ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأمازيغية وسؤال الهوية
نشر في هسبريس يوم 08 - 05 - 2013

قبل الإجابة عن هذا السؤالي لابد من الإشارة إلى أن رواد التعريب على المستوى الأكاديمي والحزبي والعقائدي، هؤلاء الذين كانوا يعتبرون أن الأمازيغية ما هي إلا إرهاصات وثنية ورجعية آيلة للانقراض، قد بدلوا من خطاباتهم إلى اعتراف واضح بالأمازيغية، لكن شكل هذا الاعتراف في نظري، ما هو إلا قناع من أقنعة العداء للأمازيغية من الداخل، بعد أن كان هؤلاء يعادونها من الخارج، وتتلخص مواقفهم الجديدة هذه في ثلاثة اتجاهات:
الأول: ينظر إلى الأمازيغية من خلال المجموعة البشرية المستندة على نسب مائوية، وهي واضحة في تصريحات رؤساء الأحزاب السياسية وبعض كبار المثقفين من قبيل قولهم، إن 90% من المغاربة أمازيغيون، لذلك لا داعي للحديث عن الأمازيغية من لدن البعض دون الآخر.
أما الاتجاه الثاني فينظر إلى الأمازيغية باعتبارها وجها متألقا من وجوه الهوية المغربية مضافة إلى البعد العربي والإفريقي والأندلسي واليهودي، ولابد أن أذكر –وللأسف الشديد- أن هذا الموقف يتكرر حتى على لسان بعض كبار المناضلين الأمازيغيين كما يتجلى في كتاباتهم وأبحاثهم، وهذا ما يعني غياب رؤية نظرية وسياسية للأمازيغية في مسارهم النضالي الأمازيغي.
أما ثالثها: فيقول نحن لسنا عربا، بل نحن مسلمون، لكن الإسلام هو المحدد لهويتنا وثقافتنا، وليست هي الأمازيغية، وإذا ما أخذنا الأمازيغية كهوية فإن ذلك من شأنه أن يهمش الإسلام ويعرقل الوحدة مع البلدان العربية الإسلامية، فضلا عن أنهم يعتبرون العربية لغة مقدسة ودينية.
وفي نقدنا لهذه الاتجاهات الجديدة والمتحولة في نظرتها للأمازيغية بدون أن تقدم نقدا ذاتيا لمحاربتها الطويلة للأمازيغية، نعتبر أن وجهات نظرها هذه ليست وطنية وليست أمازيغية وليست دينية، لأنها قائمة على أساس طائفي، لا علمي ولا حداثي.
أما الطائفية في الطرح الأول فتنبني على العنصرية الدموية، وفي أساسها هذا تتنافى مع الحداثة والعلم، إذ برهنت العلوم المعاصرة على أنه لا توجد دماء خالصة ولا أعراق نقية، فحركة التاريخ منذ فجرها وإلى الآن قدمت صورة على التمازج بين العائلات والقبائل والعشائر والشعوب، كما أن حركات الهجرة المتنوعة والمتعددة الاتجاهات مزجت بين المجموعات الإنسانية الكبرى إلى الحد الذي يستحيل فيه الحديث عن نسب مائوية عن الجنس البشري الخالص، إلا في النظرية والممارسة النازيتين.
فعلى أي أساس يمكن القول إن 80% أو في 90% من السكان المغاربة أمازيغيون، هل على أساس اختبار دموي، أم على أساس إحصاء تاريخي قديم؟ ! وفي الآن ذاته، على أي أساس يمكن تجريد ال10% أو ال20% من أمازيغيتهم في هذا البلد. ذلك أنهم يعتمدون في الغالب الأعم على اللون، واللغة، والادعاء القبلي العربي لبعض القبائل الناطقة بالعربية هنا وهناك، وهي عناصر تتمركز الطائفية والعنصرية في قلب تعريفاتها.
وتتجلى الطائفية في الطرح الثاني القائل بأن الهوية الأمازيغية متعددة، فهي أمازيغية وعربية وإفريقية وأندلسية، في أنها ترى أن الشعب المغربي في هويته لا يزال خليطا من الأبعاد المختلفة من الأجناس، وأن هويته لم تحقق بعدها الوحدوي المتجانس بعد، وإن كانوا لا ينطقون بهذا الحكم بوضوح فإن السامع لكلامهم هذا يستخلصه، لأنهم يحاولون أن يقدموا هذا الحكم الخطير في حلة تعددية ديمقراطية تتنافى والبعد الواحد لإعطائها صورة ديمقراطية، وهذا الحكم شبيه بحيل الأفعى التي تقف صامدة في الصحاري، فيظن الطائر المنهك بأنها شجرة، فيقف على رأسها ليستريح، لكنها تباغته بمقصها القاتل، أو هو كوجه أفعى مزينة بأحمر الشفاه وكحل العينين متخفية في فولار، يطلب منها القنفذ أو القط قبلة من فيها ليتلذذ فتصرعه بمقصها اللاذع، فيسقط قتيلا تحت عنوان طلب الموت باللذة.
فما معنى القول: إن الهوية المغربية متعددة فهي أمازيغية وعربية وإفريقية وأندلسية؟ لكن استفسارنا الإنكاري هذا لا يعني أننا ننفي وجود ثقافة عربية وإفريقية وأندلسية في بلادنا.
