في هذه الورقة يلامس الكاتب النقاش اللغوي الراهن بالمغرب، المتجلي في موقفين متعارضين: واحد داعم للدارجة بدون شرط، وآخر شاجب لها بتطرف. ويشير الكاتب إلى أنه بين الموقفين ظهر موقف آخر، صوته خفيض، يحصر الدارجة المغربية في دائرة التعليم وبعدها الأداتي، لكنه يضعها في سياق ثقافي عام على اعتبار أن اللغة ليست أداة فقط، ولكنها حامل ثقافي لقيم وحضارة موغلة في القدم. محمد رمصيص * أنتج النقاش اللغوي الراهن بالمغرب موقفين متعارضين: موقف داعم للدارجة بدون شرط، وآخر شاجب لها بتطرف. وبين هذين الموقفين ثمة وجهة نظر ثالثة لا تحصر الدارجة المغربية في دائرة التعليم وبعدها الأداتي، ولكنها تضعها في سياق ثقافي عام على اعتبار أن اللغة ليست أداة فقط، ولكنها حامل ثقافي لقيم وحضارة موغلة في القدم. في هذا السياق نسجل بداية عشر ملاحظات أساسية قبل التوسع في سؤال اللغة بالمغرب الآن. يخطئ من يمارس الوصاية والحجر على الدارجة المغربية والإبقاء عليها كلهجة بعدم تقعيدها. ويتناسى أن اللغة كائن حي وخاضع للتطور والنمو، وهذا يعني أنه آن الأوان للدارجة المغربية كي تغادر فترة الطفولة وذلك بتقعيدها وكتابتها بشكل موحد. الخوف المرضي من تقعيد الدارجة المغربية غير مبرر الآن (هنا لا نناقش التدريس بالدارجة). لماذا كلما أثير سؤال الدارجة المغربية انخرطت الأغلبية في سكيزوفرنية غريبة وذلك برفضها، مع الافتخار بالهوية المغربية في اللباس والطبخ والسينما والغناء، فيما تشكل الدارجة الاستثناء؟. لماذا نضع الدارجة في مواجهة اللغة العربية المعربة، والحال أنهما في تكامل لا تفاضل. إن تصوير العلاقة اللغوية بالمغرب بأنها حرب مواقع واحتواء طرف لطرف آخر طرح مغرض، يريد جر الرأي العام للاعتقاد بأن اللغة العربية في خطر والحال غير ذلك. عندما نربط سؤال الهوية باللغة العربية المعربة ونطابقها بالإسلام، ونتصور الأمر أنهما شيء واحد نخطئ لأننا لا نعي أن المقدس هو الوحي، وأن المعتقد مستمر ومتغلغل في وجدان الشعوب بصرف النظر عن اللغة، بدليل انتشار الإسلام مثلا في إيران ولغتها هي اللغة الفارسية. اللغة العربية إذن لغة رسمية ل22 بلدا عربيا ويتحدث بها أكثر من 400 مليون عربي، بينما الإسلام دين لمليار ونصف المليار من البشر على وجه الأرض. في زمن التواصل الافتراضي والرقمي أضحى من الأليق بنا كشعب أن نقعد هذا الرافد اللغوي والهوياتي، وإلا سيمحى أمام اكتساح اللغة الإنجليزية والفرنسية. ليست هناك لغة أحسن من لغة، وليست هناك لغة راقية وأخرى رديئة. ولكن هناك مستعمل رديء للغة وآخر راق. قوة اللغة تستمدها من مستعملها وليس العكس. عندما نناقش المسألة اللغوية بالمغرب ما يحكمنا هو السقف الثقافي وليس السياسي حتى لا يزايد علينا أحد، دفعا لكل توصيف إرهابي يرفع في وجه الدارسين للمغرب اللغوي صفة الفرانكفوني. فهذه القراءات التخوينية لا تنتج سوى الأجواء المتشنجة البعيدة كل البعد عن الحوار العلمي، الذي يقتضي أساسا التسليم بأن الحقيقة نسبية، وأن كل طرف يمتلك جزءا منها. القول بضعف الدارجة وأنها لا تملك رصيدا علميا ولا تراكما نوعيا قول يضع النتيجة محل الأسباب، ويريد أن يوهمنا بأن هذه خلاصة ثابتة، والأمر غير ذلك. أتساءل هنا من هي اللغة التي خلقت بهذه الكفاءات؟؟ أليس الجهد البشري والاستعمال اللغوي اليومي للغة عبر خيط التاريخ هو الذي يتدرج بالدارجة إلى أن تصير لغة؟ إن أي لغة هي تاريخ تراكمها منذ كانت لهجة. التقعيد والكتابة الموحدة للرسم هما اللذان يرتقيان باللهجة إلى مصاف اللغة وليس شيء آخر. صمت الجامعة المغربية والمجلس الوطني للغات والثقافة واتحاد كتاب المغرب وإطارات ثقافية موازية عن النقاش اللغوي الراهن بالمغرب يجعل النقاش ينزلق نحو منعطفات المغرب في غنى عنها هنا والآن. بإبعاد الدارجة عن التقعيد نكون قد حذفنا وسيطا لغويا يسعف المغاربة في التعرف بدقة على روافد الأدب المغربي ومحاولة دراسته بشكل علمي للمغاربة:عيطة، حلقة، ملحون، زجل، حكمة، أمثال، مرويات شعبية.. بعدم تقعيد الدارجة نستبدل غنى الهوية المغربية بضعفها. إن غنى الدارجة المغربية لا يتمثل في بعدها التواصلي، ولكن في تجلياتها الإبداعية. فالدارجة المغربية دون مزايدة شكلت وجداننا جميعا كمغاربة. ولهذا قلنا إن التصور الأداتي للغة تصور مختل غير التصور الثقافي لها. 1 -التعدد اللغوي بالمغرب وسؤال الهوية: عادة ما تختزل اللغة في وسيط تواصلي، والحال أنها بطاقة هوية بها نحيى وبها نودع الحياة كذلك من خلال شاهد القبر. في الواقع، اللغة لها سلطة حتى على زمن الموت. باللغة نحيي الأموات، وبها نختار الموت لمن نشتهي دون أن نتعرض للقصاص. إن سؤال اللغة سؤال مركب يستدعي التأمل في قضية الهوية والتاريخ والثقافة. سؤال يمتد إلى مفهوم الأصل والفرع، اللغة الأم واللغة المكتسبة. سؤال يقتضي الكثير من الحفر في جوهر الهوية اللغوية المتعددة للمواطن المغربي. وللاحتفاء بهذا التعدد اللغوي يلزمنا تهييء شروط معرفية دقيقة لتكريس سلم لغوي مأمول.علما أن تعددنا اللغوي هو مصدر ثراء لهويتنا في حالة التعاطي معه بوضوح وموضوعية. أقصد تحديد إطار الاشتغال ذي السقف الثقافي، بمعنى أن انتماءنا إلى المغرب لا يعلى عليه. ثم إن إدراك الغاية من دراسة التعدد اللغوي بالمغرب هو تحقيق تواصل تام بين كل المغاربة والدفع في اتجاه توثيق كل مكونات الهوية المغربية والحفاظ عليها، روافد في ملكية الجميع ولا تخص طرفا دون آخر. فبإهمال دارجة وتركها دون تقعيد نكون قد كرسنا انفصاما لغويا وعزلة لسانية. فالذي لا يعرف إلا لهجة واحدة هو بالتأكيد يضيق من دائرة تواصله وإلمامه بالحضارة والثقافة المغربيين. إذن بدراسة وتقعيد الدوارج المغربية (حسانية، دارجة..) نكون قد هيأنا شرط دراسة ثقافة وآداب كل المغاربة، وقمنا بمصالحة مع التاريخ بعد الإقرار بالأخطاء المرتكبة في حق أحزمة لغوية معينة على اعتبار أننا جميعا مغاربة، وهذا يعني أننا عرب وأمازيغ وحسانيون وتاريخ المغرب تاريخنا جميعا. إن التصور الثقافي للغة يعي جيدا أن اللغة ليست أداة فقط، بل رافعة حضارية وجب الاعتناء بها كما ينبغي. وفي حال تحقق هذا الشرط يتحقق السلم اللغوي. 