تعتبر قضية اللغة وجهاً متميزاً من بين قضايا المجتمع، إذ لا تمس فقط حقول المعرفة والتاريخ والحضارة، ومجالات التربية والتعليم، بل ترتبط بقضايا تطور الأمم وإنتاجها المعرفي في علاقته بعجلة الاقتصاد والتنمية، وهي بذلك ليست قضية مجتمع ما. إذ أن كل المجتمعات الدولية من دون استثناء تواجه معضلة اللغة، لكونها متعددة الأبعاد على عدة مستويات، أي ما يرتبط بالتداول اللغوي في أوطانها، في ضوء موقع لغتها الوطنية أو لغاتها الوطنية، وما له علاقة بالإجراءات الإدارية والثقافية والممارسة التعليمية والإعلامية والبحث العلمي، إذ تهدف من وراء ذلك إلى تعزيز مكانتها على المستوى الدولي وإشعاعها، ومواكبتها للتطورات التكنولوجية والأبحاث العلمية؛ وبذلك تتولد عن كل القضايا المشار إليها أعلاه إشكالات حقيقية تفرض خضوعها للبحث والدراسة، يمكن حصرها فيما يلي: - مستويات الكفايات اللغوية في المرافق التعليمية من التعليم الأساسي إلى التعليم الجامعي. - مدى سيادة اللغة الوطنية في مرافق مؤسسات الدولة وإدارتها. - معالجة أساليب تطوير اللغة ومواكبتها للتطور العلمي، وتطور وسائل الإعلام وما له علاقة بالتكنولوجية الحديثة والارتباط بتطوراتها. *** تحتل هذه القضايا الواجهة بالنسبة لكل الدول المتقدمة تكنولوجياً، حيث يبرز الوعي بمشكلات لغاتها الوطنية، سواء تعلق الأمر بالتركيب أو بالمصطلح أو بالمعجم، فضلاً عن البحث البيداغوحي والتربوي والتعليمي، ومعالجة الضعف الناشئ في ممارستها من خلال الاستقراء والأبحاث الميدانية، مما يدعوها إلى تخصيص كل الدعم اللوجستيكي والمادي لتطويرها ولتفرض وجودها وطنياً ودولياً. وفيما يتعلق بلغات دول العالم غير المنتجة للتكنولوجية، وبالأخص الدول التي كانت خاضعة للهيمنة الاستعمارية، يلاحظ أن أغلبها يعيش وضعاً لغوياً متردياً إلى درجة فقدان مكونات هوياتها، والخضوع للسوق اللغوية الرائجة، وهناك دول تصارع وتقاوم متشبثة بمقوماتها وتاريخها وحضارتها، وهناك دول تتجاهل مشاكلها، وتفضل السكوت عنها، مما يعمق أزماتها اللغوية ومشاكلها على أكثر من مستوى. ونحن في المغرب، من ضمن الأقطار المغاربية والعربية، تعيش وضعاً استثنائياً وغير استثنائي في آن واحد، لكوننا نحمل إرثاً تاريخياً مزدوجاً، له معالمه الحضارية والثقافية، مما نتج عنه وضع التعدد اللغوي. إذا كانت اللغة صيرورة تاريخية في كينونتها الحية ترتبط بنصوصها وأدبياتها وأشكال مكونات ثقافتها، فإنها تعكس بالضرورة أحوالها وقيمتها، لذا فإن أي مسار للتقدم في مضمار التطورات الحضارية لا يمكن أن تُغيَّب فيه المسألة اللغوية باعتبارها مقياس التخلف أو التقدم. يقودني هذا التقديم إلى طرح أسس المعالجة اللغوية التي اعتمدت منذ بداية سنوات الاستقلال، حيث ارتكزت على مقولة التعريب لتحل إشكالية التدريس، وقد طرحت في سياق الغليان الوطني، إلا أنها كانت دون محتوى، ودون إطار علمي دقيق، نظراً لعدم ارتباطها باستراتيجية لغوية، وفوق هذا وذاك، كان يكتنفها الغموض والالتباس، إما قصداً أوعمداً، وإما تلافياً لعرقلة ما هو مضمر، إذ ما ميز سنوات ما بعد الاستقلال هو ظهور نخبة سياسية مكونة تكويناً علمياً وتكنولوجياً بلغات أجنبية ارتقت ببساطة سلم المسؤوليات الإدارية ومؤسسات الدولة، فأغلقت الأبواب على ما عداها، وقد أهلها لذلك وضعها