الهوية شعار لعصرنا، وعنوان كاسح لمجتمعات، يوظفها أصحابها لغايات مختلفة ويلجؤون إليها للاعتزاز بمجموعة من خصائصهم، وما برونه مقوِّما لوجودهم الجماعي، بصفتهم جماعة اجتماعية متميزة عن غيرها، كما تعبر عن الملامح المشتركة التي تُعرف بها أمة ما بين أمم أخرى؛ وقد تُقوَّم بواسطتها حضارة من الحضارات بمقارنتها مع حضارات ى أخرى. وتعد الهوية من أهم مرتكزات الفكر الاجتماعي السياسي في زمننا. وقد يبلغ تأثيرها على مشاعر الجماعات البشرية مبلغا يتجاوز تأثير المعتقد الديني، أو النزوع الإيديولوجي، أو الانتماء الحزبي لدى الأفراد والجماعات. ولذلك، لا يخلو مجتمع من هوية عامة يتصف بها، أو تحدد ملامحه المشتركة بين أعضائه. وغالبا ما تُشكّل الرموز الثقافية والفكرية المكوِّن الأساس لهذه الهوية أو تلك. فمثلا، يُعرف الأمازيغ بثقافة أكل الكسكس («سكْسو») ولباس البرنوس، حسب تعبير ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي. وأصبحت ثقافة الكسكس اليوم، ثقافة مغاربية بامتياز. ويتميز مغاربة اليوم، بشرب الشاي الأخضر المُنعنع، ولباس الجلابة، والقفطان والشربيل (البلغة) للنساء. ويُعرف الخليجيون بلباس «الثوب والغترة والعقال» أو الجبة البيضاء بسروال، زائد العقال على غطاء رؤوسهم، بالرغم من اختلاف مواطنهم. غير أن المشكلة لا تكمن في الهويات العامة التي هي ضرورية للمجتمعات. وإنما تكمن في هويات المجتمعات المتعددة إثْنيا، التي تتشكِّل منها الشعوب بالمفهوم السياسي. ولنأخذ الهوية اللغوية كمثال لارتباطها الوثيق بهويات أخرى؛ إنها ترتبط بالإثنية القومية أو العرقية، وبالإثنية الجهوية أو المجالية، وبالإثنية الدينية الممزوجة بالعناصر القومية كما عند اليهود بصفة خاصة. والواقع، أن خصائص كثيرة، وتفاصيل في هذه الهويات تسكن أو تقود إلى حيث تسكن الشياطين، كما يقول المثل. إن كل من يبحث عن أمثلة في التاريخ عن تضارب الهويات، المرتبطة، بصفة خاصة، باللغة والعرق والدين لن يكفيه عمره للإلمام بها. ولهذا سنكتفي بالإشارة في هذا المقام إلى أمثلة هوياتية معاصرة وراهنة، ومنها مثلا تحويل الأنظار عن الاحتلال اليهودي لفلسطين إلى اعتباره مجرد صراع هوياتي بين القومية العربية واليهودية، وهو ما استغرق الخطاب العربي الرسمي في جملته. ويُوظَّف فيه الدين واللغة. ومعروف، أيضا، أن القتل جار على هوية المذهب بين الشيعة والسنة في المشرق. والشعوب وحدها تعاني من صنوف الكراهية وضريبة الدم. ومثل ثالث، في هذا الشأن: الصراع القائم بين القوميين العرب والقوميين الأكراد في المشرق، إذ يتجاوز صراعهما الجانب السياسي إلى الجانب الثقافي واللغوي بخاصة. والأمر نفسه ينغص علاقة المغاربة الزاعمين بأنهم عرب مع المغاربة الآخرين القائلين إنهم أمازيغ، دون أن يدركوا جميعا أن قناعات الناس تتولد من بيئتهم الثقافية واللغوية. ونلحظ مزيدا من تشنج علاقتهما بإنكار كل طرف نسب الطرف الآخر، متنكرين لما قيل قديما «الناس مصدقون في أنسابهم». ودخل عنصر جديد في الصراع الهوياتي اللغوي والثقافي في أقطار المغرب. ويتعلق الأمر بإعلان البعض لهوية جديدة لهم كغنيمة حرب، تتمثل في تبني اللغة الفرنسية لغة للإدارة والاقتصاد ومبحث العلوم. ولايزال الكثير يتذكر التصفيقات القوية تأييدا لخطاب فرانسوا هولاند، الرئيس الفرنسي السابق، أمام برلمان الجزائر حين قال: إن الجزائر هو البلد الفرنكوفوني الثاني بعد فرنسا، وحين خاطب البرلمان المغربي بأنه سعيد لكون المغاربة يشاركون فرنسا ثقافتها. وهناك كثير من المغاربة والجزائريين يفخرون بأنهم فرنكوفونيون. على الرغم من أن دستوري البلدين لا ينصان على رسميتها أو وطنيتها. فهل نحن بصدد ما أطلق عليه الكاتب أمين معلوف صفة «الهويات القاتلة»، أم أننا سنتوافق داخل الوطن السياسي الواحد و»نتعلمُ العيشَ معا كإخوة»، بدل «الفناءَ معا كأغبياء،» بتعبير لوثر كينغ، أو نكون مثل حسن الوزان، الذي تقلب في أكبر هويات زمانه (القرن السادس عشر)، وعُرِف بأسماء متنوعة، وتكلم بلغات عديدة، وعاش في بلدان وقارات متباينة الثقافة والتدين، الذي نُسِب إليه قوله: «جميع اللغات وكل الصلوات ملك يدي (…) عشت الحكمة في روما، والصبابة في القاهرة، والغم في فاس، ومازلت أعيش طُهري وبراءتي في غرناطة».