عشنا، خلال الأسبوع الماضي، أحداثا لا يمكن أن تمر علينا مرور الكرام وألا نتوقف عندها بالقراءة والتعليق. ففي غضون أسبوع تقريبا، رأينا كيف أصبح لمجلس المنافسة، أخيرا، رئيس يجمع بين صلاحيات واسعة وغير مسبوقة، منحه إياها القانون الجديد لهذا المجلس، وبين الولاية القانونية التي تسمح له بممارسة مهامه، عكس سلفه الذي انتهت ولايته منذ سنوات. وعلى خطى دركي الاقتصاد، رأينا كيف خرج دركي الإعلام السمعي البصري، الهاكا، من مرحلة رمادية تجاوز فيها بعض أعضاء مجلسه الأعلى مدة ولايتهم القانونية، كما ضخت دماء جديدة في أوصال المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وجددت ولاية ذراعي الدولة في الحقل الحقوقي، أي المجلس الوطني والمندوبية الوزارية لحقوق الإنسان. لن أفشي سرا إذا قلت إن كل المناصب التي شملها التعيين الملكي الأسبوع الماضي، طرحت لها آلية الترشيح والاقتراح ثلاثة إلى أربعة أسماء، وأن ضمن الاقتراحات كانت هناك وجوه تقنوقراطية وأخرى خبرت دواليب الإدارة والتدبير الترابي. اختيار الملك هذه الكوكبة من الوجوه، التي تجمع بين تجربة «خدمة الدولة» وبين قنوات اتصال بالمجتمع ونبضه، يؤشر عن اختيار الانفتاح وليس الانغلاق، وهو المعطى الذي يجدر بكل المدافعين عن خيار الإصلاح والبناء المؤسساتي استثماره إيجابيا والدفع نحو تكريسه. وإذا كانت هناك من نقطة سوداء ينبغي تسجيلها في التعيينات الأخيرة، فهي، بكل مرارة، المهام التي أسندها القانون إلى رئيسي مجلسي البرلمان، ليس لأن من اختاراهما لعضوية مجلس «الهاكا» لا يستحقان ذلك، وهذا نقاش آخر، بل لأن كلا من الحبيب المالكي وحكيم بنشماس تعاملا مع هذا التعيين بمنطق الغنيمة الحزبية و«الوزيعة»، فعمد كل منهما، دون أن يرف له جفن، إلى التعيين بمنطق القرابة الحزبية. أما الذين عبروا عن انطباعات سلبية تجاه الكاستينغ الملكي، فأدعوهم إلى هذه الجولة السريعة بين الوجوه المعينة. إدريس الكراوي، الذي تولى زمام مجلس المنافسة، هو الرجل الذي ظل يحمل ملفات الوزير الأول الاجتماعية، من عبد الرحمان اليوسفي إلى عباس الفاسي مرورا بإدريس جطو. ودون حاجة إلى التذكير بمساره الأكاديمي، يكفي القول إنه قضى السنوات السبع الماضية أمينا عاما للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والجميع يعرف قدر التجربة التي راكمها الكراوي والأدوار التي قام بها داخل هذا المجلس. لطيفة أخرباش، هذه السيدة كانت مؤهلة لحمل حقيبة الاتصال أكثر من بعض الذين كلفوا بها في الحكومات الأخيرة. خبيرة في مجال اختصاصها، الإعلام السمعي البصري، وكاتب هذه السطور كان له حظ التكوين في معهد الصحافة خلال فترة ذهبية كانت فيها لطيفة أخرباش مديرته، كما أتاح لي مساري المهني متابعة الكثير من تفاصيل مرورها السريع في إدارة الإذاعة الوطنية ثم في مكتبها كاتبة للدولة في الخارجية، قبل أن تصبح سفيرة. وزميلها بنعيسى عسلون، الذي عين مديرا عاما للهاكا، يشهد له خصومه قبل أصدقائه بالكفاءة والقدرة الهائلة على الجمع