الطبقي فضلاً عن تكوينها. لقد أنتجت هذه الوضعية فئات اجتماعية ظلت تتخبط في إشكالية الازدواجيات اللغوية، وخضوعها لتغيير البرامج والمناهج من فترة إلى أخرى، مما جعل تكوينها ضعيفاً لا يرقى إلى مستوى الطموحات المطلوبة لاحتلال مراكز القرار. استمرت هذه الوضعية الشاذة خلال أربعين سنة مما أدى إلى تعدد المشاكل اللغوية، مشاكل كان يتم في أغلب الأحيان تجاهلها، واعتماد سياسة الترقيع اللغوي، وخلال أواخر التسعينيات لم يعد بالإمكان السكوت عن المسألة اللغوية وكان لبروز التيار الأمازيغي دور أساسي لإمعان النظر في إشكالاتها، وهذا ما تم التعبير عنه في الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وشكل بذلك إطاراً للتأمل، وأرضية للتفكير في ضوء نتائج تطبيقاته، ويلاحظ في هذا الصدد أن الإشكالية اللغوية مازال أوارها مشتعلا، نظراً لطبيعتها المعقدة في ظل مجتمع يتميز بالتعدد اللغوي، وتفاوت مستوياته اللغوية، مما طرح على المجلس الأعلى للتعليم مجموعة من المهام الكبرى لإيجاد حلول ملائمة ولو نسبية بإشراك كل الفاعلين المهتمين بقضايا التعليم والتربية، في أفق وضع سياسة لغوية ذات استراتيجية هادفة تستجيب لمتطلبات المرحلة التي نعيشها. إذا كان أهم ما يميز الوضع اللغوي في المغرب هو التعدد اللغوي على اختلاف مستوياته، وهو الأمر الذي يصعب تجاوزه، فإن علينا بداية تحديد طبيعة هذا التعدد. توجد في المغرب لهجات تعد من مكونات المجتمع المغربي، كل منها لها تاريخ وثقافة، وعلى الرغم من تباينها تشكل نسيجاً اجتماعياً، مع أن بعضها يفتقد للوحدة اللغوية بين أنساقها لاختلاف منابعها، وهي بذلك تعد ذات خصوصية إقليمية، تمكنت بفضل عوامل تاريخية واجتماعية ومعتقدية بأن تصب في مصب الوحدة الوطنية لضمان استمرارية الوجود للنظام السياسي. لقد أشرت في البداية إلى أن قضية اللغة تمس حقول المعرفة في شتى أوجهها، كما أضحت مرتبطة بعجلة الاقتصاد والتنمية، وهذا ما يفسر اهتمام علماء اللغة وعلماء الاقتصاد بكل ما له علاقة بقضايا اللغات الوطنية، وقدموا أبحاثاً نظرية مستفيضة، وأبحاثاً ميدانية في ضوء مدى تأثير السياسات اللغوية في بنية المجتمع على الرغم من اختلاف توجهاتها. بدهي أن كل مجتمع يعرف مستويات لغوية، قد تكون محصورة أو متعددة، لغة رسمية وطنية ولهجات كثيرة متداولة من أصول مختلفة أو من أصل واحد، وقد ينشأ عن هذا الوضع صراعات لغوية، وهذا ما يدعو إلى البحث في أدوارها من حيث مبدأي الفعالية والتنمية، وإيجاد حلول لها بوعي منفتح ومتفتح للحد من تفاقم مخلفاتها السلبية، وفي أفق وضع تصور مرن للمنظومة التعليمية والتربوية في علاقاتها الوطيدة بأسس التنمية الوطنية والبشرية. هنا يطرح السؤال المركزي حول الأسس العلمية التي ينبغي اعتمادها لوضع تصور مرن للمنظومة التعليمية والتربوية في علاقاتها بالتنمية. يصعب على أي مجتمع يسود فيه التعدد اللغوي أن يضع استراتيجية لغوية لسياساته في غياب تخطيط لغوي يأخذ بعين الاعتبار البنيات الاجتماعية والفكرية والأوضاع الاقتصادية، ومجمل الأفكار المتداولة في المجتمع والمرتبطة بالحقوق اللغوية والثقافية، مما يساعد على تقديم تصور واقعي، في إطار رؤية شفافة، لوضع خطط عملية لسياسة لغوية وطنية قادرة على استيعاب كل مكونات المجتمع في سياق تطوره. إن من بين المهام الأولي