يمر المشروع السعودي الإماراتي بظرفية عصيبة هذه الأيام، دفعت خصومه إلى توقع فشله أو تفككه على الأقل. ويبدو أن مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، يوم 2 أكتوبر الماضي في قنصلية بلاده في تركيا بطريقة وحشية، كان الحدث الذي قصم ظهر المشروع الذي وُلد نتيجة تحالف غامض بين الأميرين محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، ورغبتهما في السيطرة على دولتيهما وعلى دول المنطقة، لكنه قد ينهي أحلامهما معا أو أحدهما على الأقل. تحالف غامض في 16 ماي 2018، أعلنت الإمارات والسعودية تأسيس مجلس التنسيق السعودي الإماراتي، وفي 7 يونيو الماضي كان الاجتماع الأول للمجلس برئاسة الأميرين محمد بن زايد ومحمد بن سلمان، أعلنا خلاله «استراتيجية العزم»، التي حُدد هدفها في بناء نموذج للشراكة بين البلدين على ثلاثة أصعدة؛ الصعيد الاقتصادي، والصعيد السياسي والأمني والعسكري، وعلى صعيد التنمية البشرية. كما جرت المصادقة على 44 مشروعا، تقرر تنفيذها خلال السنوات الخمس المقبلة. وحسب الأمير محمد بن زايد، فإن التحالف السعودي الإماراتي يأمل أن يكون «نواة لتوحيد العرب حول قضاياهم المصيرية». لكن تأسيس مجلس للتنسيق أتى بعد مسار من التقارب والتعاون، بدأ منذ سنة 2013 حين قررت السعودية والإمارات تزعم الثورة المضادة للربيع العربي، فكان أن عملتا على إسقاط نظام الإخوان المسلمين في مصر، ودفع الجيش إلى تولي الحكم في شخص الجنرال عبد الفتاح السيسي، وحاولتا تجريب المقاربة نفسها في تونس، ما أدى إلى إخراج حركة النهضة من الحكومة لصالح التقنوقراط وتكتل نداء تونس الذي تشكل على الفور. أما في اليمن، فإن التدخل الإماراتي السعودي بدأ بمحاولة إزاحة الإخوان عن تصدر المشهد السياسي، وانتهى لصالح جماعة الحوثي، وأدى ذلك إلى شن حرب على اليمن تحت شعار «عاصفة الحزم»، أقحمت فيها 10 دول عربية وإسلامية، لكنها انسحبت بالكامل، وظلت السعودية والإمارات فقط. هذا التقارب سيتعمق أكثر مع وصول محمد بن سلمان إلى ولاية العهد في السعودية، بدعم من محمد بن زايد ولي عهد الإمارات. مضاوي رشيد، أكاديمية سعودية مقيمة في لندن، قالت في تصريحات صحافية إن الأمير ابن زايد من بين من أقنعوا الرئيس الأمريكي ترامب بضرورة دعم محمد بن سلمان للوصول إلى موقع ولي العهد، بالنظر إلى تقاربهما فكريا في ما يخص محاربة الإسلام الراديكالي، واعتبرت أن ابن زايد يريد من ابن سلمان «هزيمة الوهابية في عقر دارها»، ما يؤكد أن الرهانات بين الطرفين مختلفة ومتباينة. بنت الإمارات نموذجا ليبراليا اجتماعيا دون سياسة ودون إيديولوجيا سوى إيديولوجيا السوق وأموال النفط وفرق الأمن الخاصة وشعارات حول «إسلام ليبرالي معتدل»، فيما قامت السعودية على أساس إيديولوجي مفاده أنها حامية الإسلام والمسلمين في العام، سلاحها في ذلك الإيديولوجيا الوهابية التي يعضد امتدادها في العالم بمال النفط. ترى الإمارات -التي تقدم نفسها على أنها «سنغافورة العرب»- أن استمرار نموذجها الاقتصادي رهين بالقضاء على كل النماذج الأخرى، دينية وهابية (النموذج السعودي التقليدي)، أو سياسية ديمقراطية (مخرجات تجربة الربيع العربي)، لذلك، وجدت في التقارب مع ابن سلمان فرصة لتنحية الإسلام الوهابي نهائيا، لأنه الأكثر تأثيرا في الخليج، والورقة الرابحة في يد السعودية خليجيا وعربيا وإسلاميا. أما السعودية في عهد ابن سلمان، فهي تريد تدارك تأخرها الاقتصادي لمعالجة مشاكل البطالة وضعف الاندماج الاجتماعي، وتريد أن تستفيد من