بين التدبير والخلفية الأكاديمية. أما خليفة نزار بركة على رأس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أحمد رضا الشامي، فلا يحتاج إلى من يعترف بكفاءته داخل المغرب، بعدما أثبتها خارجه، ويكفيه سياسيا أن كثيرين رأوا فيه «خليفة» أحمد الزايدي بعد الوفاة المأساوية لهذا الأخير، مع ما يعنيه ذلك من تجسيد للجدية والمبدئية، فيما لا يحتاج كل من أمينة بوعياش وشوقي بنيوب من يعرّف بهما، وهما المتخرجان من مرحلة المصالحة الحقوقية التي جاء بها «العهد الجديد». فبوعياش هي أيضا خريجة ديوان عبد الرحمان اليوسفي، حيث تولت مهمة الاتصال قبل أن تصبح أول سيدة تترأس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، والمندوب الوزاري الجديد في حقوق الإنسان ليس سوى أحد حاملي إرث هيئة الإنصاف والمصالحة، محام وحقوقي متمرّس وذو مصداقية كبيرة. لماذا كل هذا «الإطراء»؟ ليس حبا في قاعدة خالف تعرف، ولا بحثا عن تقرب من أشخاص خبرناهم سنين طويلة. لقد كتبنا في صفحات هذه الجريدة مرارا عن العطب المؤسساتي الذي أصاب البلاد، حين تأخرت التعيينات وعلّقت القوانين، ونحن من وصف مجلس المنافسة، عندما انطلقت حملة المقاطعة، بالرهينة؛ لكن من يدعي الحرص على رصد تجاوزات السلطة ونواقص التدبير يجب أن يكون قادرا على التقاط الإشارات الإيجابية ودعمها. وفي هذه التعيينات الجديدة على رأس مؤسسات مهمتها التقنين والضبط والحد من انزلاقات السلطة، ومضة أمل، وإشارة إلى إمكانية طي الصفحة ووقف الانهيار، وترميم التشققات وتضميد الجروح. هل هذه الخطوة تكفي؟ بالقطع لا، فمثلما أعقبت تعيينات العام 2011 خطوات سياسية كبيرة، من قبيل إقرار دستور جديد، وتنظيم انتخابات جرى الإجماع على أنها الأكثر شفافية وانفتاحا في تاريخ المغرب، لن يكون لتعيينات الأسبوع الماضي من معنى أو تأثير إن لم يتوقف مسلسل قتل السياسة وإعطاب المؤسسات المنتخبة وتحطيم الإعلام المستقل. وهل يكفي المعيّنين الجدد شرف المناصب وتصفيق المعترفين لهم بالاستحقاق؟ كلا، فوجود إدريس الكراوي على رأس مجلس المنافسة لن يفيد إن لم يفعّل سلطات هذا المجلس لكف اللوبيات المهيمنة على السوق عن جشعها. وأخرباش وعسلون لن يجدا من يصفق لهما إن لم يحررا للمغاربة إعلامهم العمومي، ويجعلانه في خدمة التعددية الحقيقية والخدمة العمومية، بدل الوظيفة الرسمية. وأحمد الشامي لن يجد ما يضيفه إلى ال CVإن لم يحوّل تقارير مجلسه حول الريع والعدالة الضريبية والنموذج الاقتصادي الجديد… إلى مرجع فعلي للسياسات العمومية. أما أمينة بوعياش وشوقي بنيوب، فأمامهما مهام أكثر حساسية واستعجالا، لأن في سجون المغرب عشرات الشبان ممن خرجوا سلميا للمطالبة بشغل وجامعة ومستشفى، وصحافيين دخلوا الزنازين بسبب آرائهم وجرأتهم، وجمعيات حقوقية ومؤسسات إعلامية تكابد التضييق والقتل البطيء. الحكمة تقول أن توقد شمعة خير من أن تلعن الظلام، والملك بتعييناته الأخيرة أشعل شموعا قد تطفئها الرياح، كما قد تنير الطريق إن هي وجدت أكفا تحفّها.