رحم لله ضحايا فاجعة بوقنادل وجبر لله كسور المصابين النفسية والجسدية. بعد سماع النبأ اتصلت بالأسرة في سيدي سليمان للاطمئنان. تحدثتْ معي أمي بصوت مختنق ومتقطع. لم يُصب أحد من أسرتنا، لكنها كانت تبكي تأثرا وتعاطفا مع القلوب الحزينة والأعين الدامعة ذلك اليوم. الحادث ليس أرقاما ولا سبقا صحافيا ولا مناسبة لتصفية الحسابات مع المسؤولين. إنها مأساة تفجع الإنسان وتشتت سَير حياته، وما يحتاجه ضحايا الحادث، قبل كل شيء، هو من يأخذ بأيديهم لجمع ذلك الشتات وتخفيف حدة الفجيعة. وقد كان تضامن المغاربة رائعا. تقاطُر الناس على مراكز تحاقن الدم للتبرع بدمائهم زرع كثيرا من الدفء وصدق العزاء في الأجواء الحزينة. ولا بد من مواصلة التضامن والبذل والعطاء. في الغالب، ستنصب الجهود حاليا على معالجة حالات الإصابة الجسدية بالأساس. وهي جهود لازمة وضرورية ومشكورة. لكني أريد في هذا العمود لفت الانتباه إلى جانب آخر يستوي في المعاناة منه من أصيب بأذى في جسده ومن لم يُصب. وهو الضرر النفسي الذي كثيرا ما يصنف جهلا ضررا “ثانويّا”. في الحقيقة، هناك إصابات نفسية خطيرة، أيضا، ينبغي تعبئة الأطباء والمرافقين النفسيين وأطباء علم النفس لعلاجها. وسأقتصر من هذه الحالات على مثال واسع الانتشار في مثل هذه الظروف، وهو نوبات الهلع (Panic Attacks). ونوبة الهلع هي حالة نفسية مرضية تُسجل في أعقاب حوادث مماثلة لحادث القطار ويشعر فيها المصاب بالخوف الشديد، مع خفقان عال في القلب يترافق مع اعتقاده أنه ميّت لا محالة. لا يموت، لكن فكرة الموت تجتاح كيانه فتضطرب سلوكاته نتيجة هذا الاعتقاد ويتدهور وضعه الصحي. سماع صوت شبيه مثلا بصوت قطار، أو أحيانا مجرد ركوب أية وسيلة نقل يصير مرادفا للموت ويثير حالة من الارتجاف والتعرق والتنمل في أعضائه تعود به مرة أخرى لفكرة الموت. ويرتفع احتمال الإصابة بنوبات الهلع حين يكون المرء أصلا مرّ بلحظات نفسية عصيبة مثل اكتئاب ما بعد الولادة بالنسبة إلى النساء، فيفجر أي حادث استثنائي مشاعر الإنسان من الداخل ويجعلها تقع فريسة الخوف من الموت. إنها حالة صعبة قد يستغرق علاجها أحيانا سنوات طويلة، وقد يتطلب أحيانا مدة وجيزة حسب تفاعل مجموعة من العوامل المتداخلة (سرعة الرصد والعلاج، تسطير حصص العلاج بالمحادثة من عدمه، دعم الأسرة، توفر الإمكانات المادية لتلقي العلاج، مدى كفاءة الطبيب المعالج..). إنها صدمة تتفجر بحدة وقد تتطور إلى حالة من الهذيان والهلوسة في حال لم تجد تكفلا سريعا ودقيقا. ألفت الانتباه إلى هذه النوبات والأزمات لأن الطب النفسي عموما في المغرب، لازال متخلفا في تغطية الطلب القائم على هذا المسلك العلاجي. وحتى بالنسبة إلى المصابين إصابات جسدية، فقد يعانون من هذه النوبات، مما يجعل علاجهم يحتاج تدخلا مزدوجا نفسيا وجسديا لتحقيق الشفاء. ما أبان عنه المغاربة من استعداد لدعم الآخر بالدم والاحتضان والمواساة أمر رائع، والمطلوب اليوم، المزيد من الدعم لضحايا الحادث وذويهم. على المختصين في علم النفس وأصحاب العيادات النفسية المساهمة، ولِما لاَ إحصاء كافة الناجين من المأساة وإعلان التكفل نفسيا بهم من هيئة أو تكتل للمختصين في العلاج النفسي. وعلى صعيد آخر، فهذا الحادث، ومهما كانت نتائج التحقيق فيه، يجب أن يمثل نقطة تحول في خدمات مكتب القطارات. لأني في المقال، ركزت على الضرر الأكبر، أي حالات الموت والإصابة والانكسار والصدمة، وتجنبت الحديث عن لحظات الشقاء التي عاشها من لا ذنب لهم في الحادث في محطات القطار ومن وراء سماعات الهواتف. حين تكون منظومة ما معطوبة ابتداءً، أي في الأوقات العادية، فما بالك بها حين تتفجر أزمة، بل مأساة.