الخبرة الإماراتية، التي استطاعت أن تتحول إلى مركز اقتصادي وتجاري لكبريات الشركات والبنوك العالمية. ويبدو أن مؤتمر «دافوس الصحراء»، الذي يرمي إلى بناء مدينة ضخمة للمال والأعمال على البحر الأحمر (مدينة نيوم الجديدة)، قريبة من مصر وإسرائيل، ومتطلعة نحو البحر الأبيض المتوسط ومن ورائه أوربا، يعكس أولوية الهاجس الاقتصادي لدى ولي العهد السعودي، ما جعله يدوس على كل معارضيه، وقد يقتلهم في سبيل تحقيق هذه الأهداف التي يرى أنها قد تساعده في تثبيت أركان حكمه واستمراره بعد وفاة والده الملك سلمان. خاشقجي.. النقطة التي أفاضت الكأس أطلقت السعودية والإمارات حربهما على اليمن بغرض إبعاد جماعة الحوثي المدعومة من إيران عن السلطة، لكن بعد ثلاث سنوات لم يتحقق هذا الهدف، بل سقطت اليمن في الحرب الأهلية والمجاعة، وربما تكون الدولتان ارتكبتا جرائم ترقى إلى جرائم حرب، كما لمحت إلى ذلك الأمم المتحدة. لكن ليس هذا هو الفشل الوحيد، فقد دخلت الحرب 10 دول عربية خلف السعودية، وبعد ثلاث سنوات انسحبت كل الدول (انسحب المغرب مطلع سنة 2016)، وبقيت السعودية والإمارات في مواجهة مفتوحة مع إيران وذراعها جماعة الحوثي في معركة استنزاف طويلة الأمد. ومنذ البداية ظهر أن التحالف السعودي الإماراتي ليس على قلب رجل واحد. خالد يايموت، أستاذ العلوم السياسية، لاحظ أن نجاحات السعودية أقل بكثير من نجاحات الإمارات؛ والسبب أن «المملكة دخلت معارك غير معاركها الاستراتيجية، فمن نكسات هذا «التحالف» أنه أضعف الرياض، بدخولها غير المحسوب في «عاصفة الحزم» دون غطاء عربي ودولي قوي، كما غيرت الشراكة القائمة حاليا من خريطة الولاء القبلي للسعودية داخل اليمن، وكرست نفوذ «أنصار الله»، باعتبارهم قوة يستحيل القضاء عليها عسكريا»، لكنه استدرك بالقول إن «هذا الفشل نفسه هو نجاح للإمارات العربية المتحدة، التي ربحت بناء نفوذ قوي جدا باليمن، لم يكن ليتحقق لها دون بوابة سعودية». تحول اليمن، إذن، إلى مستنقع لكل من السعودية والإمارات، وبات يصطدم بمصالح القوى الكبرى، مثل بريطانيا التي رفضت سيطرة الإمارات على ميناء «الحديدة» في باب المندب، وقدمت في سبيل ذلك قرارا إلى مجلس الأمن تحث فيه الأطراف المتقاتلة على وقف الحرب في الحديدة، والدعوة إلى حوار سلام، ما أثار غضب السعودية والإمارات. وكانت وسائل إعلام بريطانية قد تحدثت قبل ذلك عن إرسال بريطانيا قوات عسكرية خاصة إلى باب المندب لحماية مصالحها هناك، كونه يعد معبرا تجاريا استراتيجيا للدول. وهو التحرك الذي أعقبه موقف أمريكي بوقف تزويد الطائرات السعودية بالوقود، قبل أن يدعو وزيرا الخارجية والدفاع الأمريكيان إلى وقف الحرب في اليمن. وكان الصحافي السعودي المغدور، جمال خاشقجي، قد كتب محذرا ولي عهد بلاده، محمد بن سلمان، من أن حرب اليمن قد تجعله «بشار أسد جديدا»، في إشارة إلى جرائم الحرب التي ارتكبها الأخير ضد شعبه في سوريا، لكن يبدو أن ما لم يحققه خاشقجي في حياته، أي وقف حرب اليمن، قد يحققه وهو ميت. ويرى مسؤولون أمريكيون أن مقتل خاشقجي شكل فرصة لرافضي الحرب في اليمن داخل الإدارة الأمريكية وفي دول أوربية من أجل تكثيف الضغوط لوقف الحرب على اليمن. لكن لا يبدو أن توقف الحرب سيكون كافيا، بالنظر إلى حجم الجرائم التي ارتكبت هناك، ويرجح أن تتحرك دول ومنظمات حقوقية لملاحقة شخصيات سياسية وعسكرية في اليمن وفي الإمارات والسعودية في القضاء الدولي، وهذا التطور إن حصل سيجعل من اليمن مستنقعا حقيقيا للسعودية والإمارات، قد يلاحقهما