنفي ليس فقط عبر درء الهجمات الإرهابية، إنما أيضاً عبر معالجة الأسباب العميقة للتشدد، مثل غياب المساواة الاقتصادية والاجتماعية، والسرديات الدينية المتطرفة. بالفعل، معظم الخلايا التي جرى اكتشافها في الأعوام القليلة الماضية هي خلايا صغيرة ، مؤلّفة من خمسة إلى خمسة عشر شخصاً، ما يُشير إلى أن السياسات الرسمية نجحت فعلياً في منع الجهاديين من التنظّم في مجموعات أكبر. لكن على الرغم من الجهود المتقطعة التي تبذلها الرباط لدفع الجهاديين إلى نبذ التشدد أثناء وجودهم في السجن، إلا أن هذه السياسة تبقى عاجزة عن إعادة إدماجهم بعد إخلاء سبيلهم. تُشير السلطات إلى إعادة الإدماج "الناجحة" لبعض السلفيين-الجهاديين السابقين، الذين منحهم الملك محمد السادس العفو منذ العام 2012، مثل عبد الكريم الشاذلي ومحمد رفيقي "أبو حفص"، والذين انخرطوا في نهاية المطاف في العمل السياسي القانوني أو أنشؤوا منظمات غير حكومية. لكن النظام استخدم هؤلاء الأشخاص، الذين تخلّوا في غالبيتهم عن التشدد من تلقاء أنفسهم، وسيلةً لترويج فكرة أنه تمكّنَ من احتواء الإسلاميين المتشددين السابقين. ولم تباشر الدولة تطبيق مقاربة أكثر منهجية لإعادة الإدماج سوى في العام 2016. فقد أطلقت المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج برنامج "مصالحة" لمكافحة التشدد في السجون، بالاشتراك مع الرابطة المحمدية للعلماء والمجلس الوطني لحقوق الإنسان. يهدف البرنامج إلى إعادة تأهيل السلفيين الجهاديين داخل السجون المغربية، من خلال مقاربة ثلاثية: "المصالحة مع الذات، ومع النصوص الدينية، ومع المجتمع". يعني ذلك، وفقاً لبعض المشاركين في البرنامج، "نبذ العنف، وقبول التفسيرات التعددية للنصوص الدينية، والاعتراف بشرعية النظام".1 والنجاح الظاهري الذي حقّقه الفوج الأول في يوليوز 2017، حيث خُفِّضت عقوبات السجن في حالة العديد من المشاركين أو حتى نالوا عفواً ملكياً، شجّع أعداداً كبيرة من الجهاديين السابقين على الانضمام إلى هذه المبادرة أملاً في الخروج من السجن. وفي الدفعة الثانية، التي تمت في العام 2018، تقدّم أكثر من 300 سجين جهادي بطلبات للمشاركة فيما تتّسع الدورة ل25 شخصاً فقط. في حين أنه لا يزال من المبكر استخلاص استنتاجات من المراحل الأولية لبرنامج مكافحة التشدد، إلا أن تأثيره على الجهادية عموماً محدود. أولاً، هدفُ المصالحة الذي يسعى إليه البرنامج واسعٌ جداً، فقد سأل جهادي سابق متهكّماً: "مصالحة بين مَن ومَن؟"2 وفي نقطة أساسية، يستهدف البرنامج فقط شريحة من السجناء، فالمندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج لم تقبل حتى الآن سوى حوالي 50 متطوعاً من أصل نحو ألف جهادي موجودين حالياً في السجون. وتألّف الفوج الأول، على وجه الخصوص، من السجناء الذين سبق أن أعربوا عن "ابتعادهم" من الأفكار الجهادية في رسائل موجَّهة إلى الرابطة، والتي التمسوا فيها الحوار مع العلماء الدينيين وأعربوا عن استعدادهم "للتوبة". هذا يشير إلى فشل السلطات في استهداف عدد كاف من الأشخاص، لاسيما أولئك الذين لم يتبرؤوا بعد من الأفكار الجهادية. الأهم من ذلك، لا يشتمل البرنامج على أي إعادة إدماج اقتصادية واجتماعية للجهاديين بعد خروجهم من السجن. فقد أشار أحد المشاركين السابقين في برنامج المصالحة إلى أنه شعر بأنه تعرّض للخداع بسبب "الوعود" التي أطلقها قادة البرنامج عن إعادة الإدماج من دون الوفاء بها: "قيل لنا إنهم سيهتمون بنا بعد الخروج من السجن، إنما لم يتحقق شيء".3 تؤمّن مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء بعض برامج الرعاية اللاحقة المحدودة للسجناء السابقين بصورة عامة، مثل منحهم هبات صغيرة لمساعدتهم على تأسيس عملٍ ما. لكنها لم تُعِدّ برنامجاً خاصاً للجهاديين السابقين الذين يشتكون من أن الاحتياجات الأكثر إلحاحاً بالنسبة إليهم، هي الحد من الوصم الذي يلصَق بهم في