تقدم لنا فرنسا، منذ بدء احتجاجات حركة «السترات الصفراء»، دروسا في كيفية تعامل بلد ديمقراطي مع احتجاجات الغاضبين من سياسات الحكومة، وهي دروس يبدو أننا بحاجة إليها في الدول المغاربية على الأقل، لأن شعوبها تعاني بسبب نخبة مفرنسة متحكمة في السلطة والثروة والدين، أخذت عن فرنسا لغتها وثقافتها، لكنها سكبتها في قوالب استبدادية ثقيلة. حين انطلقت احتجاجات «السترات الصفراء»، وانحرف جزء منها عن مساره السلمي، لم يُنعت المحتجون بالخيانة أو الانفصال، كما قيل عندنا لمحتجي حراك الريف، ولم يعتقلوا ليلا من مخابئهم، بل خرج الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في أول ردّ على الاحتجاجات، للإقرار، دون تلعثم أو التواء، بأن هناك مشاكل اقتصادية وسياسية حقيقية، وأن هناك جزءا من الشعب الفرنسي رافضا لسياساته. وفي خطاب متلفز، تحدث بلغة المشاعر والعواطف إلى الفرنسيين، وقال إنه يشعر بمعاناة الناس والعمال والمتقاعدين والأمهات والأرامل والكهول، ثم قرر رفع الحد الأدنى للأجور ب100 أورو كل شهر، وألغى الضرائب على ساعات العمل الإضافية، وعلى من تقل معاشاتهم عن ألفي أورو، ووعد بوضع الأسس لعقد اجتماعي جديد، وأطلق عبارة: «حالة طوارئ اجتماعية» التي دخلت القاموس السياسي أول مرة. لم تفلح تلك الإجراءات والوعود في طمأنة الفرنسيين، وواصلت حركة السترات الصفراء الاحتجاجات، لأن لها أبعادا أعمق من أي قرارات جزئية، إذ ترمي، في ما يبدو، إلى إصلاح جوهري للنظام السياسي الفرنسي الذي وضعت أسسه سنة 1958، مع ما يسمى ب«دستور الجمهورية الخامسة». للإشارة، سبق للرئيس ماكرون، بمناسبة مرور 60 سنة على المصادقة على دستور الجمهورية الخامسة يوم 4 أكتوبر 1958، أن صرّح، في خطاب سياسي ألقاه أمام المجلس الدستوري، بالقول إن «الذين يريدون جمهورية سادسة لا يحبون الدولة». تلك العبارة التي نحتها بعناية فائقة، يبدو اليوم وكأنه استبق بها نقاشا ظل يعتمل في أحشاء الجسد السياسي الفرنسي، قبل أن تعكسه احتجاجات السترات الصفراء. يدرك ماكرون أن القضية سياسية في عمقها، لذلك، واصل البحث عن حل، فاهتدى، كما أعلن ذلك يوم الثلاثاء 15 يناير الجاري، إلى إطلاق ما سماه «الحوار الوطني الكبير»، من منطقة قروية في إقليم «النورماندي»، وهو نقاش غير مسبوق في فرنسا، ويسعى إلى إيجاد حلول للأسئلة العميقة التي تطرحها حركة «السترات الصفراء»، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. افتتح ماكرون شخصيا الحوار، حيث ذهب إلى النورماندي والتقى، في اجتماع استمر أكثر من ساعتين، 600 مسؤول محلي من قرى وجماعات الإقليم، عرضوا مشاكلهم ومطالب السكان الذين يمثلونهم، في حين قال الرئيس إن الحوار «مفتوح على جميع التساؤلات»، وإنه ليست هناك «محرمات» أو خطوط حمراء. بدأ النقاش يوم الثلاثاء عبر اجتماعات عمومية محلية، وابتداء من يوم الاثنين المقبل سيكون بالإمكان وضع إسهامات الفرنسيين في النقاش، بشكل مباشر، على موقع إلكتروني خصص لهذا الغرض، ووضعت منصات القرب في شتى مناطق فرنسا، حيث يمكن كل مواطن أن يعبّر عن رأيه من خلال هذه المنصات. قدّم الوزير الأول الفرنسي ضمانات للفرنسيين، والتزم بضمان شفافية الحوار ونتائجه، وتحدث عن مرحلة ثانية في الحوار ستبدأ في مارس المقبل، وأعلن قرب إعلان تعيين «هيئة مستقلة» وظيفتها تتبع مسار الحوار الوطني، وضمان عدم انحرافه عن وظيفته، ومن ثم شفافيته، وتحليل المشاركات، وتركيبها في مشاريع قابلة للتنفيذ. ومن أجل مزيد من الإشراك، اقترحت الحكومة على المعارضة تشكيل لجنة متابعة من مختلف القوى السياسية، وظيفتها السهر على احترام مبدأ التعددية. كل هذه المبادرات والإجراءات والموارد، التي اقتطعتها حكومة فرنسا من وقتها من أجل الحوار الوطني الكبير، تهدف من ورائها إلى هدف أساسي، هو الإجابة عن الأسئلة العميقة للفرنسيين، دون إقصاء أو التواء. وهي، ككل حكومة منتخبة في بلد ديمقراطي، يهمها تجديد شرعيتها المهتزة واستعادة ثقة الفرنسيين فيها، لكن كل شيء يجري وفق قواعد اللعبة السياسية. لم تعتقل وزارة الداخلية المحتجين إلا للضرورة، ولم تجتمع أحزاب الأغلبية لتدين المحتجين وتنعتهم بالخيانة أو الانفصال، كما فعلت بعض أحزابنا مع محتجي حراك الريف، أو كما يفعل الرئيس السوداني مع المحتجين في بلده. لقد طرحت حركة السترات الصفراء أسئلة سياسية واقتصادية، فتقدم الرئيس المنتخب للإجابة، وها هو يحاول، وما علينا سوى الإنصات والتعلم، وإن كان الكثيرون منا يتحسرون في صمت.