رغم المجهودات الكبيرة التي تقوم بها الحكومة المغربية والأجهزة الأمنية من أجل محاربة ظاهرة الهجرة السرية، وحماية المهاجرين من الشبكات الإجرامية الدولية التي تنشط بين شمال المملكة والجنوب الإسباني، إلا أنه في بعض الأوقات الحرجة، كما هو الوضع الحالي مع أكبر أزمة للهجرة السرية بين المملكتين في القرن الحالي، تعطي الإجراءات المتخذة والتي تكون في الغالب ذات طابع أمني، مفعولا عكسيا، إذ عوض إيجاد حل للأزمة تزيد منها، وهو الأمر الذي تعترف به المافيا في هذا الربورتاج، بالتأكيد على أنه كلما ازدادت المراقبة الأمنية كلما ازداد نشاط مافيا قوارب الموت. تغير إيقاع الليالي كثيرا في حي مسنانة بطنجة في بضع أسابيع. فالصخب المعتاد للمهاجرين الأفارقة القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء في هذا الحي انطفأ، وحل محله صمت مطبق بسبب الخوف. بالكاد يخرج المهاجرون الباقون في الحي من شققهم، فيما قرر الكثيرون الانتقال إلى العيش في مخيمات بلاستيكية في الغابات المجاورة. “يعتقلوننا جميعا. الكثير من إخواننا تواروا عن الأنظار. يزجوننا في حافلات ونحن مصفدي الأيادي، ويتركوننا في مدن الجنوب مثل تزنيت وأكادير. لا حول لنا ولا قوة”، يحكي الغيني باري. في الحقيقة، لا يمكن القول إن جميع المهاجرين يشتكون من السياسة الجديدة التي اعتمدها المغرب بخصوص الهجرة. ففي حي بوخلاف، المتاخم لمسنانة، يعيش المهاجر تومي (اسم مستعار). ينحدر من الكاميرون، ويعتبر في أوساط شبكات تهريب البشر ب”الموجه”، إذ يتكلف بإعداد كل المسائل المرتبطة باللوجيستيك قبل الإبحار: يهيئ كل الآليات (قارب الموت والمجاديف وسترات النجاة) ويجمع المهاجرين، كما يتكلف، أيضا، بتحديد المواقع التي يمكن الإبحار منها، والبحث عن “الزطاطة” الذين يؤمنون وصول الرجال والنساء إلى هذه المواقع… “بالتأكيد سنستمر في جلب الكثير من الزبناء خلال فصل الخريف هذا. الكل يدرك اليوم، أن الاقتراب أو اقتحام السياجات الحدودية لسبتة أو مليلية، يعني الاعتقال والترحيل نحو الجنوب. لهذا، الجميع يصر اليوم، على ركوب البحر. أنا هنا لمساعدتهم، ولكي تسير الأمور على ما يرام”، يبرر هذا المهاجر الكاميروني بسخرية العمل الذي يقوم به. “الأمن المغربي يقوم بعمل جيد. إذ يرحل المهاجرين إلى مدن مثل فاسوالرباط وأكادير… هكذا يمكنهم البحث عن عمل هناك، وتوفير بعض النقود، وبعدها العودة إلى طنجة. لاحقا نتكلف نحن بالعمل الباقي”. اختلاط السياسي بالأمني تغيرت الأمور رأسا على عقب مع بداية شهر غشت المنصرم. إذ بعد سقوط الحكومة اليمينية بإسبانيا وصعود الاشتراكيين، بدأت العلاقات بين البلدين تهتز إلى درجة أن ذلك التناغم التاريخي بين المملكتين انخفض على خلفية أزمة الهجرة السرية. ما استوجب على رئيس الحكومة الإسبانية سابقا، خوسي لويس رودريغيث ثاباتيرو، ووزير خارجيته، ميغيل آنخل موراتينوس، إلى لعب دور الوساطة خلال استقبالهما من قبل ملك المغرب بمناسبة عيد العرش الأخير بالقصر الملكي بطنجة. بعدها مباشرة التزمت المفوضية الأوروبية بدعم المغرب من أجل مراقبة حدوده. وعليه، أعطيت الأوامر من الرباط إلى القوات المساعدة إلى تشديد المراقبة على خروج القوارب من سواحل المملكة. بالتزامن مع ذلك كان هناك لقاء بين رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، والمستشارة الألمانية، آنجيلا ميركل، حيث اتفق على تخصيص 130 مليون أورو من ميزانية صندوق شمال إفريقيا من أجل دعم المغرب لتعزيز الحراسة الأمنية في حدوده، وكذلك، في الحدود الإسبانية. كما انتقل وزير الداخلية الإسباني، غراندي مارلاسكا، من فكرة نزع الأسلاك الشائكة الحادة من السياجات الحدودية لسبتة ومليلية، إلى إعادة 116 مهاجرا سريا صوب الجانب المغربي، بعد ما كانوا اقتحموا السياجات يوم 26 يوليوز. أما المغرب، فتفاعل مع ذلك بطريقته الخاصة وبموافقة أوروبا، حيث قام بحملة أمنية مكثفة وعنيفة في الأحياء والغابات حيث يعيش المهاجرون. كل هذا برره المسؤولون