تروي «تندوف» للكاتب الراحل إدريس يزيدي محنة الاعتقال في سجون البوليزاريو، حيث تدور أحداثها بمعتقلات تندوف، وتحكي مواقف صعبة لكتيبة من الجنود المغاربة خلف القضبان. كتبت الرواية بأسلوب أخاذ يكشف ما تشعر به النفس المسجونة من أسى وحزن وضيق نفسي. خلافا لتجارب الاعتقال السياسي الأليمة خلال سنوات الرصاص، لم تحظ تجارب الاعتقال والمحن النفسية والجسدية التي عاشها جنود مغاربة في سجون البوليساريو ومعسكراتها وأقبيتها باهتمام وعناية الأدباء والكتاب المبدعين. إذ كان على القارئ المغربي، المهتم بالقضية على الأقل، أن ينتظر نحو نصف قرن، ليقرأ عن هذه المحنة في صيغة رواية، وأن يفهم المسألة في عمقها بعيدا عن أخبار هذه المعسكرات المشؤومة التي ظلت تمطره بها وسائل الإعلام الرسمية، دون أن يتمكن أبدا من تمثل المأساة الإنسانية الكامنة وراءها. هكذا، ومع استثناء بعض المحاولات المعدودة على رؤوس الأصابع، مثل مرويات الأسير السابق محمد المحفوظي “خبايا 24 سنة في جحيم تندوف” أو كتاب “معجزة تندوف: مذكرات حرب” للأسير السابق ميمون زغاي، يمكن اعتبار رواية “تندوف” للكاتب المغربي الراحل إدريس يزيدي، البركاني الأصل البلجيكي الجنسية، أهم ما كتب حتى الآن، روائيا على الأقل. ذلك أن العمل استطاع، بلغة مؤثرة كشف خبايا جحيم تندوف ومشاعر الأسر والحزن والعذاب النفسي، أن يروي جوانب من مأساة إنسانية تجاوزت في بعض فصولها ثلاثة عقود أو اقتربت من اكتمالها. تروي “تندوف” قصة جنود مغاربة، ألقت عليهم ميليشيات البوليزاريو القبض، بعدما انكشفوا أمام العدو. يقادون إلى جحيم تندوف، فيعانون أشد أنواع العذاب قسوة في أقبية وسجون ومعسكرات مختلفة، حيث يلقي بعضهم حتفه، ويكون مصير بعضهم الآخر الجنون والخبل. وحتى الذين استشعروا بعض القوة والفتوة وحاولوا الفرار، لقوا حتفهم بنيران القناصة أو بين مخالب صحراء لا ترحم. يمثل رضوان، الأستاذ ابن طنجة البوغاز الذي عين أستاذا في الجنوب، بؤرة حكائية فريدة، تدور حولها باقي الشخصيات. إذ يتعرض هو الآخر للاعتقال من طرف بعض جنود البوليساريو، حيث ينسج داخل السجن علاقة صداقة فريدة مع الجنود المعتقلين، وخاصة الجندي الروخو والكلبة “توفي”. تكشف هذه الشخصية عن نفسها، في رسالة إلى الحبيبة نجاة، بالقول: “أنا رجل تعليم. هذا كل ما كنت أردده أمام الزبانية، لم يصدقوا أني لم أعرف في حياتي شيئا عن الجيش والأسلحة. كل ما عرفته موت أمي وعشقي لك. لم أشأ أن أقول لهم إني لا أملك في الدنيا سوى نجاة، لم أشأ أن أدنس اسمك في تلك البقعة من الدم والقيح والسب وأشباه البشر” (ص. 210). تكشف القراءة الأولى عن بعض السمات المميزة لهذا العمل الروائي. أولا، سعى الكاتب، من خلال لغة وسرد خاصين يركزان على ما هو نفسي وشعوري، إلى أن يعطي للرواية قوة رمزية تروم اكتمال الوصف لحالات جسدية ونفسية واقعة تحت العذاب، ومن ثم احتمال النفاذ إلى القارئ والتأثير فيه. ثانيا، لم يكن الكاتب يهدف إلى إدانة البوليزاريو- وإن كانت الرواية تركز عليها وحدها- بل إلى استنكار مواقف الصمت الرهيب تجاه القضية برمتها، سواء تعلق الأمر بصمت الحكومة المغربية أو الدول والمنظمات الدولية (وذلك ما نستكشفه من رسائل الأستاذ رضوان الموجهة إلى حبيبته: “إن حرفتنا هو أن ننوس بين ضفتي الموت والجنون”). ثالثا، يسعى تعدد الأصوات السردية إلى كشف مختلف جوانب العذاب النفسي والجسدي، الناتج عن انتهاك حرمات السجناء والتعذيب داخل الأقبية، حيث جاء هذا الاختيار عند الكاتب بغية الكشف عن هشاشة كل شخصية من شخصيات الرواية. رابعا، استطاعت الرواية أن تستحضر بعض المستويات الفارقة في حياة السجين، كأن يحرص السارد عل تدهور الصحة الجسدية والنفسية للسجين، حيث يبدو قويا معافى في البداية، ثم ينتهي هزيلا مختلا في النهاية، أو كأن يميز بين الجوع والخوف (“الجوع أقوى من الخوف”، ص. 138)، أو بين الحياة والوجع (“ذكريات الوجع أحيانا أقسى من واقع الوجع نفسه”، ص. 217)، إلخ. ومما يلفت النظر في الرواية توظيف شخصية الكلبة “توفي”. تبدو هذه الكلبة وفية لرضوان، تجاوره في ليله ونهاره، وفي سقمه وعافيته. هي الأخرى تقدم روايتها عن جحيمها الذاتي وجحيم تندوف. تتحدث عن رضوان بعدما لقي حتفه تحت أكياس العدس داخل شاحنة متجهة إلى موريتانيا: “جميل أن تموت، وكان طبيعيا جدا أن تموت، فليس لمن قاسى ما قاسيته أن يستمر على قيد الحياة. خير لك أن تموت وخير لنجاة. لا تحسب أني أقسو عليك، ولكن كنت أخشى عليك دائما إن خرجت من هنا ألا تستطيع التخلص من هذه الذكرى. إن ذكريات الوجع أحيانا أقسى من واقع الوجع نفسه” (ص. 217). لا تركن الرواية إلى الخيال، لأن الواقع في هذه الحالة يقدم غرائبية موغلة في البؤس والآسى. ذلك أن مأساة تندوف الإنسانية أقوى من أي تخييل ممكن أو محتمل، بحسب ما تكشفه السيرورة السردية. إذ استطاع الكاتب الراحل إدريس يزيدي أن يصف واقعا تراجيديا يتعذر الوصول إلى دقائقه بتفصيل كبير جدا، رغم أنه لم يعش هذه التجربة على أرض الواقع. هكذا، يمكن القول إن هذه الرواية تمثل نصا فارقا فيما يُسمى ب”أدب السجون” أو “أدب الاعتقال”.