بعد مقدمة لا تتجاوز دقيقة، يقدم من خلالها المنشط الإذاعي بصوته الخافت ولغته التي تشبه لغة «لمسيد»، الشيخ الذي يشاركه إعداد البرنامج، ويعلن للمستمعين أنهما مستعدان لاستقبال مكلماتهم. يرن الهاتف بأول اتصال، يبدو من صوت المتصل أنه أربعيني. يدخل الرجل الذي يتصل من مدينة تارودانت في صلب الموضوع، ويسأل الشيخ الذي يعده بالرد السريع على أسئلته عن «كيفية تلقين المريض المحتضر الإخلاص وكيفية التعامل معه وهو ميت»، ينقطع الخط ويستقبل المنشط اتصالا آخر وهذه المرة من سيدة تسأل عن «الرقية الشرعية لعلاج السحر». الشيخ تجاوب بسرعة مع الاتصاليين، وقدم لكن واحد منهما الفتوى التي تتماشى مع استفساره بطريقة سلسة ولغة عامية يفهمها كل المستمعين، المتعلمين والأميين، ليعود لاستقبال الاتصالات الاهتمام والانتباه نفسيهما. سيعتقد البعض أننا نتحدث عن برنامج تبثه إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم، المتخصصة في البرامج الدينية والتي أحدثت سنة 2004، ووصل عدد مستمعيها، حسب آخر مسح، إلى أزيد من 4.4 ملايين مستمع، لكن هذا البرنامج يبث في إذاعة خاصة، حيث أصبحت هذه الإذاعات تتهافت على هذا النوع من البرامج في الوقت الذي كانت فيه إلى وقت قريب تقتصر وصلاتها فقط على البرامج الاجتماعية الفنية والترفيهية. قمنا بجرد للبرامج الدينية لأهم الإذاعات التي تحظى بنسبة استماع مرتفعة، فوجدنا أن كل هذه الإذاعات يوجد من ضمن برمجتها برنامج ديني على الأقل، بدءا بإذاعة «ميد راديو» التي تبث برنامجا دينيا كل صباح أربعة أيام في الأسبوع، وهو برنامج يستقبل الأسئلة الخاصة بأمور الدين، فيما اختارت إذاعة «إم إف إم» بث ثلاثة برامج دينية؛ الأول لترتيل القرآن، والثاني لمعالجة السحر والمس والعين بالرقية الشرعية، والثالث لاستقبال أسئلة المستمعين الخاصة بشؤون الدين، فيما تبث إذاعة «شدى إ ف م» برنامجا دينيا كل يوم جمعة في وقت الذروة، وكذلك إذاعة «مدينة إ ف م» التي تبث أيضا برنامجا دينيا كل صباح يوم جمعة، يستقبل فيه الشيخ الاستفسارات والأسئلة حول كل ما يتعلق بالممارسات الدينية اليومية. لكن السؤال: لماذا كثر الإقبال على هذه البرامج من قبل الإذاعات الخاصة؟ هاجس الربح هشام المكي، الباحث في الإعلام والتواصل، والقيم بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، يرى أن نجاح إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم من أهم الأسباب وراء هذا التوجه، موضحا أن «ذلك النجاح نبه إلى مساحات من الإنتاج الإذاعي لم تكن مطروقة بالشكل الكافي، لينطلق التنافس في مجال إنتاج البرامج الدينية، والتجديد والإبداع فيها إلى حد الفوضى، أمام سيادة المنطق التجاري بدل التثقيفي»، يقول المكي. واعتبر الباحث في الإعلام والتواصل، في حديثه مع «اليوم24»، أن «الإقبال على هذه البرامج يفرضها أيضا المنطق الاستهلاكي للجمهور، وليس منطق الإفادة أو التثقيف أو الحاجة الفعلية»، فلكي تحتفظ الإذاعة الخاصة بجمهورها، ينبغي أن توفر له كل «الأنواع» الإذاعية الموجودة في «السوق» الإعلامي، بغض النظر عن القيمة العلمية أو التثقيفية لتلك البرامج. ويحصر المكي البرامج الإذاعية الدينية في المغرب بين برامج تثقيفية، مثل برامج الفتاوى والوعظ؛ وأخرى ترفيهية مثل تفسير الأحلام وبرامج الرقية التي تقدم في شكل ديني. ويتبنى الطرح نفسه صالح النشاط، الباحث في الفكر الإسلامي، حيث