التي من المفروض أن يتضمنها التخطيط اللغوي، وما ستسفر عنه نتائجه هي تحقيق المساواة والمطالب اللغوية والثقافية، بهدف إتاحة كل الفرص الاقتصادية الممكنة سواء على المستوى الدراسي أو التكوين المهني من دون إقصاء، إذ أن النظام السياسي يتولى في هذا الصدد تدبير الشأن اللغوي بعيداً عن الانغلاق والجمود المجتمعي، إذ يسمح بإنهاء حالات ركوده وصراعاته الداخلية، وإلغاء أي رؤية أحادية الجانب بطواعية، ومن دون إكراه، ما دام يعتمد نتائج التخطيط اللغوي المحدد لطبيعة التعدد والقائم على استقصاء كل مظاهر اللغات السائدة وحالاتها، وهذا ما يؤدي على إحقاق ما يمكن أن نسميه بالديمقراطية اللغوية ذات الارتباط بما له علاقة بتنظيم المجتمع والسلطة السياسية. يرتبط التخطيط اللغوي الهادف إلى وضع استراتيجية للسياسة اللغوية بقضايا الاقتصاد، وفي علاقاتها بالبنيات الاجتماعية والثقافية والإنتاج الوطني، ومن ثمة تخضع العملية التعليمية لخلاصاته وتوجهاته. ما عشناه من إشكال لغوي منذ خمسين سنة تجلى في غياب أي تخطيط لغوي، مما أدى إلى التخبط والتقهقر والعشوائية، وقد انعكس كل ذلك على البرامج الدراسية ومناهجها، فضلا عن محتوياتها ومضامينها، ويبدو أن سياسة الخلط والتخبط والعشوائية كانت مقصودة لذاتها لتمرير ازدواجية لغوية مشوهة غير قائمة على أسس واقعية اجتماعياً واقتصادياً، مما سمح للغة الفرنسية أن تحتل العقليات والذهنيات ومرافق الدولة، وتصبح معياراً للكفاءة الإدارية، وتناط بها مهام التسيير والتدبير، وتوارت إلى الخلف اللغات الوطنية، وغدا تحصيلها مرهوناً بشرائح اجتماعية محددة الملامح، مما عمق الادعاء بأنها غير صالحة لمواكبة علوم العصر، ووضعها في خانة التخلف، أي أن وضعها يشبه تخلف متكلميها، لاشك أن سيادة لغة بواسطة النخبة المتكلمة بها، واحتلالها لمرافق الدولة يجعل منها بالضرورة لغة الحضارة والتقدم، ومعبراً للرفاهية والوجاهة والسلطة على حساب 98% من الساكنة التي تتكلم لغاتها الوطنية، إن هذا الواقع المستفز يؤدي إلى التناحر وإيقاظ مشاعر الحقد والصراعات الاجتماعية، ويعمق الفوارق الطبقية بفعل التقسيمات اللغوية المغيبة لحقوق المواطنة. يقودنا الأطلس اللغوي الذي يحدده التخطيط معرفة المستويات اللغوية القائمة على التعدد اللغوي الذي يزخر به المجتمع المغربي، وهذا ما أعتبره شخصياً قيمة مضافة في الحياة الوطنية، الأمر الذي يدعو منطقياً وحتمياً للاعتراف بمواطنة كل أفراد المجتمع الذين يتكلمون عدة لغات في مسعى لتقوية العلاقات الاجتماعية القائمة على قواسم مشتركة من الحضارة والثقافة والتاريخ والدين، ونتائج الارتباط بالهوية المشتركة، أي ما يوحد توجهاتها واهتماماتها وطموحاتها. تقودنا هذه الرؤية عند وضع تخطيط لغوي إلى اعتبار التعدد اللغوي من مكونات الهوية الوطنية المغربية، تخطيط لغوي يسمح بتدبير معقلن للسياسة اللغوية، تدبير قائم على إعطاء أهمية قصوى لتداول اللغات الوطنية، من منطلق أن أي نوع من التنمية الوطنية والبشرية لبلادنا يصعب ضمان إرساء صيرورته ما لم يرتبط بلغة متكلميها، ولقد أضحت هذه المقولة تفكيراً مشتركاً بين علماء اللغة وعلماء الاقتصاد. لم يعد بالإمكان الحديث عن أي لغة، وعن تقدمها أو إحيائها وإصلاحها وإشاعتها دون الحديث عن علاقتها بالاقتصاد والتنمية والبحث العلمي، فضلاً