عندما نعرف أن الرباط لا تتوفر إلا على مرحاض عمومي واحد، نفهم سر “تلك الرائحة” التي نستنشق في العاصمة. الشوارع والحدائق تُسقى يوميا بالسائل المدوّخ، لذلك تختلط العطور الزكية مع العطن، وتسفر عن روائح لها مفعول الحشيش. ولا أفهم لماذا لا تحل الدولة مشكلة المراحيض العمومية في مدن المملكة، رفقا بالإنسان والحيوان والنبات والجماد. إذا كانت تعتقد أن بناءها مكلف، فإن غيابها مكلف أكثر. دون الحديث عن الأضرار التي تلحقها بالسياحة، فإن الفاتورة يدفعها المواطن من صحته. الأطباء متفقون أن الإنسان حين يضطر إلى إمساك حاجته، يمهد الطريق لدزينة من الأمراض التي تفتك بالكلي والأمعاء والمسالك البولية، وعندما يلقي فضلاته في الهواء الطلق، ينشر الأوبئة والجراثيم، ناهيك عن الدمار الشامل الذي تتعرض له الأسوار الأثرية عندما تُرش بأكسيد الأمونياك. وكثير من الأشخاص لا يحبون التبول إلا تحت الأسوار العتيقة، نِكاية في التاريخ وتنكيلا بالجغرافيا! في كبرى مدننا السياحية، يعاني الإنسان الأمرين قبل العثور على “تواليت”. أحيانا يلجأ “المحسور” إلى المقهى كي يقضي حاجته، مما يتسبب في شجارات بين الزبائن وأصحاب المقاهي، لأنهم ليسوا كلهم متفهمين، ومعهم حق، لأنهم لم يفتحوا محلاتهم لجمع فضلات العالم! من الطبيعي أن يغضب صاحب المقهى عندما يرى محله التجاري يتحول إلى مرحاض عمومي. أعرف هذا الشعور جيدا. قبل سنوات، كنت أسكن وسط الرباط، جنب أحد الاختصاصيين المشهورين في جراحة الدماغ، وكان يتوافد على عيادته عشرات المرضى، بعضهم يأتي من أماكن نائية، ولأسباب أجهلها لم يكن الدكتور يفتح إلا بعدما يتكدس الزوار أمام العيادة، وعلى سلالم العمارة، وقرب باب شقتي. وكنت أتفاجأ كل مرة بشخص يدق بابي ويطلب الدخول إلى المرحاض… كان من الصعب عليّ أن أرفض دون أن أشعر أنني نذل، خصوصا أن الأمر يتعلق بأشخاص مسنين أو مرضى حالتهم تدعو إلى التعاطف، لكن مزاجي كان يتعكر عن آخره وأنا أرى بيتي يتحول إلى مرحاض عمومي، لم يكن ينقص إلا أن أضع طاولة أمام “التواليت” وأشتغل “مادام پيپي” للدكتور العبقري! أما في القرى والأحياء العشوائية، فمازال الناس يقضون حاجتهم في الهواء الطلق ويمسحون بخرقة أو كاغط أو حجرة، معرضين أنفسهم لكل الأمراض. غياب المراحيض وقنوات الصرف الصحي له انعكاسات على الصحة الفردية والجماعية وعلى البيئة وكرامة الإنسان، ليس هناك إهانة أكبر من أن تعري مؤخرتك أمام العالم كي تقضي حاجتك. ثلث سكان العالم لا يعرفون أين توجد “التواليت”، أي ما يعادل مليارين وأربعة ملايين إنسان يفعلونها أينما اتفق، خصوصا في القارة السمراء، حيث 70 في المائة من السكان لا يتوفرون على قنوات الصرف الصحي، ولا غرابة أن تتحالف على إفريقيا الكوليرا والملاريا والسيدا والبواسير والتيفويد والبوگليب والطاعون الأكحل… لحسن الحظ أن هناك وعيا عالميا وجهودا دولية لحل مشكلة المراحيض في العالم. منذ 2013، بات هناك “يوم عالمي للمرحاض” يوافق ال19 نونبر، أقرته “المنظمة الدولية للمراحيض”، دفاعا عن حق الجميع في التوفر على قنوات للصرف الصحي، حفاظا على الصحة وصونا للبيئة. مشكلة المراحيض مطروحة حتى في بعض البلدان المتقدمة، بوتيرة أقل حدة. في فرنسا، مثلا، تلميذ من بين ثلاثة يرفض الذهاب إلى “التواليت” لأنه يجدها “غير نظيفة”. نحن أيضا لم تكن لدينا مراحيض نظيفة في المدرسة، ومع ذلك كنا نحب الذهاب إلى “التواليت”، كلما تعبنا من الجلوس ومللنا من الدروس، نرفع سبابتنا عاليا في وجه المعلم: “أستاد.. أستاد بغيت نمشي للمرحاض…”. أذكر يوم طلبت من مُدرِّسة العربية الذهاب إلى “التواليت”، كي أرتاح قليلا من صرامة الفصل. وطلبت مني أن أملأ لها كوبا من الماء كي تشرب، ناولتني الكأس وألحت أن أنظفه جيدا قبل ملئه. في تلك السنوات البعيدة، كنا نقضي سحابة يومنا في اللهو والحماقات، وكانت ألعابنا خشنة، نمزق فيها ملابسنا ونوسخ أطرافنا. كنت في ذلك اليوم تفننت في صناعة “جبّاد” من بقايا “شامبرير” قديم، قضيت الصباح أقص المطاط المشحم بشفرة حلاقة، حتى باتت أصابعي سوداء كأي ميكاني صغير. قضيت حاجتي وغسلت يدي، ثم ملأت كوب المعلمة بالماء. قبل أن أغادر، تذكرت أنها طلبت مني أن أغسل الكأس، لذلك أفرغتها، ثم أطلقت الصنبور ثانية ومررت أصابعي داخل الكوب كي “أشللها” كما طلبت المعلمة، حين ملأتها طفت على السطح طبقة من “شحم السيارات، أفرغتها وعاودت ملأها عدة مرات، دون أن تختفي الطبقة الزيتية. في النهاية، انصرفت وضميري مرتاح، لأنني نفذت ما طلبته المعلمة، ولست مسؤولا عن النتيجة. حين مددت لها الكأس، سمعتها تصرخ: “ويلّي ويلّي، آش هاد المصيبة جايب لي؟” نهرتني وطلبت مني أن أجلس، ثم أعطت الكأس لإحدى التلميذات: “غسليه مزيان ما عرفت آش دار فيه هاد الموسخ”… البنات كنّ دائماً أنظف من “بوخنونة”!