لقد استقبلت بلادنا هجرات لمجموعات بشرية عربية، واستقبلت ثقافة لغوية وأدبية عربية، لكن هذه الثقافة العربية الوافدة لم تتحول إلى هوية عربية في بلادنا، ولا حتى إلى شطر أو جزء من الهوية، لأنها ذابت في الثقافة الأمازيغية، ومن يقول عكس ذلك ينبغي أن يقول إن الهوية الفلسطينية هي هوية مغربية وعربية ويهودية، لأنه يوجد في فلسطين باب المغاربة وجدارهم، وعدد من الممتلكات المحبسة عليهم ولهجاتهم وطائفة منهم من المسلمين واليهود، ولأن هذه البلاد استوعبت هجرات مغربية عبر التاريخ إسلامية ويهودية ومكتباتها تتوفر على مئات المخطوطات والمصادر المغربية، وهو ما يمكن قوله عن الهوية الفرنسية والهولندية والألمانية، فهل سمعنا أن هويات هذه البلدان هويات متعددة، لأنها استقبلت هجرات بشرية وثقافية هائلة من المغرب والمشرق، بل حتى عن إسبانيا نفسها التي بقي فيها المسلمون أزيد من تسعة قرون.
كما أنه لا يمكن لأحد أن ينفي التأثير الإيجابي للوافد، لكنه لا يستطيع أن يرتقي إلى درجة الهوية، ولا حتى إلى صف المكون الهوياتي، لأن مكونات الهوية بطبعها ثابتة، وإن كانت تتغذى بعناصر ثقافية متحركة، فالتغذية تنمي الجسم لكنها لا تستطيع تبديل البصمات ولا زيادة عدد الأصابع، ولا أن تضيف يدا أو رجلا ثالثة، هذا باختصار شديد عن الثقافة العربية أما عن الإفريقية والأندلسية، فإن القول بأنهما يقفان إلى جانب الأمازيغية كمكونات للهوية المغربية لأمر مثير للدهشة والغرابة حقا.
فماذا يقصد القائلون بالبعد الإفريقي، مع العلم أن المغرب بلد إفريقي، وليس بلدا أوربيا ولا أمريكيا ولا آسيويا، ومكمن العنصرية والطائفية في هذا العنصر أن القائلين به يشيرون إلى المغاربة من ذوي اللون الأسود، وهذا قول خطير، لأنه ينبني على اللون، وإن كان أصحابه لا يتجرؤون بشرح ماذا يقصدونه بالبعد الإفريقي في بلد إفريقي أصلا، إضافة إلى أنهم يقيسون البلد على البلدان الآسيوية الغير إفريقية التي تجمعهم بها ما يدعى بجامعة الدول العربية، إضافة إلى أن أصحاب هذا الرأي لا يشخصون هذا البعد الإفريقي الذي يتحدثون عنه على المستوى الثقافي والفكري واللغوي، حتى يمكن تمييزه بوضوح.
والحديث عن البعد الأندلسي لا يخلو بدوره من إشكال عند القائلين به، ومكمن الإشكال الرئيس، هو أن الحديث عن البعد الأندلسي لا يكتسي بعدا ثقافيا وفكريا بارزا، بقدر ما يتخذ طابعا فئويا وعنصريا، حينما يتحدث البعض عن العنصر الأندلسي والعائلات الأندلسية في المجتمع المغربي، وهذا لا يعني أننا ننفي وجود مؤثرات ثقافية أندلسية على المستوى السوسيولوجي، لكن إذا قرأنا هذه المؤثرات قراءة تاريخية فسنجد أن الأمازيغيين هم صانعو الجزء الجزء الأكبر من تلك الثقافة الأندلسية، وهو تاريخ لا يحتاج إلى كبير جهد من صاحبه لإثباته، منذ الدخول وحتى موعد الخروج، لكننا لا ندعي أن الثقافة الأندلسية كانت عربية أو أمازيغية، لكنها كانت ثقافة إسبانية متعددة اللسان، ومسلمة ويهودية الاعتقاد، وحتى إن سايرنا الطرح الأندلسي القائم على العائلات والعناصر الأندلسية في بلادنا، فهل مرور قرابة سبعة قرون على إقامة هؤلاء بيننا لم يغير في ثقافتهم؟ !
أم أن هؤلاء الوافدين قد صبغوا ثقافتنا بصباغ أندلسي فتحولنا إلى أندلسيين عرقا وهوية، مع القطع بعدم وجود شيء اسمه العرق الأندلسي، فنحن نعتبر أن الثقافة الأندلسية وبعبارات دقيقة ثقافة إسبانية مسلمة، فالوفود العربية والأمازيغية إلى الأرض الإسبانية لا يمكن أن تجتث الهوية الإسبانية لتخلق هوية جديدة، بل هي التي انضمت إلى الكيان الثقافي للبلاد الإسبانية، وهو الرأي الذي ذهب إليه بتحقيق علمي غايانغوس وكوديرا وتلاميذه عبر طرحهم المعنون ب: "إسبانيا الإسلامية" إن نقدنا لهذه المقولة التي تجعل من الهوية المغربية خليطا من الأمازيغية والعروبة والإفريقية والأندلسية لا يعني أننا ننفي المؤثرات الثقافية العالمية في هويتنا، لأننا نعتبر أن القائلين بالنقاء الخالص والتميز الهوياتي لا يخرجون عن أطروحة "شعب الله المختار"، "والهوية الإلهية الخالصة والمفضلة"، إضافة إلى أن هذا الطرح يتنافى مع الرؤية الحضارية نفسها التي تعتبر عصارة الإبداعات الإنسانية والإسهامات الثقافية العالمية القائمة على المحبة والتنوير والسلام.
