إذا كانت للجزائر عشريتها الدموية، فإن لنا نحن المغاربة عشريتنا المأساوية، حين كنا نستيقظ كل يوم على نبأ غرق قارب جديد من قوارب الهجرة السرية، أو إلقاء أمواج البحر بجثث جديدة لمغاربة كانوا يحاولون العبور نحو الفردوس الأوربي. كنا، وعلى مدى سنوات ماضية، نعتقد أن المغرب طوى تلك الصفحة إلى غير رجعة، إلى أن بتنا أخيرا نعيش الكابوس نفسه. بالأمس فقط، أعلنت البحرية الملكية إنقاذها 19 مغربيا كانوا يحاولون الهجرة سرا عبر قارب خشبي بسيط، انطلاقا من ساحل الدارالبيضاء. ولمن لا يتابع بشكل جيّد هذا الفصل الأسود من حاضرنا المرير، أقدم المشاهد التالية: المشهد الأول: من داخل قارب يبدو أنه لصيادين إسبان، يصوّر أحد الأشخاص منظر طفل مغربي يرتدي سترة نجاة، ويتمدد فوق إطار مطاطي أسود، مكّنه من البقاء طافيا فوق مياه البحر. يبادر أفراد القارب إلى مساعدة الطفل ودعوته إلى الاقتراب منهم، ومغادرة الإطار المطاطي وركوب القارب. عملية جرت بعد حوار قصير صرّح فيه الطفل بأنه مغربي يحاول الوصول إلى إسبانيا بتلك الطريقة. صعد المراهق مرتعشا إلى القارب، وتلقّف قنينة ماء وموزة لشدة الجوع والعطش اللذين ألما به، ثم دسّ نفسه في سترة جاد عليه بها أحد ركاب القارب بعدما لاحظ ارتعاشه الشديد. المشهد الثاني: مركب يقل مسافرين من المغرب نحو إسبانيا، بينهم مواطنون مغاربة في طريق العودة إلى الديار الأوربية حيث يقيمون، وبينما كان الركاب يستمتعون بمنظر البحر الذي يمخرون عبابه، فوجئوا بجثتين تطفوان فوق الماء. وثق ركاب من المهاجرين المغاربة المقيمين في أوربا المشهد بعدسات هواتفهم، فيما تسمع أصوات أطفال يعبرون عن صدمتهم بالمشهد، بلغات أوربية. المشهد الثالث: قارب ممتلئ بالعشرات من الراغبين في العبور نحو الضفة الأخرى، يوثقون انطلاق رحلتهم بشريط فيديو يطوف جميع أصقاع الدنيا حاليا. المشهد ورغم ما يؤثثه من ضحكات وعبارات ابتهاج، إلا أنه يخلف أسى لامحدودا عند من يشاهده. المركب مزدحم بالشبان والنساء والأطفال، بعضهم يوجه التحية إلى أبناء حيه بمدينة العرائش، وآخر يطلب ممن سيشاهد الفيديو أن يترك عليه علامة «جيم». إن ما نعيشه حاليا يرقى، دون أي مبالغة، إلى مستوى الكارثة الوطنية، وما المشاهد التي تصدمنا كل يوم، إلا صفعات توقظنا من تغافل مقصود عن هذا الانحدار الذي انطلق منذ سنوات. دعنا من الأرقام التي تمطرنا بها يوميا المنظمات الدولية للهجرة وأجهزة الأمن الأوربية، حول التدفق الانتحاري لأبنائنا على السواحل الأوربية، ولنتذكّر أن أكبر موجة نزوح بشري عاشتها أوربا في العقود الأخيرة، والتي افتتحها اللاجئون السوريون الذين حاولوا الانتقال من السواحل التركية إلى اليونان بهدف الوصول إلى ألمانيا؛ جعلتنا نعيش صدمة اكتشاف أن عشرات الآلاف ممن ركبوا تلك الموجة، كانوا مغاربة. شبان ويافعون أمطرونا حينها بالصور وأشرطة الفيديو وهم يتقمصون شخصية لاجئين سوريين، ويركبون قوارب الموت من تركيا وليبيا نحو السواحل الأوربية. وحين وصل بعضهم إلى مخيمات اللاجئين في مقدونيا وصربيا، ذاع صيتنا في العالم لأن عددا كبيرا من هؤلاء المهاجرين كانوا شبانا مغاربة يائسين، وصل الأمر ببعضهم إلى الاحتراق بعد محاولتهم القفز فوق أسلاك كهربائية عالية التوتّر، ورغم ذلك اخترنا دسّ رؤوسنا في الرمال. إن الذين يغرقون في مياه المتوسط والأطلسي ليسوا مجرد مراهقين يائسين من الحياة. إن ما يغرق هناك أمام أعيننا هو الأمل في مغرب عادل ومنصف لأبنائه. بعض هؤلاء الذين يركبون أمواج الموت هذه الأيام، هم الذين خرجوا عام 2011 رافعين شعار «حرية كرامة عدالة اجتماعية»، مطالبين بالإصلاح والقطع مع الفساد والريع، واستحواذ البعض على ثروات الوطن. هؤلاء الذين يغرقون في مياه البحر هم الذين لم يقدّم لهم وطنهم حتى الآن سوى وعود بتكوين مهني غير مقنع، وتجنيد إجباري لم يشرح لهم أحد خلفياته، وهم من تأخذ الدولة من ضرائب آبائهم عشرات الملايير سنويا لتصرفها على تعليم لا يمنحهم فرصة لعيش كريم. إننا أمام مأساة أكبر من مجرد فئة من الشعب غلبها اليأس، لأن ما أوقف النزيف قبل نحو عقدين هو أمل رافق وصول ملك شاب إلى العرش، حيث أطلق «العهد الجديد»، إلى جانب أوراشه الكبرى، دينامية مصالحة سياسية واقتصادية كبيرة مع الساحل الشمالي للمملكة، وهو الجزء نفسه من الوطن الذي يعيش حاليا نزيفا جديدا في الثقة بين جيل كامل من الشباب والدولة. الخطب الملكية الأخيرة أعلنت عدم توزيع ثمار النمو بشكل متكافئ بين المغاربة، والأخبار الآتية من البحر هذه الأيام تخبرنا بإحدى نتائج هذا الفشل. ورغم ذلك، يستمرّ البعض مصرا على خيار الاستحواذ، في الاقتصاد كما في السياسة.