مجتمعاتهم، وتقديم الاستشارة النفسية لهم، وفوق ذلك إدماجهم اقتصادياً واجتماعياً. بدلاً من ذلك، تعتمد السلطات، بصورة أساسية، على المراقبة الأمنية الروتينية. ويضم برنامج مكافحة تطرف شامل خدمات من قبيل الدعم الأسري، الاستشارة النفسية، التدريب المهني ومنتديات للاستمرار في النقاش الديني مع علماء دين ذوي مصداقية. واحد من الأسباب وراء فشل الإدماج بعد الخروج من السجن، هو غياب دور المجتمع المدني في الجهود الآيلة إلى مكافحة التطرف والوقاية منه. فالمقاربة الأمنية الطابع التي تنتهجها الدولة لا تُتيح للمجتمع المدني العمل في هذا المضمار، ولا يُقبَل بهم إلا عندما يعملون بالتعاون مع السلطات. حتى برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي يطبّقها المغرب تشتمل على هذه المقاربة ذات الطابع الأمني المفرَط في التعاطي مع التطرف. على سبيل المثال، تتولى وزارة الداخلية، منذ العام 2005، الإشراف على المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي تهدف، من جملة ما تهدف إليه، إلى محاربة "المراتع الخصبة" للتشدد في المناطق المغربية الفقيرة. في هذا الصدد، تخشى المنظمات المدنية أن يُعرِّضها العمل على مسائل مرتبطة بمكافحة التشدد، لزيادة الإجراءات الآيلة إلى مراقبتها أو فرض رقابة عليها من السلطات. فعلى سبيل المثال، شنّ وزير الداخلية محمد حصّاد، في كلمة ألقاها أمام مجلس النواب في لوليوز 2014، هجوماً على الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وهي منظمة حقوقية علمانية، متهماً إياها بتقويض الجهود الحكومية الهادفة إلى مكافحة الإرهاب وبإيجاد مبررات وأعذار للتشدد، وغالب الظن أن كلامه هذا جاء رداً على الانتقادات المتكررة التي توجّهها الجمعية إلى الدولة. وقد دفعت هذه الحادثة بمنظمات مستقلة أخرى إلى إبداء حذرها من العمل على مسائل متعلقة بالتطرف خشية منح الحكومة ذريعة تستخدمها لشن هجمات كلامية مماثلة أو حتى الحد من أنشطتها. وفي إطار برنامج لفهم جذور التطرف وبناء قدرات منظمات المجتمع المدني، وجد الفرع المغربي لمنظمة "البحث عن أرضية مشتركة"، أن معظم القيّمين على المنظمات يُبدون، عند إجراء مقابلات معهم، تردداً شديداً في التعريف عن أنشطتهم المتعلقة بمكافحة التطرف، أو في الكشف عن مصادر تمويلهم. منظمات المجتمع المدني تعمل في سياق شديد الحساسية يجعل من الصعب تطبيق برامج مكافحة التطرف العنفي. عندما يعود بعض السجناء السابقين إلى أنشطتهم الجهادية، تواجه منظمات المجتمع المدني تدقيقاً أشدّ صرامة. فعلى سبيل المثال، أصبح أنس الحلوي، وهو ناشط إسلامي أمضى ثلاثة أعوام في السجن بتهمة الانتماء إلى تنظيم متطرف، المتحدث باسم اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين بعد إخلاء سبيله. وقد عمل في سبيل الدفاع عن حقوق المعتقلين السلفيين السابقين، والتمسَ الدعم من عدد كبير من المنظمات الوطنية والدولية المعنية بحقوق الإنسان. عندما غادر المغرب في أواخر العام 2013 للقتال في سورية، تراجع عدد كبير من المنظمات غير الحكومية الأخرى المعنية بحقوق الإنسان عن الدفاع عن السجناء السلفيين الجهاديين. فعلى سبيل المثال، التزم منتدى الكرامة لحقوق الإنسان– وهو منظمة حقوقية غير حكومية مقرّبة من حزب العدالة والتنمية– الصمت حول هذه المسألة ورفض السماح للجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين بعقد اجتماعاتها في مقره. يبدو أن الإجراءات الأمنية التي يتخذها المغرب تحقق فاعلية نسبية في درء الهجمات الإرهابية الكبرى في الأعوام القليلة الماضية. لكن في غياب برنامج شامل لمكافحة التشدد يُشارك فيه المجتمع المدني عبر بذل جهود لإعادة تأهيل السجناء السابقين، ستظل البلاد تعاني من الهشاشة أمام التشدد المتنامي في أوساط السكّان المهمّشين. *نشر هذا المقال في كل من موقعي معهد كارنيجي للسلام الدولي، والمعهد المغربي لتحليل السياسات