لكن منطق التلاقح الحضاري لا ينفي التميز الوطني للهوية، كما أنه لا توجد نسخة متشابهة للثقافة يكفي استنساخها للتطبيق المحلي، وأبرز مثال على ذلك نقدمه يتلخص في الحضارة الأمريكية، فعلى الرغم من أن هذه الحضارة انبنت على الهجرة والمهاجرين. وشكل الإنجليز القسم الأكبر، فإننا لا نسمع من الأمريكيين من يقول إن الحضارة الأمريكية حضارة إنكليزية، أو أنها هويتها تعتبر خليطا من الإفريقية والأوربية والآسيوية، إلا الذين يحاولون خداع أنفسهم وخداع الناس بقولهم إن الشعب الأمريكي شعب لقيط لا هوية له، وهذا سب وشتيمة لا علاقة لهما بالفكر الديمقراطي والنقدي.
إن المؤثرات الخارجية في أي هوية كانت يعتبر شريانا رئيسيا لإغناء هذه الهوية، كما يمكنها أن تكون في الآن ذاته عاملا لإفقارها، لكن هذه المؤثرات الوافدة يستحيل أن تعوض الهوية ذاتها، أو أن تعيد تشكيلها، وهي في شكلها وتطورها لا إرادية، أي أنها ليست اصطناعية يمكن صناعتها وفق الطلب، لأنها محكومة بمنطلق أزلية التاريخ القائم على الكيان الجغرافي كل مكوناته البشرية والسياسية، وفي الآن ذاته لا ينبغي أن يفضي بنا هذا المنطق إلى القول إن الهوية الأمازيغية قد أكملت نصابها التاريخي والجغرافي والبشري، وأغلقت الأبواب، ولهذا ينبغي البحث عن الأمازيغيين وفق نظام ونوع دموي معين، ومن خالف هذه المحددات ينبغي طرده من الهوية الأمازيغية وأرضها، مثلما كان الحال عليه عند النازيين، لقد كان يسأل بعض الجنود النازيين، لماذا تقاتل؟
فيجيب هناك بعض الألمان الجرمان الخلص خارج الوطن، فينبغي البحث عنهم وتخليصهم من هؤلاء الهمجيين، إن هذا المنطق النازي يحمل في جوهره معنى الموت والانغلاق والفناء وهو ما كان وفيا له حقا، حيث لا يخفى على أحد ما وصلت إليه النازية وربيبتها الفاشية. وخلافا لذلك نقول إن الهوية الأمازيغية منفتحة على كل وافد فكري أو بشري أي أن كل أجنبي عن هذه الجغرافيا وهذا التاريخ وهذه اللغة أراد أن يكون أمازيغيا فإن الهوية الأمازيغية ترحب به، لكن هذا قد يطرح بعض الإشكال في نظر المتلقي وقد يعتبر البعض أن هناك تناقضا في هذا الطرح، فمن جهة يعمل على نفي التعدد عن الهوية الأمازيغية أمام العناصر السالفة الذكر من عربية وأندلسية وغيرها. وفي الآن ذاته يذهب إلى القول بانفتاح الهوية الأمازيغية أمام أي وافد ثقافي أو بشري، أي أصبحنا الآن أمام ثنائية الثبات والتعدد في الهوية الأمازيغية، وهي ثنائية تبدو متناقضة لا متكاملة، وهو ما سنحاول البرهنة على تكاملها في هذا العنصر.
- ثنائية الوحدة والتعدد في الهوية الأمازيغية:
ما تعنيه بوحدة الهوية الأمازيغية، هو استطاعة عناصرها في إيجاد صرح هوياتي واحد ساهمت ثلاثة عناصر في تكوينه وتقويته عبر التاريخ، وأول هذه العناصر هي الجغرافيا: فالمكان والفضاء الذي احتضن هذه الهوية وأسهم في بلورتها ليس محايدا، ولا سلبيا، بل إن بصماته الثقافية واضحة على الهوية الأمازيغية، ومما زاد في دلالته الثقافية عند الإنسان الأمازيغي هو تنوعه وجمعه بين المرتفعات الجبلية والمنخفضات السهلية والرمال الصحراوية، وما أعطى لهذه التضاريس خصوصيتها الثقافية التي تميزها عن باقي التضاريس المشابهة لها هي حركة التاريخ، وهي العنصر الثاني المكون لهذه الهوية، وتتميز حركة التاريخ للهوية الأمازيغية بأنها عاشت حالات شبه دائمة من الطوارئ، وذلك بسبب الأطماع التوسعية والاستيلائية للإمبراطوريات العالمية على هذه الجغرافيا، وعلى خيراتها، فقد خاض الأمازيغيون معارك شرسة مع الإمبراطورية الفارسية واستطاع قورش الفارسي السيطرة على هذه البلاد، لكنه خرج منها بفضل المقاومات الوطنية والصراعات الدولية، والأمر نفسه يسجله لنا التاريخ مع الحكم الفرعوني والروماني،.
ولم يبق من الوجود الروماني سوى بعض الأعمدة منتصبة في وليلي، وما يثبت جذرية الهوية الأمازيغية في حركية التاريخ وصمودها من الانقراض، هو أن هذه الإمبراطوريات خرجت من بلادنا بدون أن نتحول إلى تابع ثقافي وحضاري لها، وبناء عليه هل يمكن أن نقول على غرار من يصفون الهوية المغربية باعتبارها أمازيغية عربية أندلسية وإفريقية أن نضيف إليها فرعونية وفارسية ورومانية؟ على اعتبار أن هؤلاء حكموا جغرافيتنا لمدة من الزمن؟ ولا شك أن الإجابة بالإيجاب تثير السخرية حقا، لكن رفضنا لذلك لا يجعلنا ننفي وجود تأثيرات جانبية على ثقافتنا بدون أن ترتقي هذه المؤثرات إلى درجة مكونات للهوية التي تتركب من الثابت والمتحول، كما أننا لا ننفي أن حركية التاريخ الأمازيغي تميزت بحالات الاستثناء نتيجة الحروب والأطماع المستمرة التي وإن استطاعت أن تمحي كثيرا من معالم الحضارة العمرانية الأمازيغية إلا أنها لم تنجح في القضاء على الهوية الأمازيغية ذاتها أو استبدالها بهويات الإمبراطوريات المهاجمة، وبذلك تعاضدت حركية التاريخ بثبات الجغرافيا والمناخ لنسج وحفظ معالم الهوية الأمازيغية، وقد يتساءل معترض.
