في يوم 15 شتنبر من كل سنة يخلد العالم اليوم العالمي للديمقراطية، وهي فرصة لاستعراض الواقع السياسي العربي ولاستشراف مستقبل التحول الديمقراطي في المنطقة العربية، وللتفكير بطريقة جديدة في اتجاه تنقية الأجواء السياسية من حدة الاستقطاب السياسي والإيديولوجي، وتدشين ثقافة جديدة في الممارسة السياسية، قائمة على قيم المصالحة الوطنية وتغليب المصلحة العامة على الأنانيات الحزبية والصراعات الطائفية والمذهبية. في إحدى المؤسسات الأوروبية، التي تناقش أوضاع الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي، توقف معظم المتدخلين عند حالة المغرب، مجمعين على ضرورة تشجيع النموذج المغربي، باعتباره النموذج الوحيد الذي نجح في الحفاظ على منسوب معين من الاستقرار السياسي والانفتاح الموزون. ورغم الانتقادات، التي وجهت للمغرب فيما يتعلق بالمقاربة المعتمدة لمواجهة احتجاجات الريف، فإن تزامن هذه المناقشات مع العفو الملكي عن مجموعة من المعتقلين دفعت الجميع إلى التفاؤل بإمكانية إغلاق هذا الملف بواسطة العفو عما تبقى من المعتقلين.. والحقيقة أن المراقب الخارجي حينما يقارن بين الأوضاع في المغرب وبين غيره في العالم العربي، ينتهي إلى تفضيل الحالة المغربية دون أن يعني ذلك الرضا عما يجري في المغرب.. ما ينبغي الانتباه إليه على مستوى المنطقة ككل، هو أن هناك طلبا جماهيريا على الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وعلى الديمقراطية بوصفها أرقى ما وصلت إليه البشرية في مجال التنظيم الاجتماعي والسياسي، وهو ما عبرت عنه الاحتجاجات الشعبية التي خرجت للشارع في أكثر من عاصمة عربية للمطالبة بإسقاط الفساد والاستبداد. وقد “نجحت” الثورات العربية في إسقاط رموز الاستبداد ورؤوس الأنظمة في عدد من البلدان، لكنها لم تنجح في تفكيك البنى العميقة للاستبداد، وليس من وظيفتها ذلك، كما ليس من وظيفتها وضع خارطة طريق متوافق عليها لوضع قطار البناء الديمقراطي على سكته الطبيعية.. نعم، جوبهت “الثورات العربية” على غرار جميع الثورات الشعبية بثورات مضادة، في محاولة لكسر إرادة الشعوب وإجهاض مسلسل التحول الديمقراطي في المنطقة العربية، والذين يقرؤون تاريخ الثورات يدركون أن هذه القاعدة ليست خاصية عربية.. إذن، الملمح الأساسي لهذه المرحلة هو عدم الاستقرار، وهو عامل مقصود من طرف القوى المناهضة للديمقراطية، التي انطلقت في ثورات مضادة لكسر إرادة الشعوب، وهي محاولات جارية على قدر عال من التنسيق بين قوى دولية تخشى على مصالحها في المنطقة وترفض تبلور أي نموذج للديمقراطية خارج منطق الهيمنة الغربية، وأخرى إقليمية اعتادت على نمط الحكم الفردي تحت غطاء ديني أو عشائري وترفض نجاح أي تجربة ديمقراطية تغري شعوبها بالتحرر من أنظمة الحكم الأبوية، بالإضافة إلى قوى سياسية داخلية ومراكز نفوذ ومجموعات مصالح عاشت على منطق الريع والاستفادة من الثروة خارج منطق المراقبة والمحاسبة وليس في صالحها أي تغيير ديمقراطي.. هذه القوى مجتمعة تخوض اليوم معركة إجهاض عملية التحول الديمقراطي، ومعها إجهاض أحلام الشعوب في التغيير.. قد تنجح الثورة المضادة في القضاء على التنظيمات السياسية التي استفادت من الحراك الثوري لأنها كانت أكثر تنظيما، لكنها لا تستطيع القضاء على وعي الشعوب وتطلعاتها نحو الحرية والكرامة، وإذا فشلت التنظيمات السياسية في إدارة هذه المرحلة الانتقالية، فإن المجتمعات ستفرز قياداتها الجديدة القادرة على التعبير عن تطلعاتها وأشواقها نحو الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. القوى المناهضة للتحول الديمقراطي تستهدف استقرار المنطقة لاستحالة بناء أنظمة ديمقراطية في بيئة غير مستقرة وتعمل على تغذية عناصر التوتر والاضطراب وإشعال الحروب الطائفية ومد المجموعات المتطرفة من جميع الاتجاهات بأسباب الحياة.. ولذلك، فإن الحفاظ على الاستقرار يعتبر عاملا حاسما في عملية البناء الديمقراطي.. طبعا، الظروف الجيوسياسية تختلف من بلد إلى آخر، ولا ينبغي السقوط في خطأ التعميم، فهناك أنظمة سلطوية شمولية عسكرية، وهناك أنظمة سلطوية عشائرية، وهناك سلطويات مرنة تعبر على هامش للانفتاح السياسي، لكنها بالتأكيد لم تصل إلى امتلاك مواصفات النظام الديمقراطي.. لكن الارتدادات التي عاشتها مجموع الأقطار العربية اصطدمت بغياب الرؤية لدى القوى الأساسية، وغياب منظور واضح لإدارة المرحلة الانتقالية، بل إن بعضها لم يتفق على تحديد مضمون لمفهوم الديمقراطية نفسه.. البعض يختزل الديمقراطية في الانتخابات وفي حكم الأغلبية، والبعض يقصرها على الحريات الفردية والجماعية وخاصة حرية التعبير والمعتقد، وعلى أساسها يحاول التنظير لنوع من «دكتاتورية الأقلية».. طبعا، ليست هناك وصفة سحرية ستقود إلى الديمقراطية ك «حتمية تاريخية»، لكن التجارب المقارنة الناجحة تفيدنا بأن كل مجتمع يدبر هذه المرحلة وفق ظروفه وبيئته وثقافته الخاصة… لكن الأهم، هو الاتفاق على هدف بناء الديمقراطية والاتفاق على الفاعلين الذين يريدون الديمقراطية وفرز الفاعلين الذين لا يريدونها.. وهو ما يتطلب الحوار المستمر والمنتظم بين الأطراف المعنية بالمسألة الديمقراطية، مع احترام الاختلاف.. وذلك هو سر النجاح: الحوار وإدارة الاختلاف.