خالد، رضوان، محمد، يوسف، تاشو ومحمد سعيد، كلهم قاصرون مغاربة تتراوح أعمارهم بين 16 و17 ربيعا. وصلوا السنة الأخيرة إلى إسبانيا على متن قوارب الموت. يوم الأربعاء (5 شتنبر)، حوالي الساعة الحادية عشر (العاشرة بالتوقيت المغربي)، أغلقت حديقة جاليون في منطقة مارشينا بإشبيلية، أبوابها، فلم يجدوا بدا من الافتراق في انتظار موعد آخر. بعضهم (جليل ويوسف وتاشو ومحمد سعيد) عادوا أدراجهم إلى مركز الإيواء، حيث كانوا يعيشون في الأشهر والأسابيع الأخيرة. فيما أوى رضوان ومحمد إلى محيط إحدى الحدائق، حيث يفترشان الأرض ويلتحفان السماء في الأيام الأخيرة. الاثنان ينتميان إلى مجموعة تتكون من 12 قاصرا هربوا في بداية هذا الشهر بعد ما حاولت الجهات المكلفة بهم ترحيلهم من مركز الإيواء “سانتا تيريثسا دي خيسوس، الذي كانوا يقيمون فيه، إلى المركز شبه الخاص جويلينا، الذي يبعد عن الأول ب90 كلم. “لسنا سلعة تُنقل من مكان إلى آخر”، يقول محمد بإسبانية ركيكة”، ويضيف قائلا: “نحن نريد الاستقرار. نحن مندمجون هنا، ولدينا كل ما نحتاجه، فحتى الذين يشرفون علينا يتعاملون معنا بشكل جيد للغاية”. في الواقع لا فرق بينهم وباقي أقرانهم في المدينة، اللهم ما يتعلق بالوضعية القانونية، وخير دليل على ذلك لباسهم: القبعات، والسراويل القصيرة، والقمصان، والأحذية الرياضية أو النعال. كما يلاحظ الفارق في اللغة، كذلك، إذ بالكاد يتحدثون بالإسبانية او يفهمونها. أبواب مراكز إيواء القاصرين بالأندلس مفتوحة، حيث يمكن للقاصرين المغاربة الدخول والخروج وقت ما يشاؤون. ومع ذلك، فإن أولئك الذين فروا من مركز “مارتشينا”، كنوع من الاحتجاج على قرار ترحيلهم إلى مركز آخر، لا يستطيعون ولوجه، لأنهم أصبحوا محسوبين على المركز الآخر، إلا في حالات استثنائية تستدعي استقبالهم من جديد. وتتجنب الحكومة المحلية بالأندلس وصفهم بالهاربين. “المراكز ليست سجونا، لا أحد يمنعهم من المغادرة أو العودة”، تشرح مصادر من وزارة المساواة والسياسة الاجتماعية في حكومة الأندلس. لهذا، عندما لا يعود أحد القاصرين إلى المركز المكلف به تلجأ الحكومة المحلية مباشرة إلى إخبار الشرطة والنيابة العامة باختفائه. “بعدها، تصبح الأمور في يد الأمن”، توضح مصادر من الوزارة السالفة الذكر. توجد ساحة غليون، حيث يختلط القاصرون المقيمين في المركز مع الهاربين منه، على بعد أمتار قليلة من إدارة الحرس المدني في منطقة مارشينا، المسؤولة عن البحث عن القاصرين. “لا يمكننا اعتقالهم، لأنهم، بكل بساطة، لم يرتكبوا أي جريمة. عندما نحدد هويتهم، نحيط مجلس المدينة علما بذلك. هذا كل شيء”، تفيد مصادر من إدارة الحرس المدني. “هنا يوجد فراغ قانوني. إذ نتخلى عن الأطفال في باب المركز. لا أعرف إن كان ذلك العمل قانونيا أم لا، لكن، كل ما أعلم هو أنه لاإنساني”، تتحصر إسبيرانزا كورتيز، عاملة في مركز سانتا تيريزا دي خيسوس، يوم الأربعاء الماضي، في إشارة إلى هذا البروتوكول الشيطاني حول توزيع المسؤوليات فيما يتعلق بالقاصرين. في الخميس 6 شتنبر، وحوالي منتصف النهار، وصل للتو يوسف وتاشو ومحمد ومحمد سعيد إلى حديقة جاليون. كانوا هادئين، لكن التعب بادي على وجوههم. يتجنب الهاربون من المركز الكشف عن المكان الذي يقضون فيه الليل، وعن الأشخاص الذين يمدونهم بالطعام. العديد من الجيران والعمال في مركز مارشينا يساعدونهم ويقدمون لهم الطعام والمال، لكن القاصرين يتجنبون الخوض في ذلك. في الواقع، هؤلاء الأطفال لا يخافون من الوقوع في قبضة الشرطة أو الحرس المدني، بل الشيء الوحيد الذي يخشونه هو أن يتم نقلهم إلى مركز جويلينا. “إنه مركز فظيع. إذ لا توجد أسِرّة، كما لا مكان لتناول الطعام، ولا توجد حمامات”. المركز الذي يهرب منه القاصرون غير المصحوبين هو مكان فردوسي. يتعلق الأمر ب”أغيلا ريال”، مزرعة متخصصة في استضافة حفلات الزفاف، والتي تم تحويلها في الأشهر الأخيرة إلى مركز استقبال للقاصرين المهاجرين. في الحقيقة المكان محاط بسرية تامة. على شبكة الإنترنت لازال يُعرف كمطعم للحفلات، لكن عند الاتصال لا أحد يرفع سماعة الهاتف. إطلالة سطحية على المكان لا تعكس تلك الأهوال التي وصفها القاصرون. “هل تعتقد أن هذا المكان غير صالح للعيش؟”