2 -العلاقات البين لغوية بالمغرب: تتصف علاقة الأحزمة اللغوية في المغرب فيما بينها بالتوتر، وهو على كل حال توتر غير مبرر. بل إن الذي يضع العربية المعربة في مواجهة الدارجة شخص غير سليم الطوية، على اعتبار أننا لسنا ملزمين بالتخلي عن طرف أو آخر مادامت الهوية المغربية هوية متعددة في الأصل، وتغتني أكثر بتنوعها وليس بتماثل روافدها. الملاحظة الثانية هي أن الوضع غير المتوازن للدوارج وقوة طرف دون آخر يرجع بالأساس لما يقدم ماديا ولوجستيكيا لهذه الدارجة أو تلك. الملاحظة الثالثة هي أن ضعف لغة ما غير كامن فيها بنيويا، ولكنه في الإمكانات المسخرة لها. بمعنى أنه ليست هناك لغة قوية وأخرى ضعيفة، ولكن هناك مستعمل قوي وآخر ضعيف. الملاحظة الرابعة هي أن القول بالتعدد اللغوي بالمغرب يفضي بنا إلى أن قوة وحدتنا تكمن في تعددها وليس في تماثل مكوناتها، والمدخل الحقيقي للمجتمع الحداثي هو الإيمان بالتعدد. علما أن الخوف من التعدد اللغوي لم يعد له مبرر الآن خلافا لفترة الاستعمار السابقة. وبالتالي، فإن التعايش اللغوي بالمغرب يلزمه توفير شروطه الموضوعية. عند هذا المستوى من التحليل يطرح السؤال: كيف السبيل إلى رد الاعتبار لهذه الأحزمة اللغوية؟ -أولا، خلق معاهد متخصصة في البحث اللغوي والدراسة لكل مكون برصد ميزانية محترمة وهيئة بحث أكاديمية مع وضع معاجم متخصصة في الحقول المعرفية المتعددة. -ثانيا، تجميع كل امتدادات الدوارج في بعدها الأدبي والثقافي في مصنفات مستقلة، بدءا من الأمثال والحكم والمرويات والأشعار والأزجال، وقوفا عند الأساطير المحلية كهينة والغول وحديدان الحرامي وما شابه ذلك. -ثالثا، إشراك هذه الدوارج في مسار التنمية بشكل أوسع. علما أن الدارجة مثلا حاضرة في أغلب الأفلام السينمائية، بل الإشهار وما شابه ذلك. وهذا بعد تنموي، فضلا عن كونه بعدا تواصليا. رابعا، اقتراح نصوص أدبية للتدريس تنتسب إلى دوارج تصل المتعلمين بمجالاتهم الجهوية (حسانية، أمازيغية، دارجة). خامسا، إدراج وزارة الثقافة مسابقات ثقافية أدبية موزعة على مختلف الدوارج، مع طبعها وتوزيعها على نقط قراءة بعينها قصد مد الجسور مع روافد الهوية المغربية. فقط للوصول إلى هذا المطمح لابد من إرادة سياسية واضحة لا لبس فيها. 3 - رهانات تقعيد الدارجة: إن المقاربة الثقافية للدارجة لا تعتبرها مجرد أداة تشبه باقي الأدوات التي نتخلص منها بمجرد استعمالها. إن الدارجة أعمق بكثير من اختزالها في أداة، لأنها خزان للثقافة وحاوية للحضارة ومرآة للتاريخ والقيم والسلوك. إننا بتقعيد الدارجة ورصد مختلف تجلياتها البلاغية نتجاوز دارجة التواصل اليومي ذات الوظيفة التعيينية إلى دارجة تمتد للكتابة الأدبية، والتي تتخطى البعد النفعي للوظيفة الجمالية...