ما هي الدلائل على وجود هذه الهوية واختلافها على غيرها؟ والإجابة عن هذا السؤال هي اللغة الأمازيغية، وتجمع اللغة الأمازيغية بين كونها مظهرا ودليلا شامخا على وجود هذه الهوية باعتبارها لا توجد في باقي مناطق العالم وخارج بلاد تامزغا، وفي الآن ذاته تعتبر الركن والعنصر الثالث من عناصر الهوية الأمازيغية، أي أنها تمظهر للهوية ومكون لها في الآن ذاته فضلا عن الخصوصيات السوسيولوجية والأنتربولوجية ونتائج البحث الأركيولوجي التي تعطي لهذه الهوية أدلة عمقها التاريخي، وليست مجرد حكايات شعبية وأساطير تاريخية، وحينما نقول إن اللغة الأمازيغية التي نتحدثها تعتبر ثالث ثابت من ثوابت الهوية الأمازيغية، لا نقول بأن هذه اللغة التي نتحدثها الآن هي نفسها تلك التي كان يتحدث بها ماسينسا ويوغرطة وتاكفاريناس، لأننا نعتبر أن اللغة كائن حي يتطور ويتأثر بمحيطه الداخلي والخارجي.
هذه هي العناصر الثلاثة (الجغرافيا والمناخ وحركة التاريخ واللغة) التي تقف عليها الهوية الأمازيغية، لكن السؤال يظل لنا مطاردا، ومفاده أن هذه العناصر الثلاثة تعتبر ثابتة وإجبارية لا تسمح للإنسان الخارجي فردا كان أو مجموعات بشرية أن يلجها، على اعتبار أنه لا يمكن للإنسان أن يختار جغرافيته في وجوده الأولي، فأين عنصر الاستيعاب والتعدد والانفتاح الذي تحدثنا عنه؟ إَضافة إلى أن هذه العناصر الثلاثة ظلت شعارا للأطروحة الجرمانية النازية أيضا حتى تقصي من الوطن من لا تتوفر فيه هذه العناصر (الجغرافيا، التاريخ، اللغة).
وللإجابة عن هذه الاستفهامات الإشكالية لابد من التذكير بأن أهم عنصر اعتمدت عليه الحركات القومية العنصرية هو العرق، وهو في نظرنا شرط يستحيل تحقيقه علميا فما بالك إثباته تاريخيا واجتماعيا، ولذلك لا نعتبر أن العرق شرط لازم من شروط الهوية الأمازيغي، وحتى إن افترضنا إمكانية تحققه العلمي والتاريخي والاجتماعي فإنه شرط يتعارض ومفاهيم الديمقراطية والمساواة والحداثة. ولهذا فإن أهم شرط على الإطلاق يمكن أن يعوضه ليشكل الحلقة الرابعة إلى جانب الجغرافيا والتاريخ واللغة هو: المواطنة.
المواطنة: هذا العنصر هو الذي يحقق شرط الانفتاح والتعدد للهوية الأمازيغية، ومفاده أن كل عنصر أو عائلة أو مجموعة بشرية التحقت بجغرافيتنا الأمازيغية وأرادت العيش فيها، فلها ذلك الحق شريطة أن تؤمن بالأركان الثلاثة للهوية الأمازيغية حتى وإن لم تنتم إليها، أي خدمة جغرافيتها، وصيانة وتبني تاريخها، والإقرار والاعتراف بلغتها الأمازيغية في كافة مجالات الحياة، وتعلمها وتعليم أبنائها بها في حالة الجهل بها والدفاع عن بلادها بموروثها الديني والثقافي والاجتماعي بكافة خصوصياته وتبنيها له بدون شروط مسبقة، ولابد من التذكير بأن مفهوم الانتماء للهوية بالمواطنة مفهوم حداثي كرسته الثورة المعرفية الغربية وثقافة حقوق الإنسان، لأنه لم يكن موجودا قبلها، بل كان الإنسان الوافد على بلد ما يعامل دائما معاملة الأجنبي، ذلك أن بعض كتب الديمغرافيا التاريخية تحدثنا بأنه حينما كانت المجاعة تصيب منطقة ما، كان الحاكم يأمر الوافدين بالخروج ليبقى الغذاء كافيا لأهل البلد الأصليين.
لقد كانت أطروحة المواطنة ثورة حقيقية في المفهوم الاجتماعي والسياسي والثقافي مسددة بذلك ضربات موجعة للأطاريح العنصرية القائمة على القومية والعرقية والعائلية والدينية والمذهبية واللونية، وبناء عليه نجد أن البلدان الديموقراطية أمريكيا وأوربيا تمنح الجنسية الوطنية للوافدين عليها، يستفيدون بموجبها بحقوق المواطنة كاملة، وإن كانت مجتمعاتها لا تخلو من جيوب عنصرية لمقاومة هذه الأطروحة في أوربا وأمريكا، فبموجب المواطنة يصبح المواطن الجديد جنديا يدافع عن هذه الأرض التي منحته جنسيتها، ويستطيع تعلم وتعليم أبنائه لغتها في مدارسها، ويصبح مجبرا على تطبيق قوانينها وتبقى له حرية التدين وحرية الأحوال الشخصية.