، يقول موظف في باب المزرعة، قبل أن يمنع دخول المصور. ومع ذلك، فإن الشهادات التي أدلى بها بعض المساعدين الاجتماعيين، والذين يتواصلون مع القاصرين المغاربة، يصفون المركز ب”سجن بلا قضبان”. في كل مرة يأمر مجلس المدينة بنقل القاصرين من مراكز الاستقبال العامة إلى المقاطعة إلى غويلينا، تسجل حالات هروب جماعية. بينما يقضي محمد ويوسف وتاشو ومحمد سعيد الصباح فوق عشب الحديقة؛ ينتظر خالد ورضوان، القطار الذي ينقلهما إلى إشبيلية. رضوان، أحد الهاربين، يقول إنه يرافق خالد (أحد الذين لازالوا يقيمون في المركز) إلى دورة تكوينية في الطبخ بالعاصمة الأندلسية. والحقيقة هي أن حصة الطبخ قد بدأت منذ دقائق، كما أكدت لنا على باب مركز مارشينا، المسؤولة عن نقل الأطفال إلى هذه الصفوف في إشبيلية، بينما خالد لا يوجد بينهم. في المركز لا يريدون الحديث عن هروب الأطفال، ويحيلوننا على الوزارة المكلفة. المسؤول عن القطاع، ماريا خوسي روبيو، اعترفت في البرلمان الأندلسي بأنها متخوفة من “تفاقم” موجة وصول القاصرين المهاجرين غير المصحوبين. وفي هذا الصدد يؤكد مجلس المدينة أنه قدم المساعدة منذ بداية السنة ل4650 قاصرا (70 في المائة منهم مغاربة). في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، حدث انتعاش آخر في أعداد الوافدين على المراكز، لهذا اضطرت الوزارة إلى توفير 500 سرير جدد مستعجل. في الأيام الأخيرة، أمر المجلس بنقل الأطفال القاصرين من مركزي كارمونا ومارسينا إلى جويلينا، تزامنًا مع احتجاجات الموظفين على الأوضاع الهشة التي يضطرون فيها إلى أداء عملهم. ومع ذلك، فإن أعداد الوافدين المهاجرين لا تتوقف، إذ بالكاد تفرغ المركز، حتى تملأ. فمثلا يوم الثلاثاء الماضي، تم السماح بنقل 20 قاصرا من مارشينا إلى جويلينا، من بينهم 12 قاصرا كانوا في حالة فرار. منذ صباح اليوم وحتى الظهر، وصل 9 قاصرين. غادر مركز كارمونا 14 قاصرا، ولكن في الساعات الأخيرة ولجه 20 قاصرا جديدا، وفق إدارة المركز. في هذا السياق، تسعى الوزارة المعنية إلى توزيع القاصرين الذين يصلون إلى مقاطعة إشبيلية بين المراكز المملوكة للقطاع الخاص، مثل غويلينا، لضمان عدم تجاوز القدرة الاستيعابية لكل مركز، ومركز مارشينا المؤهل لإيواء 24 طفلاً فقط، بينما يأوي اليوم 29؛ فيما مركز كارمونا يقيم فيه نحو 40 طفلا، بينما يستوعب 20 فقط، وفق إدارة المركز. حسن وعلي الصالحي، البالغان من العمر 17 ربيعا، وصلا هذا الصباح إلى مركز مارشينا. يتجولان في المركز والابتسامة تعلو محياهما. حقا إنهما سعيدان بالوجود في إسبانيا. ربما، لا يعلمان أنهما قد ينتهيا في مركز جويلينا، وهو المصير الذي، في الوقت الحالي، استطاع خالد، ورضوان، ويوسف، وتاشو، ومحمد ومحمد سعيد تجنبه. وباستثناء رضوان، الذي يرغب في العودة إلى المغرب، تفضل البقية البقاء في إسبانيا، ولا يفكرون في إتمام الرحلة صوب بلد آخر، رغم أنهم لا يفكرون جديًا بما يريدون فعله. هنا، لا أحد لديه عائلة أو أقارب. حاليا، همهم الوحيد والأوحد هو قضاء فترة ما بعد الظهيرة كما يفعلون دائمًا: الجلوس في الحديقة حتى الساعة التاسعة ليلاً- زمن العودة إلى المركز، بالنسبة إلى الذين لم يفروا منه- قبل أن العود في اليوم الموالي في انتظار توقيت إغلاقه. هو فعل روتيني يومي لا يزعج بعض الجيران، فيما يقلق البعض الآخر. 6 عن إلباييس أرقام مخيفة عدد القاصرين المغاربة غير المصحوبين فوق التراب الإسباني يقارب ال5000 طفل، دون احتساب الأطفال المغاربة الذين يتسكعون في الشوارع ممن لم يشملهم الإحصاء الرسمي. أغلب هؤلاء الأطفال يعيشون في جهات الأندلس وكتالونيا، وفي المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية. غير أن أغلب الأطفال المغاربة الذين تسللوا إلى الجارة الشمالية يبقى هدفهم الوحيد هو الوصول إلى مدينة بيلباو، أولا، وبرشلونة كخيار ثالث، نظرا إلى الامتيازات التي يستفيد منها بعض رفاق دربهم في الهجرة هناك، علاوة على سهولة تسوية وضعيتهم القانونية هناك، بعد بلوغ سنة 18 ربيعا.