اعتبر أن إقبال الإذاعات الخاصة على البرامج الدينية له أسباب عديدة، من أهمها المنافسة على حصول أفضل الترتيب في قائمة الإذاعات الأكثر استماعا، مقارنة بإذاعة محمد السادس للقرآن الكريم، والتي أثبتت التقارير الرصدية أنها الأكثر استماعا في المغرب، إضافة إلى اعتبار المدخل الديني هو المدخل الأكثر نفاذا وقبولا لدى المستمع، بحكم تدين غالبية المغاربة، على اعتبار أن شرائح مجتمعية واسعة في المجتمع هي شرائح متدينة ومحافظة، والانفتاح عليها لا يكون إلا عبر مثل هذه البرامج الدينية. الرقية الشرعية وتفسير الأحلام بالعودة إلى نوعية البرامج التي تبثها هذه الإذاعات، نجد أن البرامج الخاصة بالرقية والعين وتفسير الأحلام تتربع على عرش البرامج الدينية، حيث أكد عدد من العاملين في الإذاعات الخاصة أن هذه البرامج هي التي يقبل عليها المستمعون، عكس البرامج التثقيفية التي تعلم تعاليم الدين الإسلامي، وهو ما جعل هذه الإذاعات تقبل عليها لاستقطاب أكبر عدد من المستمعين. ويفسر المكي إقبال المستمعين على هذه النوعية من البرامج بكون الدين في السياق الاجتماعي ليس بمثل النقاء الذي نتصوره، فهو مزيج من التعاليم الدينية الصحيحة، والتقاليد الثقافية والاجتماعية، والخرافات، والأخطاء الشائعة… إذ تجد من يحرص على العبادات الإسلامية، لكنه يقدم «ذبيحة» حينما يسكن منزلا جديدا، أو يلتجئ إلى مشعوذ ليخلصه من سوء الحظ (العكس بالدارجة المغربية) أمام فشل تجارته، لذلك -يقول الباحث في الإعلام- فإن البرامج الدينية بالنسبة إلى فئة عريضة من الجمهور هي برامج الفتاوى والوعظ وتفسير الأحلام والرقية الشرعية… وتكتسي بالنسبة إليهم القيمة والأهمية نفسيهما. من جانبه، يرى النشاط في حديثه ل«اليوم24» أن بعض هذه البرامج الدينية أظهرت ضعفا رساليا وفنيا، فأصبحت كتلة من الكلام تمرر من خلاله رسائل ملغومة وغير واضحة، والسبب يرجع إما إلى مستوى الأشخاص المعنيين بهذه البرامج إعدادا وإلقاء، أو إلى طبيعة الموضوعات التي لا علاقة لها بواقع الناس، ولا بانشغالاتهم، وأضاف أن «الإذاعات الخاصة ليست إذاعات دعوية خالصة، مهمتها نشر التدين والدعوة إلى الدين وأصوله وأحكامه، بقدر ما هي مشروع استثماري برسالة إعلامية معينة وفق خطها التحريري المعتمد، لذلك، يكون رهان هذه الإذاعات الخاصة هو تحقيق توازنها المالي من خلال البحث عن مداخيل الإشهارات التجارية حتى تتمكن من الاستمرار». وانتقد النشاط سعي الإذاعات الخاصة إلى هذا النوع من البرامج قائلا: «حينما نجد برنامجا دينيا يتحدث عن تفسير الأحلام على الهواء مباشرة، أو يتناول عالم السحر والصرع والجن والرقية الشرعية وغيرها… فهذه القضايا تسائل الثقافة الدينية التي يتصورها القائمون على هذه الإذاعات الخاصة، وهي ثقافة يشوبها تلبيس وقصور نظر في فهم تدين المغاربة، فيجب عدم الاغترار ببعض المكالمات الهاتفية المعدودة التي تفد على البرنامج من هنا وهناك، فهي لا تعكس بأي حال توجهات التدين لدى المغاربة». الخطاب الديني التقليدي لم يعد مقبولا! يبدو جليا، من خلال الاستماع إلى البرامج الدينية التي تبثها الإذاعات الخاصة، أن القائمين على هذه البرامج جددوا طريقة تقديم محتوى الخطاب الديني، وأيضا شكل وطريقة تواصل علماء الدين، من خلال اعتماد خطاب بسيط يفهمه العامة من الناس. وفي هذا الصدد، يرى النشاط أن الخطاب الفقهي لم يستطع مواكبة تطور المجتمع في تغيراته