مع سابق التذكير بأن الانتماء للهوية عبر المواطنة هو أمر اختياري يقبل عليه الإنسان الوافد في بدايته، لكنه يتحول إلى فعل إجباري بعدها، لأنه لا يمكن للإنسان الاستفادة من خيرات البلاد ومن حمايتها القانونية له ولأهله، لكن حينما تحتاجه البلاد للدفاع عنها عسكريا أو ثقافيا، يتنصل منها، ويتبرأ من الانتماء لها بحجة أنه لا ينتمي إليها من جهة الأصول، أو أنه أجنبي عنها، وهو مايجعله ينتمي لهذا الوطن جسديا ونفعيا فحسب، وهذه هي المصيبة التي نعاني منها في وطننا، ذلك أنه –وللأسف الشديد- كلما سألت البعض أو ناقشتهم في الهوية الأمازيغية والمسألة المسألة الثقافية –وهم من كبار المثقفين- يجيبونك بأننا لسنا من هذه البلاد من الجهة الأصلية، فبعضهم يجيبونك بأنهم من أصول أندلسية والبعض يقول بأنه من أصول يمينية والآخر شامية، والآخر حجازية (لأن الاصطلاح السعودي-السعودية- حديث جدا، أتى مع آل سعود، ولا يقوتنا أن نستغرب كيف تسمى بلاد شاسعة باسم شخص أو عائلة، مع أن تاريخها موغل في القدم).
وإذا ما سألت هؤلاء عن الزمن والتاريخ الذي أتى فيه هؤلاء إلى هذه البلاد فإن أحدثهم مجيئا لا يقل عن تسعة قرون، ونحن نتساءل بمنطق العلوم الحديثة الطبيعية منها والاجتماعية والأنتربولوجية كيف يمكن لإنسان أو عائلة أو مجموعات بشرية وفدت علينا منذ قرون،وفي الان ذاته تعتبر نفسها اجنبية اوتستحيي من الانتماء لهذه الهوية لأنها تعيش في جغرافيتها ازيد من عشرة قرون من تاريخها وخيراتها ووسط وشعبها وتسمع لغتها، وإن كانت لا تتحدثها لظروف سياسية وعسكرية واجتماعية؟ بل إن هؤلاء الذين يدعون الانتماء إلى تلك المناطق –صدقا أو ادعاء- قد تشكلوا بثقافة وخصوصية هذا البلد، إلى درجة أنه لو سمح لهم أن يعودوا إلى المناطق التي يقولون أنها تشكل أصولهم لاشتكوا من الغربة والعزلة، وهو ما حدث حقا، ذلك أن كثيرا من أساتذة التعليم العالي من مدعي العروبة القومية عانوا الأمرين أثناء ممارستهم التدريس في بلدان خليجيةّ، وأقسموا ألا يعودوا إليها ولو على سبيل السياحة، بل إن بعضهم تأفف وعانى لمجرد بقائه هناك مدة الحج التي لا تتعدى الشهر الواحد، ولا ننسى أن المغنين المغاربة يعانون من عدم فهم المشارقة لأغانيهم الناطقة بالدارجة المغربية التي تعتبر إحدى ركائز المواطنة المغربية المنبثقة عن الهوية الأمازيغية، وحتى إن رفض المحتجون من مدعي الأصول الخارجية منطق الأنتربولوجيا والسوسيولوجيا، فإن المنطق الديني يقول: إن من عاشر قوما أربعين يوما صار منهم، فهل معاشرة هؤلاء لنا قرابة أربعة عشر قرنا أو ما يزيد ليس كافيا في نظرهم أن يكونوا منا؟اللهم إن كانوا يريدون منا أن نكون نحن منهم؟...
إضافة إلى أن الدين لا يمحي الهوية يل يعززها ويزيل عنها ما قد علق فيها من المظاهر اللاإنسانية نتيجة التسلط والتجبر، كما أن الحداثة والمواطنة والديموقراطية لا تعارض الهوية، بل إنها تصلح ما قد يتخللها من أعراض مضادة لحقوق الإنسان وللمرأة وللطفل وللحداثة نتيجة الاختلالات الاجتماعية والأنظمة السياسية التي حولت بعض ممارسات السطو والإلغاء والتظلم إلى أعراف ذابت في اللاشعور الجمعي فأصبحت قوانين تطبق قائمة على القوة والاستعباد، وهي أعراف نمت في الغالب في أجواء الاجتياحات العسكرية الخارجية التي عانت منها البلاد طوال التاريخ، ومن التطاحنات القبلية التي كانت تؤطرها الرغبة في السيطرة، ولهذا وجب التنبيه إلى أن دعوتنا ومطالبتنا بالأمازيغية باعتبارها هوية وطنية لا يعني إنزال الموروث الأمازيغي إلى حيز التطبيق، بما فيه تلك الأعراف المنافية لحقوق الإنسان وللحداثة، لأننا نعتبر أن بعض تلك الأعراف ليست أصلية بل هي مجرد أعراض مرضية تم تكريسها بالقوة الظالمة لا بالرغبة والحرية، وهذه الأعراض المرضية التصقت حتى بالمجال الديني المقدس عبر التاريخ، وذلك بإلصاق هذه الأعراض اامرضية بالدين،مع أنها مضادة للدين في احكامه واصوله ومصادره وكتبه المقدسة وسيرة أنبيائه ورسله، فما بالك بالهوية، نتيجة التسلط الاجتماعي والاقتصادي في التاريخ الذي ظل يتداول الأقنعة و يغيرها بين الدين والقومية.