عن الثقافة والحضارة. تبرز في هذا المجال دلالة اللغة وأهميتها، والأدوار، المنوطة بها. عندما نتحدث عن الاقتصاد فإن ذلك يعني كل القطاعات ذات الصلة، أي كل القطاعات التي يرتبط بها المواطن يومياً، وتعد جزءاً من حياته المعيشية، قطاعات الصناعة الغذائية والطبية، وقطاعات النسيج بأشكال منتوجاته من ألبسة ومشتقاتها، وقطاعات الفلاحة بكل إنتاجاتها، وقطاعات صناعة الإعلام والتكنولوجية الحديثة التي أضحت متداولة بغزارة... كل هذه القطاعات وغيرها ترتبط بشرائح المجتمع، من المواطن العادي البسيط والعامل والفلاح إلى الفني والمتخصص والمهندس والمعلم والأستاذ... وفي هذا المضمار بالتحديد فإن كل الألفاظ المتداولة في كل القطاعات بمصطلحاتها لكي تكون منتجة وفعالة ومثمرة وذات مردودية يجب تداولها باللغات الوطنية باعتبارها قواسم مشتركة بينهم، ولكون نسبة متكلميها يشكلون أزيد من 98% من السكان. السؤال الجوهري هنا كيف يمكن أن نطور اقتصادنا ونحقق تنمية وطنية في ظل سيادة لغة أجنبية لا يتكلمها أقل من 2% ومن يتكلمها إتقاناً عن معرفة لا يتجاوز واحد في المئة من مجموع السكان. من هنا فإن نقل العلم والتكنولوجية بلغة أجنبية من شأنه أن يؤخر عملية التنمية الوطنية، ويقف دون التقدم الاقتصادي والصناعي، وكذلك ما له علاقة بالتعليم والبحث وتطوير المعرفة، وهذا رأي علماء الاقتصاد والمنظمات الدولية، وليس فقط رأي علماء اللغة، الذين يحثون على ضرورة التعلم والتدريس باللغات الوطنية لتحقيق التنمية الشاملة التي تمس كل القطاعات وكل الفئات الاجتماعية. لكل هذه الاعتبارات يمكن القول بصفاء علمي وأكاديمي ومنهجي واقتصادي بأن تبني اللغات الوطنية، أي اللغة العربية واللغة الأمازيغية في العملية التعليمية والبحث العلمي يعد من ركائز التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لا غنى عنهما مما يفرض تطوير أدواتهما ومصطلحاتهما وتراكيبهما، وهذا من مهام الباحثين والعلماء. تطرح في هذا الصدد بالنسبة لكل المجتمعات، مسألة اللغات الأجنبية كواقع دولي وعولمي، إذ ليس بالإمكان استبعادها أو عدم الارتباط بها في العملية التعليمية، لما لها من أهمية، لا في مجال التواصل الحضاري فقط، بل بكل ما له علاقة بالبحث العلمي، وتطوير المعرفة، وهي فوق هذا وذاك تعد أحد الروافد المهمة للغات الوطنية لإغناء خبرة الباحثين في المجال، ومواكبة التطورات العلمية المتدفقة، يدعو هذا التوجه إلى فصل إتقان اللغات الأجنبية لكل ما له علاقة بمسألة التدريس أو التعليم بها، لأن اللغات الوطنية هي المؤهلة لذلك، لارتباطها بمواطنيها لتحقيق مشاريع التنمية وتطوير مرافق الدولة. وفي الأخير لابد من إثارة مسألة «الدارجة المغربية» باعتبارها لهجة التخاطب اليومي بين الناس وهي كذلك دوماً، كل واحد لا يستطيع التخلي عنها، كما هو الشأن بالنسبة لكل الدوارج في الأقطار العربية، وغيرها، كما ينطبق هذا الوضع على لغات غربية وشرقية، هناك لغات معيرة، أي لها قواعدها وضوابطها ومصطلحاتها وعلومها وبلاغاتها وآدابها، وهناك لهجات التخاطب اليومي المنبثقة أو المنحدرة أو المشتقة من لغاتها الوطنية، وقد تتداخل فيها ألفاظ من لغات أجنبية، وتخضع في أنساقها للعرف اللهجي الإقليمي أو الجهوي، كما يمكن التصرف المطلق في تراكيبها، نظراً لتداولها في الحوارات