لسنوات مقبلة، إضافة إلى قضية خاشقجي التي باتت تحاصر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وتطوق عنقه، وقد تسقطه من عرشه. المستفيدون من فشل «المحمدين» برّرت السعودية والإمارات حربهما على اليمن بالتصدي للنفوذ الإيراني في المنطقة، لكن في حال أجبرهما المجتمع الدولي على الحوار مع جماعة الحوثي، وإنهاء الحرب، فإن إيران ستكون المستفيد الأكبر في اليمن. تاج الدين الحسيني، أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية، نبه إلى ذلك. «لقد صارت إيران ذات نفوذ كبير في الشرق الأوسط والخليج، بفضل ثورة 1979 التي قادها الخميني، والتحالفات السياسية والعسكرية الاستراتيجية مع نظام حافظ الأسد، ثم التوسع في لبنان مع حزب الله، وأخذ موقع قوي في العراق بعد انهيار نظام صدام حسين، مستغلة الأغلبية الشيعية في البلاد، وبالتالي أصبحت هذه الدولة تطمح إلى أن تجد لها موطئ قدم داخل الجزيرة العربية، فكان اختيارها هو دعم جماعة الحوثيين في اليمن». أما الأخطر فهو المقبل، حيث يشير الحسيني إلى أن السعودية توجد بها أيضا «أقليات شيعية في المنطقة الشرقية، يمكن أن تعلن بدورها الولاء للإيرانيين في المستقبل»، وهذا إن حصل سيُمهد الطريق أمام تحقق حلم المؤرخ الأمريكي الراحل برنارد لويس، وتنبؤات مراكز الدراسات الاستراتيجية في أمريكا التي توقعت منذ سنة 2013 أن تؤدي الصراعات في الشرق الأوسط إلى تقسيم السعودية إلى خمس دول، أقواها دولة شيعية جديدة في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط. وهو مصير دول أخرى مثل ليبيا والعراق. أما المستفيد الثاني فهو تركيا، التي تتطلع إلى بسط سيطرتها على مناطق نفوذها التاريخية في السودان والصومالوقطروالعراق وسوريا وفلسطين، والتي تقدم نموذجا سياسيا معتدلا، قائما إيديولوجيا على المذهب السني، وسياسيا على نموذج مؤسساتي ليبرالي، يقدم نفسه بديلا عن إيران، لكنه عمليا ينافس النموذج السعودي في صيغته الحالية. وقد طوقت تركيا السعودية من الشرق عبر قاعدة عسكرية في قطر يتمركز فيها نحو 35 ألف جندي بعتادهم الحربي، ومن الغرب عبر قاعدة عسكرية مماثلة في الصومال، وربما قاعدة أخرى قريبا في جزيرة «سواكن» السودانية التي كانت تاريخيا ميناء بحريا عثمانيا. وتعتبر إسرائيل المستفيد الثالث، فقد استغلت العداء السعودي الإماراتي للجماعات الإسلامية المعتدلة، بما فيها حركات المقاومة في فلسطين، لتسريع عمليات التطبيع السياسي والاقتصادي والتجاري مع أكثر من بلد عربي، بعضها خرج إلى العلن، كما دلت على ذلك زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لسلطنة عمان، وزيارة وزيرة السياحة في حكومته للإمارات العربية المتحدة، وتكاثر الوفود الرسمية التي تزور المغرب والأردن ومصر وتونسوالإمارات والبحرين تحت غطاء مؤتمرات دولية أو إقليمية، ناهيك عن العلاقات الاستراتيجية التي نسجتها مع جنوب السودان ومع الحزب الحاكم في كوردستان الذي تقوده عائلة آل برزاني. تُرافق ذلك حملة إعلامية كبيرة تلمع دولة إسرائيل، يشارك فيها صحافيون وشركات علاقات عامة عربية، والهدف هو كسر الطوق عنها لتنطلق بدورها في التمدد الاقتصادي والعسكري والأمني. هكذا يظهر أن المستفيد من أي سياسات خاطئة قد تقترفها من تسمى الأخت العربية الكبرى، أي السعودية، هي دول غير عربية أساسا، أي إيران وتركيا وإسرائيل، فضلا عن القوى الكبرى، مثل أمريكا وأوربا وروسيا، ما يستدعي الاستدراك عبر مصالحة جديدة في المنطقة بين قواها الحية، الشعبية والرسمية.