وهذا ما يجعلنا نستخلص القول: إن الانتماء للهوية الأمازيغية عبر مبدأ المواطنة بالنسبة للأجانب، أو للذين يقولون بأن أصولهم من جهات أخرى، تبدأ اختيارية من جهة المبدأ، إذ لا إجبارية في اختيار المواطنة، لكنه إذا تم الحسم المبدئي في الانتماء للهوية الأمازيغية عبر المواطنة تتحول إلى فعل إجباري، تتطلب من صاحبها الوفاء لمكوناتها، لأنه لا وجود لمواطنة خالية من المعنى، فكثيرا ما نسمع مناداة كثير من الحداثيين والتقدميين المضادين للهوية الأمازيغية ينادون بالمواطنة، لكن إذا سألتهم عن المضمون الفكري والثقافي والتاريخي الذي يكون هذه المواطنة ويميزها عن المواطنة الفرنسية أو الإسبانية أو الإنجليزية، يصمتون أو على الأقل يقولون كلاما غير مفهوم من قبيل أن مفاهيم العولمة والديمقراطية تتخطى مفهوم الهوية في المواطنة، أي أنهم ينادون بمواطنة مثل الماء والهواء لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، مع العلم أن أطروحة العولمة ذاتها لا تتحقق إلا بالمنطلقات الهوية الصغرى لتصل إلى المفهوم العالمي الكبير وفق تصور ديمقراطي، خلافا لمفهوم العولمة القائم على فرض هوية خاصة على كل الهويات الصغرى ثم محوها، ولا أدل على ذلك أن الوحدة السياسية والاقتصادية والمالية للاتحاد الأوربي لم تلغ هويات الدول المكونة لهذا الاتحاد، ولم تتجاوزه، وهو المفهوم الديمقراطي للوحدة القائمة على تنوع داخلي، يخالف مفهوم الوحدة العسكرية القائمة على ثنائية الأوامر والطاعة والتراتبية الهرمية التي لا ترى تحققا للوحدة إلا بعد توحيد كل شيء لدى العسكر بما فيها الملابس الداخلية والخارجية والأحذية والطرابيش.
بهذه النظرة يتم الجمع والتوافق بين مفهوم الدولة الوطنية الحديثة القائمة على أساس المواطنة لا على أساس العرق أو اللون أو الدين،وفق منظور حديث للهوية الأمازيغية القائمة على وحدة الجغرافيا وحركة التاريخ ووحدة اللغة كأداة وطنية للتواصل، ذلك أن أهم ميزة لمفهوم المواطنة هذا والقائم على الهوية الأمازيغية هو أنه يشكل مظهرا للوحدة والاختلاف، والتناقض بين هذين المبدأين يؤدي إلى الحركة والتطور لا إلى الاختلاف والنزاع، ذلك أن الوحدة التي تحققها المواطنة القائمة على الهوية الأمازيغية هي أنها توحد ديمقراطيا بين المختلفين،ومثال ذلك أنها هي الجامعة بين الفرقاء الدينيين في الوطن الواحد، أي بين اليهودي الأمازيغي والمسلم الأمازيغي، وهذه الوحدة لا تتحقق على مستوى الجنسية الوطنية فحسب، بل على مستوى مرتكزات الهوية السالفة الذكر، أي الجغرافيا والتاريخ واللغة والمواطنة، وعلى مستوى النتائج والتمثلات الأنثربولوجية والاجتماعية للهوية الأمازيغية، فكلنا يتذكرفي التا ريخ القريب جدا عيش اليهود في البوادي والأرياف وهم يتحدثون الأمازيغية كلغة للتواصل مع المسلمين ويلبسون ويسكنون ويفرحون مثل المسلمين.
ولا تفرقهم إلا دور العبادة والممارسات العبادية، وإن كانت السياسة الطائفية التي جمعت اليهود في تجمعات سكنية معزولة في المدن عبر الملاحات، قد أظهرت اليهود بأنهم غرباء عن هذا البلد وعن هذه الهوية، وهو ما دفعت به حكومة فيشي الفرنسية وكرسه بعد ذلك حزب الاستقلال في إطار منافسة أقطابه مع التجار اليهود على السوق المغربي، فالهوية الأمازيغية هي التي تجمع بين اليهودي الأمازيغي والمسلم الأمازيغي، وإن كان الفهم الأصولي الذي اخترق الديانتين والمتدينين من الجانبين قد ناصب العداء للهوية الأمازيغية، وربط كل منهما الدين بالعرق وباللغة فاتخذ صورة عبرانية ولغة عبرية عند اليهود، "باعتبار أن العبرانيين هم شعب الله المختار وأن اللغة العبرية هي لغة الدين ولغة الله المفضلة عند اليهود"، كما اتخذ عند الأصوليين المتأسلمين صيغة العروبة على المستوى القومي، واللغة العربية على المستوى اللغوي باعتبارها "لغة القرآن ولغة أهل الجنة"...، بل إن هذا الفهم الأصولي انعكس ضرره حتى على مفهوم الوطن، فرأى اليهود في فلسطين الوطن الإلهي والمقدس، وهو ما أدى إلى نزف وطني عبر هجرة وتهجير اليهود الأمازيغيين إلى هناك، وعند المسلمين الأصوليين اتخذت بلاد الحجاز (العربية السعودية) قبلة وأرضا ووطنا للدين الصحيح، وهو ما جعل وطننا في نظر هؤلاء من الفريقين مجرد قاعة للانتظار، حتى تأتي الحافلة أو الطائرة لتقل كل منهما إلى وطنه الأصلي والمفضل !!.