إن دارجة الملحون والزجل والمرويات الشعبية مثلا أغنى بكثير من حيث الصور والمعجم والصيغ والتراكيب قياسا بالدارجة اليومية، التي لا تستعمل إلا عددا قليلا جدا من المفردات. بتقعيد الدارجة نحفظ وفرة من المفردات من التلف ونخلص إلى صيغة معيارية لها، ونرتقي بذوق المستعمل، ونوسع من أفقه، وننتقل بالدارجة من المستوى الشفوي إلى المستوى الكتابي. مستوى يعطي فرصة للباحث كي يتفاعل معها أكثر من الانفعال بها. إن تقعيد الدارجة ينتهي بنا إلى تكريس تعدد لغوي صحي بجوار العربية المعربة والأمازيغية والحسانية. علما أن التعدد مدخل حقيقي للمجتمع الحداثي، كما أن الهوية المغربية برهانها على التعدد وليس الأحذية تغتني. ولبلوغ هذه الغاية لا بد من أرادة سياسية واشتغال علمي بعيد عن النزوات وردود الفعل. فالمعرفة لا تصبح علما إلا عندما نحدد لنفسنا موضوعا ومنهجا ولغة خاصة. إن حيازة هذه الغاية الكبرى لا بد لها من تخطيط لغوي علمي يبدأ بتأسيس مجمعات لغوية بها خبراء لسانيون يبدؤون باستشارات لغوية واسعة للناس في البادية كما المدينة قصد تجميع متن يخضع للفرز حسب سجلات لغوية، وبالتالي وضع معاجم مستقلة تفيد المبدع والباحث كما المستعمل العادي، سواء كان مدينيا أم بدويا، لتأسيس عدالة لغوية توفر الشرط الموضوعي، الذي يناقش الأفكار وليس الأشخاص، ويجعلنا نتخلص من أنانيتنا والطرح الإيديولوجي المغرض للغة. استنتاج تركيبي: تقعيد الدارجة احتفاء علمي برافد لغوي هوياتي للمغاربة جميعا لا يروم على الإطلاق الدخول في صراع مع العربية المعربة، التي يلزم الحفاظ عليها، بل الاستمرار في التدريس بها. إن السعي إلى تقعيد تعدد لغوي بالمغرب يطمح إلى تسييد عدالة لغوية. علما أن العالم كله يسير نحو التعدد والديمقراطية، والمغرب مطالب بالسير في الأفق ذاته. بالتقعيد ننزع عن الدارجة بعدها الفطري ونرتقي بها إلى المعيارية والتجريد، ونسهل على الدارس المغربي وغير المغربي تداولها بالدرس والتحليل، مستلهمين روح الدستور (2011) المستهل بالحديث عن حقوق الإنسان ومنها الحقوق اللغوية. بمعيرة الدارجة نخلص الثقافة الشعبية (العيوط، الحلقة، الملحون، الزجل..) من النظرة الفولكلورية، التي تعتبرها ترفا وفضلة إن لم نقل فرجة بالمعنى القدحي للمفردة. يبقى أن نشير إلى أن تقعيد الدارجة لا يعني على الإطلاق الانغلاق على الذات والانصراف عن اللغات الحية، بل تجسير الصلات معها على خلفية علمية، خلفية يمكنها أن تخلصنا من ردات الفعل المنفعلة، وسحب فتيل التوتر السائد بين الأحزمة اللغوية بالمغرب الراهن. * أستاذ باحث.