والتخاطب. لقد بدأ البعض يدعو إلى اعتمادها لغة رسمية ووطنية لتحل محل اللغة العربية من دون معرفة لما يتطلبه الاشتغال اللغوي والآليات المنهجية والمعرفية لنقل لهجة لها خصوصية التخاطب وتفتقر إلى المعيرة إلى مجال علمي ومعرفي، مما يطرح فهم الدوافع والأهداف الكامنة وراء هذه الدعوة الغريبة عن علوم اللغة وأدواتها ومنهجيتها، وقد أصبح لها أنصارها، وهم فئتان: أ- فئة تنطلق من منطلق البحث السوسيولوجي والدراسات اللسانية. ب. والفئة الثانية لها خلفية معقدة التركيب، منها ما هو إيديولوجي وما هو عنصري. ترتكز الفئة الأولى على أطروحة بديهية عندما تعتبر أن الدارجة المغربية لغة الأم، ولها أن تحظى بموقعها المتميز في المجتمع، ما دامت لهجة التخاطب والحوار اليومي، وعليها أن تحتل موقعها الذي تمارسه، وهذا من حيث التوجه ولغة الخطاب اللغوي لا إشكال فيه، وقد يدعم بأبحاث لسانية جامعة مرغوب فيها وبالأخص عندما يتم التركيز علمياً على أوجه علاقتها باللغة العربية، والبحث في أساليب تطويرهما معاً، هذا التوجه يجب أن يحتل دوره في مجمل الأبحاث اللغوية الجامعية. وعلى عكس الفئة الأولى، تذهب الفئة الثانية إلى ما هو أبعد، وإن كانت توظف أطروحتها إلا أنها ذات قصور معرفي مما يطرح إشكال المعرفة اللغوية، والفائدة العلمية، هذا بالإضافة إلى الخلفية الإيديولوجية التي تعني بصريح العبارة ترسيخ الأهداف الكامنة وراءها، أي اعتماد اللغة الأجنبية في التعليم والتدريس وتعميق إشاعتها في مرافق الدولة، إذ مهما بلغت الدارجة من الشيوع لن تصل أبداً لا إلى مستوى اللغة العربية أو الأجنبية على حد سواء، لكونهما خضعتا للبحث والتنقيب والتنميط والتقعيد خلال قرون، وهم يعرفون أيضاً وعلى وعي تام بأن الدارجة المغربية لا يمكن لها أن تضاهي اللغة العربية أو أن تكون بديلا لها، وقد أضحت لغة التدريس والعلم، وتشكل الوجه اللامع والبارز للحضارة العربية وتراثها عبر مسارها الطويل. ومما يستغرب له لدعم توجهات لا علمية وفاقدة للحس الوطني، إشاعة مقولة اللا أمن اللغوي (L'insécurité linguistique) وقد أضحت متداولة للتخويف عمداً في محاولة لإيهامنا بأننا لكي نعيش أمناً لغوياً يجب اعتماد الدارجة في الدرس التعليمي والعلمي، وهذا ما أعتبره شخصياً لغواً ولا علاقة لأصحابه بالمعرفة اللغوية وسياق تطوراتها. إذ أن لغة الدرس والعلم لغة معيرة، أي لها قواعدها وتحكمها ضوابط التطور اللساني والمعرفة العلمية، وغير خاضعة للطوارئ الشفوية العابرة والمتداولة في الشوارع والحانات، فضلاً عن جانب أساسي يتعلق بالاقتصاد والتهيئة اللغوية، هل يعرف أنصار الدارجة المغربية قيمة الكلفة الاقتصادية التي يتطلب اعتمادها لإنجاز رغباتهم، من حيث الكفاءات العلمية والأطر المختصة لذلك، وترجمة الكتب من العربية إلى العربية الدارجة، وخط كتابتها، فضلاً عما له علاقة بالكتب المدرسية العلمية والسنين الطويلة التي علينا أن نستغرقها لنحقق مطالبهم. إن من يحاول أن يقارن بين الأمازيغية والدارجة المغربية باعتبارهما لغتين وطنيتين كمن يسبح في الهواء لاصطياد الهباء ولإخفاء حقد دفين بمظلة وطنية، حقد كامن وراءه هدف واضح: عرقلة العملية التعليمية وإحباط المشروع التربوي الوطني الذي يسهر على إنجازه كافة الفاعلين والقوى الوطنية الحية في بلادنا. وللحديث بقية