وما يثبت أن الهوية الأمازيغية هي الجامع الموحد بين المتدينين الفرقاء هو أن ضدها يكون مظهرا للاختلاف، وهو ما سيبين ثنائية الوحدة والاختلاف المتحققة في الهوية الأمازيغية، فعبر المنهج المقارن على مستوى السوسيولوجيا الثقافية يتبين لنا أن اليهودي البولوني أو الروسي أو العراقي أو اليمني يختلف عن أخيه في الدين، أي اليهودي الأمازيغي على مستوى التجليات المعيشية واللغوية والألبسة والعادات والتقاليد، وإن كانوا على مستوى الاعتقاد الديني والممارسات العبادية يتشابهون، وهذه النتيجة عبر المقارنة ليست خاصة باليهود فحسب بل حتى بالمسلمين، ذلك أن ما يميز المسلم الأمازيغي عن المسلم العراقي والتركي والأفغاني والفارسي والأندونيسي والحجازي (السعودي) هو الهوية الوطنية بكل متعلقاتها اللغوية والثقافية والاجتماعية، مع أن هناك تطابقا تاما على مستوى الاعتقاد الإسلامي، إذ لا تختلف عدد الركعات أو سور القرآن من شعب إلى آخر ولكن تختاف الأنماط المعيشية. وهذه الاختلافات على مستوى الهوية هي ما اهتم به أصحاب الرحلات في التاريخ الإسلامي، وهي ما سجلوه عبر ملاحظاتهم الاجتماعية باندهاش كبير، ويمكن مراجعة ذلك في رحلة ابن بطوطة على سبيل المثال لا الحصر.
قد يعترض بعض الحداثيين على هذه الأفكار قائلا: إن الدولة الوطنية الحديثة لا تحتاج إلى هوية لتحقيق الوحدة، لأن تحقيق هذا الشرط يكفله الدستور وتطبيقاته القانونية عبر مؤسسات الدولة، وتحميه العدالة. وهو رأي سديد لكنه يفتقر إلى مرجع أعلى يحمي الدستور والمؤسسات نفسها في إطار العلاقات الدولية التي تستلزم رؤية ثقافية تستند إليها، ذلك أن المعنى العميق للدولة والوطن لا يتجلى في دستورها ومؤسساتها، وإلا كانت مسألة خلق الدول من عدم عبر بناء مستوطنات مثل الماء، أي لا رائحة ولا لون ولا طعم لها، أسهل من ميلاد عجل من بطن بقرة، ولا أدل على ذلك مما نعانيه في هذا الوطن من محاولة حلق دولة من لا شيء في صحرائنا، أي أن المعنى الأصيل للدولة لا يستمد شرعيته من صياغة الدساتير وبناء المستوطنات وتشكيل الجيش ورجال الشرطة، وطرز الأعلام، وتلحين الأناشيد الوطنية وفتح السفارات والقنصليات في العالم، وإصدار العملة. لأن الدولة تبنى من الأسفل وتترعرع عبر التاريخ وبتراكمات خصوصيات شعبها وإبداعاته، ولأن الإبداع الأصيل هو سر الخصوصية، كما أن الاستمرارية والمقاومة هي سر الوجود، لأننا شهدنا في التاريخ إمبراطوريات عظمى آلت إلى الاندثار، لأنها كانت تحمل في أحشائها عوامل الانفجار والإبادة.
ومما يزيد في نقد ونقض هذا الاعتراض الحداثي الذي يرى أن الدستور ومؤسساته هو الكفيل بتحقيق شرط الدولة الوطنية الحديثة، هو أن الدستور ومؤسساته القانونية لا يستطيع تشكيل وتنظيم ومراقبة دائرة الأحوال النفسية في بعدها الفردي والاجتماعي، أي أن القانون ومؤسساته لا يتدخل ولا يستطيع تشكيل أدوات التواصل داخل المجتمع من لغة وأغاني وأعراس وجنائز واحتفالات وتقاليد وأعراف، لا في المدن ولا في البوادي والأرياف، هذا إذا افترضنا حسن النية من مطبقي الدستور وقوانينه، أما إن كانت هناك نية مبيتة في محور تجليات الهوية وتمثلاتها على المستوى الاجتماعي، فإن أمثلة القوميين العرب في الفشل تعجز المتلقي عن الإحصاء، كذا ومحاولات الاستعمار الإنجليزي في الهند والفرنسي في شمال إفريقيا أكثر من أن تحصى، عبر مجازر يخجل القلم عن تسجيلها واللسان عن ذكرها.
ما نخلص إليه هو أن باب الدخول إلى الهوية الأمازيغية مفتوح وسيظل كذلك أمام أي وافد، لأن مفهوم هذه الهوية وإن كان قائما على الأبعاد الجغرافية والتاريخية واللغوية فإنه يعتبر المواطنة الحقة هي قناة الولوج إليه، وهو دليل على لا قوميته ولا عنصريته، أي أنه لا يقيم مختبرات للتحليل الدموي، حتى يستطيع المواطن انضمامه لهذه الهوية، بل يكفيه الوفاء لمرتكزاته، والدفاع عن حرماته، وعدم تشويه والتهجم على رموزه القديمة والحديثة، وانخراطه في بنائه، كما أن الهوية لا تقيم محاكم تفتيش دينية وفكرية حتى تمنح للأبرياء منهم جنسيتها، لأنها عاشت التعدد الديني والفكري عبر التاريخ، كما أنها لا تسجن نفسها في دين أو فكر واحد عبر نظرية وحيد القرن، لأنها ترى وفقا للمنظور الديمقراطي أن قوتها وتماسكها واستمراريتها تكمن في التعدد والتنوع والاختلاف وأن أي تصلب أو تيبس أو انغلاق سيؤدي إلى الموت لا محالة، فالهوية لا تقبل التعددية على مستوى الهوية ذاتها.