المجتمعية ومستجداته الراهنة بالشكل الكافي، وهو ما تولد عنه شبه انفصال بين المجتمع وخطاب الشريعة، وهذه مسؤولية، حسب المتحدث، تتقاسمها المجالس العلمية وعلماء المغرب وفقهاؤه الأجلاء، مضيفا أن «هذا ما جعل الإذاعات الخاصة تستثمر حاجة الناس إلى خطاب فقهي واقعي معاصر، وذلك من خلال استضافة أشخاص لديهم جرأة زائدة في فهم قضايا الدين، لتحقيق القرب بين الإذاعة ومستمعيها». غياب الرقابة بداية السنة الجارية، أصدر المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري قرارا يقضي بوقف بث خدمة «شدى إف إم» خلال التوقيت الاعتيادي لبرنامج «دين ودنيا» لمدة أسبوعين، على خلفية جواب لضيف البرنامج تضمن إخلالا بالمنظومة القانونية والتنظيمية الجاري بها العمل، ولاسيما تلك المتعلقة بكرامة المرأة، حيث تضمن البرنامج سؤالا لأحد المستمعين حول الحكمة من العدة عند المرأة المتوفى عنها زوجها أو المطلقة، وجاء في جواب ضيف البرنامج، الذي يقدم بصفته «شيخا وداعية»، أن «أكثر النساء عرضة للسرطان هن النساء اللواتي يتعاطين الدعارة والخيانة الزوجية»، واعتبر المجلس أن الجواب المذكور لم يتقيد بالضوابط المتعلقة بتقديم معلومات ومعطيات صحيحة. هذه الحالة التي وقفت عليها «الهاكا» هي فقط واحدة من بين عشرات التجاوزات التي تبث في هذه البرامج، من خلال تقديم معلومات غير دقيقة وفتاوى دون سند، بالإضافة إلى جلب غير متخصصين في المجال، ويفسر النشاط ذلك بأن التحدي الأول لهذه الإذاعات الخاصة هو البحث عن أقصر الطرق للوصول إلى المستمع، وحصد نقط في مؤشرات الاستماع حتى تنال عطف المستشهرين، وبالتالي، فإن تنويع العرض الديني وتجويده، من خلال نخبة من العلماء والفقهاء المشهود لهم بالرسوخ في العلم، يعد أمرا ثانويا في السياسات التحريرية لهذه الإذاعات، ذلك أن الرهان الأهم هو البحث عن أشخاص يملكون من أدوات التواصل الحديثة، وقوة البيان وسلامة الحبال الصوتية، والقدرة على الإقناع، حتى ولو كان الزاد العلمي والفقهي ضعيفا، مشيرا إلى أن مشكلة بعض العلماء والفقهاء تكمن في نقص القدرات التواصلية والتسويقية، وهو ما لا يتماشى مع توجهات هذه الإذاعات الخاصة، التي تريد حرق المراحل وكسب أكبر عدد من المستمعين من خلال دغدغة عواطفهم الدينية بخطاب صنع على المقاس. وتابع المتحدث ذاته قائلا: «لا غرابة أننا أصبحنا نسمع بعض هؤلاء يتحدثون بكل أريحية في الدين وقضاياه، ويجيبون الناس عن أسئلتهم واستفساراتهم دون تريث ولا تمحيص ولا تأكد… فيقولون الدين ما لم يقله، ويحملونه ما لا يطيق. فأصبحت هذه الإذاعات الخاصة مرتعا لسيولة في الفتوى، وتقديم أجوبة عن أسئلة حقيقية وأخرى افتراضية، وإنشاء أحكام غير منضبطة لأصل الشريعة الإسلامية، ولا للثوابت العقدية والمذهبية للأمة المغربية». وعن المسؤول عن هذه الفوضى، يرى المكي أن المسؤولية مركبة؛ إذ إن لذوق الجمهور سلطة على الإذاعة، لكن يجب على الإذاعة الاشتغال على الارتقاء بذوق الجمهور، مضيفا أنه «على الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري أن تنفتح أكثر على الباحثين في المجال الإعلامي، وتفكر في تطعيم معاييرها واهتماماتها؛ إذ إن لها اهتمامات تقنية ذات طبيعة قانونية أساسا يطغى عليها احترام دفاتر التحملات والتمثيلية السياسية، لكن هناك ضعفا في الاشتغال على جودة المنتج الإعلامي، «فليس كل منتج إعلامي قانوني جيدا بالضرورة»، يضيف المتحدث.