المغاربة بالقول إنه جزء من محاربة شبكات التهريب والاتجار في البشر. لكن، ما لا يعلمونه هو أن مفعول هذا المسلك يكون عكسيا، أي إن الدواء أحيانا يكون أسوأ من العلاج، بحيث أن الذين يربحون الأموال الطائلة بالزج بالمهاجرين في البحر، يؤكدون أن لديهم اليوم، المزيد من الزبناء أكثر من أي وقت مضى. «المغربي بلدي» بالنسبة إلى “تومي”، موجه المافيا، الأمور واضحة: ولجت سبتة مرات عدة، لكن أفضل دوما العودة. المغرب هو بلدي، لأنه يملأ جيوبي بالأموال. لا أرغب في السفر إلى أوروبا. هنا أعيش في بحبوحة، بل أكثر من ذلك أرسل النقود إلى عائلتي”، يؤكد تومي. يكشف أنه يحصل مقابل كل قارب موت يخرج صوب إسبانيا على 7000 درهم. “ليست لدي أي مشكلة في الهروب من دوريات الأمن. في الواقع، بعض الأمنيين هم المافيا الحقيقية في كل هذا. يكفي أن تمنحهم 200 درهم ليخلوا سبيلك. ( تبقى هذه مجرد إدعاءات تتضمنها شهادة المهاجر، وحتى إن وجدت فيتعلق الأمر بحالات فردية). إلى جانب تومي يجلس شاب آخر يسمى ميشيل وينحدر، أيضا، من الكاميرون. مهمته تخزين الآليات التي يحتاجونها قبل الإبحار في بيته. “الأسبوع الماضي، داهم الأمن شقتي وأخذ كل ما كان فيها، بما في ذلك السجائر. تمكنت من الحفاظ على 500 درهم في سروالي، قبل أن أسلمها في مخفر الشرطة لعنصر أمن مقابل إخلاء سبيل قريب لي”، يتذكر ميشيل. وأضاف قائلا: “بعدها شرعت في البحث عن زوجتي وطفلتي البالغة من العمر عامين، لكن لم أعثر عليهما. بعدها علمت أن الأمن نقلهما على متن حافلة صوب الجنوب. أريد أن يعودا إلى طنجة، لأنني خائف من تعرض زوجتي للاغتصاب”. العلاج أسوأ من الداء فجأة، يتدخل تومي بعجرفة قائلا: “بعض الأمنيين أصدقائي، يأكلون من الطبق نفسه، الذي أقدمه لهم. يتقاضون رواتب هزيلة، لهذا يساعدوننا إذا دفعنا لهم أكثر. إنهم يتعاملون معنا من أجل حماية المهاجرين من أي سوء”. وختم محادثته معنا بانتقاد تصرفات المهاجرين الأفارقة أثناء اقتحام سياجات سبتة ومليلية بالقول: “ما قام به الأفارقة في السياجات الحدودية سيئ (في إشارة إلى استعمال مواد وآليات للهجوم على رجال الأمن). نحن لا ندافع عن ذلك، لكن يجب أن نعترف أن ما يقومون به يساعدنا على الرفع من زبنائنا. إذ إن الشباب لا يتجرؤون على الاقتراب من السياج خوفا من إيقافهم وإعادتهم إلى الداخل المغربي، لهذا لا بديل لديهم غير ركوب البحر”. تعترف مافيا “قوارب الموت” أن تجارتها انتعشت اليوم. فدوريات الأمن المغربي أو الإعادة الفورية من قبل الإسبان للمغرب تزيد من يأس وتذمر المهاجرين، مما يجعلهم يرتمون في أحضان المافيا، ما يعني در المزيد من الأموال في جيوب أصحاب القوارب التي تمخر عباب مضيق جبل طارق وبحر البوران. كل هذا يتصادم والرسالة التي دافع عنها وزير الداخلية الإسباني الأسبوع الماضي في البرلمان الإسباني قائلا: “إن التعاون الإسباني-المغربي يهدف إلى محاربة منظمات تهريب البشر. نريد توجيه رسالة إلى المافيا مفادها: الهجرة السرية ممكنة”. هذه الخلاصة تتناقض، على سبيل المثال، مع بعض الأرقام التي سجلت هذا الأسبوع. إذ سجل يوم الأربعاء الماضي وحده وصول 501 من المهاجرين إلى السواحل الأندلسية، فيما لقي 5 آخرين مصرعهم في الطريق. علما أنه إلى حدود 31 غشت وصل إلى إسبانيا، بحرا، 28 ألف مهاجر سري، بنسبة ارتفاع قدرت ب163 في المائة مقارنة مع الفترة نفسها من السنة الماضية. مصائب مهاجر عند مهاجر فوائد في الحقيقة، لا يمكن القول إن جميع المهاجرين يشتكون من السياسة الجديدة التي اعتمدها المغرب بخصوص الهجرة. «ولجت سبتة مرات عدة، لكن أفضل دوما العودة. المغرب هو بلدي، لأنه يملأ جيوبي بالأموال. لا أرغب في السفر إلى أوروبا. هنا أعيش في بحبوحة، بل أكثر من ذلك أرسل النقود إلى عائلتي»، يؤكد تومي. “الأمن المغربي يقوم بعمل جيد. إذ يرحل المهاجرين إلى مدن مثل فاسوالرباط وأكادير… هكذا يمكنهم البحث عن عمل هناك، وتوفير بعض النقود، وبعدها العودة إلى طنجة. لاحقا نتكلف نحن بالعمل الباقي”.