لأنه لا يمكن لهويات مختلفة أن تعيش في جغرافية واحدة، ولكنها لا ترى تطورها إلا في التعددية الفكرية التي ترعاها بوحدتها، وتتغذى منها في الآن ذاته، فهويتنا على سبيل المثال، كانت قد انفتحت على الفكر العربي منذ قرون، واستوعبت عناصره الإيجابية في الأدب والفلسفة وغيرها من فروع العلم، لكن لا يمكن القول إن هذا الفكر قد تحول إلى هوية عربية إلى جانب الهوية الأمازيغية، وإلا لكانت بلادنا نسخة كربونية من "العربية السعودية" أو من اليمن، كما أن هويتنا الأمازيغية كانت ومنذ قرون قد انفتحت على الفكر الأندلسي، بأدبه وفقهه وفلاحته وتاريخه، بل احتضنت ومنذ قرون حتى عناصره البشرية فرادى ومجموعات بعد طردهم، لكن ذلك الفكر لم يرتق إلى مستوى الحديث عن هوية أندلسية أو إسبانية تقف شامخة إلى جانب الهوية الأمازيغية، بل إن ذلك لم يتحقق حتى في مدينة مليلية المحتلة التي احتلت منذ أزيد من خمسمائة سنة ومازالت محتفظة بهويتها الأمازيغية لغة وعادات وتقاليد، بل إن سكانها من المستوطنين الإسبان يعيشون تشوهات ثقافية على مستوى الهوية، فلا هم إسبانيو الهوية ولا أمازيغيون، رغم الإغراءات المعيشية الموفرة لهم هناك، كما أن هويتنا الأمازيغية قد احتكت بالهوية الفرنسية زمنا طويلا، وذلك من جهتين، الأولى: وتتمثل في الاجتياح العسكري والثقافي الفرنسي عبر مئات المدارس والبعثات الفرنسية والمؤسسات الثقافية التي زرعتها في بلادنا، أما الجهة الثانية فتتعلق بتدفق آلاف من مواطنينا إلى فرنسا الأميين منهم والمثقفين والجامعيين، كل ذلك لم يجعل من الهوية الفرنسية شريكا أو قرينا للهوية الأمازيغية، مع أننا لا ننكر أن صدمة الحداثة الفرنسية كانت قوية جدا على شبابنا الأميين منهم والجامعيين، مما أدى إلى تشوهات ثقافية ونوازع مرضية نلخصها في اتجاهين:
الاتجاه الأول: اعتبر أن كل ما يمت بصلة إلى هذا الوطن وإلى هذا المجتمع وهذا التاريخ يعتبر دليلا على التخلف والرجعية، ولضمان تقدم سهل وسريع لابد من تكريط هذا التاريخ وهذا الوطن من كل شيء ومعانقة فرنسا وأوربا من أجل التقدم، وهو ما يتجلى في تفرنس وتغريب أصحاب هذا الاتجاه، وهو ما نقرأه في رواية أوراق للعروي.
الاتجاه الثاني: أدت به الدهشة بالتطور الثقافي الفرنسي إلى الانغلاق على النفس والعمل على إيجاد بديل تقوقعي لفك هذه الأزمة، وهو ما أدى بهؤلاء إلى الممارسة الأصولية عبر آليات التشريق، رغبة منهم في مكافحة التغريب، متلبسين بذلك لبوسا دينيا.
أما الخلاصة التي نصل إليها فهي أن الثقافات الأجنبية شرقية منها وغربية قد أدت إلى نتائج مثمرة على مستوى الثقافة الوطنية ونضج أفكارها وخططها وهو ما أدى إلى تقوية الهوية الأمازيغية وتطويرها وتحديثها بكل ما يتناسب ومقومات الفكر الإنساني الحديث، لكن هذه النتائج المثمرة لا يمكن أن ترتقي إلى أركان تقف إلى جانب الهوية الأمازيغية لنقول في تعريفها إنها تحالف مجموعة من العناصر الثقافية، وهو ما ينطبق على الهوية الفرنسية أو الإسبانية ذاتها، فلا يقول الإسبان في تعريف هويتهم أنها متعددة ومشتملة على الثقافة اليونانية والقوطية والإسلامية والعربية والقشتالية، مع أن البلاد مملوءة بالآثار الإسلامية، وهو ما ينطبق على بلاد الحجاز أيضا (العربية السعودية) فقد علمنا من خلال التاريخ والشعر كيف كانت حالة البلاد من خيم وأعراف اجتماعية مهينة للإنسان وقاتلة للمرأة (العبودية+وأد النساء)، لكن انفتاح هذه البلاد وسكانها على الحضارات المجاورة لها بعد قدوم الإسلام بما فيها الحضارة الفارسية والهندية والحبشية واليونانية بعد حركات الترجمة، كل ذلك قد أدى إلى نهضة في الفكر والعمران في بلاد الحجاز، إضافة إلى انفتاحها على الانكليز في القرون الأخيرة، وهو ما حول الحياة فيها والتفكير إلى أنماط ومظاهر أخرى، فهل نسمع في وصف الهوية السعودية أنهم يقولون: إن هويتنا هندية فارسية، حبشية انكليزية؟ لا بالطبع، إننا نسمع الهوية العربية، ذلك أن الانفتاح على تلك المؤثرات لم يجعل منها أعمدة هوياتية تقف إلى جانب الهوية الأصلية للبلد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.