النقاش الدائر حول إصلاح منظومة التربية والتكوين ينبغي أن يتعمق أكثر ليسائل الأسباب الحقيقية ل”فشل” الكثير من المبادرات المؤسساتية لإصلاح نظام التربية والتكوين، وآخرها الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي أطر ما سُمي بعشرية الإصلاح وبعده المخطط الاستعجالي، والذي لم يستعجل أحد ضرورة محاسبة المسؤولين عن تبديد ميزانيته.. الفرضية الأساسية التي تبدو ساطعة هي الاستمرار المنتظم لحضور موضوع إصلاح التعليم في أجندة السياسات العمومية: على الأقل يتم طرح مبادرة إصلاحية واحدة كل أربع سنوات، مع الحرص على إشراك ممثلين عن مختلف المهتمين بالمسألة التعليمية، هذا الحضور لا يقتصر على إشكاليات محددة أو ملاءمات محدودة، وإنما يقوم بمراجعة كل شيء، بما في ذلك الرؤى الاستراتيجية التي لم تستقر على حال منذ الاستقلال إلى اليوم!! هذا الحضور المكثف والدائم لخطاب الإصلاح الذي يصطدم بنتائج متواضعة، ربما سيكون عامل إحباط أمام كل محاولة إصلاحية جديدة، إذا لم تنطلق من الكشف الدقيق عن السبب الحقيقي وراء هدر الكثير من الفرص وضياعها.. والنتيجة أننا راكمنا أدبيات إيجابية من الناحية النظرية بغض النظر عن الاختلافات الموجودة بين المختصين حول عدد من الإشكاليات المرتبطة بالمنظومة، لكننا على الأرض راكمنا مفارقتين جديرين بالتأمل: – المفارقة الأولى أن الترتيب العالمي للمغرب في مجال التعليم، وفق المؤشرات التي تعتمد عليها معظم التقارير الدولية، يبقى دون المستوى المطلوب مقارنة مع الإمكانيات المسخرة والقدرات المتوفرة، ويبقى مؤشر الهدر المدرسي وضعف الجودة من أبرز نقاط الضعف في منظومتنا التعليمية، وهو ما يعني الحاجة الملحة إلى إصلاح المدرسة المغربية، ولا سيما التعليم العمومي. المفارقة الثانية أن التعليم الخاص يحقق انتشارا متزايدا ويستقطب فئات جديدة من الشرائح الاجتماعية المتوسطة، بالإضافة إلى فئة الأغنياء التي تختار لأبنائها مدارس خاصة بتكلفة مالية عالية.. والنتيجة أن النموذج الذي استقر العمل به منذ ما يقارب ثلاثة عقود أفرز منظومة تعليمية تكرس الفوارق الاجتماعية بين أبناء المجتمع الواحد، وأصبح لدينا نظام تعليمي خاص بالأغنياء وجزء منه يستقطب أبناء الطبقة المتوسطة، ونظام آخر لباقي أبناء الشعب المغربي، وهذا الاختيار تكاد لا تعثر له على تجربة مشابهة في الأنظمة التعليمية المتقدمة، خصوصا على مستوى التعليم الأساسي والثانوي! إن الانعكاسات المباشرة لهذا النظام الذي يكرس الفوارق الاجتماعية والتعليمية ولا يبقي على الفرص المتساوية بين الجميع على قاعدة الكفاءة والجدية والاستحقاق، تتجاوز “التمييز التعليمي” لتخلق أجيالا من “الشباب غير النافع” بتعبير الباحثة منية الشرايبي، وهو الشباب الذي يجد نفسه بفعل هذا التمييز المبني على سياسة عمومية معتمدة منذ الثمانينيّات من القرن الماضي عرضة للانحراف أو الهجرة السرية، أو يختار الاحتجاج في الشارع على السياسات الاجتماعية والاقتصادية، وعلى ظروف الحرمان والتهميش التي يعاني منها . إن الثورة المنتظرة في مجال التعليم لا يمكن أن تنجح، إذا لم تنطلق من قاعدة المساواة بين أبناء المجتمع الواحد وحقهم في الاستفادة من الفرص التعليمية نفسها على قدم المساواة حتى لا ننتج جيلا من “الشباب النافع والمحظوظ”، وأجيالا من “الشباب غير النافع”. إن تدبير هذه الإشكالية، في إطار شراكة فعالة ومبدعة بين الدولة والقطاع الخاص، بما يؤدي إلى خضوع جميع المؤسسات التعليمية لنمط تدبيري موحد ولنظام بيداغوجي واحد تؤدي إلى المساواة في الفرص بين الجميع، هو الكفيل بإحداث نقلة حقيقية في مجال الإصلاح الذي يتجاوز المدرسة ليحدث الإصلاح الاجتماعي والثقافي المنشود.