لا شيء أيسر من لي عنق الحقائق وتزييف الوقائع لتبرير تغيير المواقف. هذه مهمة يعرفها المتحذلقون في السياسة، الذين تشبه أعمالهم أعمال السحرة. لكن بعض الإسلاميين عادة ما يبرعون في مثل هذه الخدع، وإن كانوا يشعرون بأن ما يفعلونه إنما هو في حقيقة الأمر خديعة. قادة البيجيدي، مثلا، الذين يحاولون، منذ مدة، ترتيب أوراق جديدة عبارة عن دفتر تحملات يحدد شروط عقد عمل بين حزب العدالة والتنمية وبين السلطات، يجهدون أنفسهم فعلا في تفسير كيف يمكن أن تكون الهزيمة نصرا صغيرا، وأن يكون الاستسلام حنكة في التكتيك. مصطفى بابا نجم صاعد في البيجيدي، معروف بعدائيته الشديدة للمنتقدين الذين يملكون حساسية مفرطة إزاء التقلبات الطارئة في مزاج السياسيين. من منصب إلى آخر في دواوين أكثر وزراء هذا الحزب محافظة، طور بابا ميكانيزمات دفاع خاصة. وشيئا فشيئا، تحول هو نفسه إلى نسخة مزيدة من رئيسه، عزيز رباح. لا يحتاج المرء إلى كثير من الجهد لفهم أن بابا مجرد أداة دعاية، وهو شخص حديث السن، وأيضا قليل التجربة السياسية، لذلك يمكن استعماله في تحسين المواقع خلال أكثر أوقات المعارك السياسية ضراوة، لاسيما تلك التي تحدث داخل البيجيدي نفسه، وما أكثرها في الوقت الحالي. وعندما يخاطب شخص مثل بابا شبيبة حزبه، فإن الرجل يمتلك جاذبية إضافية، فهو كان رئيسا لها بعدما فوضها إليه رئيسها السابق، رباح نفسه. وبهذا الثقل المعنوي، يكون لما يقوله بابا معنى. أوتي ببابا إلى حشد ضخم من شباب الحزب لتبرير شروط دفتر التحملات الجديد، وقد فعل ذلك مثلما يبرع أي إسلامي آخر؛ باستخدام التراث الديني. وبالطبع، في رحلة النزول عادة، تُستعمل أنصاف الحقائق فحسب. ذكر بابا قصة شروط صلح الحديبية بين النبي محمد وجماعة قريش، والطريقة التي فُرضت بها على النبي أن يعيد أي مسلم هارب من مكة إلى المدينة إلى جماعته، وقد فعل ذلك في حالتين متزامنتين. وقفز بابا بسرعة مبتهجا بأن مثل هذه التنازلات يجب ألا تضر البيجيدي إن كان النبي نفسه قد قام بمثلها. وفي الواقع، فإن هذه الرواية ناقصة، وكان من الضروري أن يحذف بابا باقي التفاصيل لأنها قد تضره وسط شباب حزبه، أو قد تخدم فقط أولئك الذين يعارضونه. ولأن التاريخ لا يكذب، فإن القصة الحقيقية تقول إن الرجل الذي أعاده النبي أولا، قتل حراسه من قريش في الطريق، ثم جمع من حوله مسلمين فارين آخرين ممن كانت شروط صلح الحديبية تقيد ولوجهم يثرب، وتحولوا إلى «عصابة» تقطع الطريق على تجارة قريش، وأضرت عملياتهم كثيرا بقوة الخصم، حتى انتهى كل شيء بفتح مكة. لا يقبل بابا، بطبيعة الحال، أن يتحول الرافضون لشروط دفتر التحملات إلى مارقين، ويبدو أن مهمة الحزب الآن هي الحؤول دون أن يميل جزء منه إلى مواقف متطرفة. وقد عولجت مسألة بنكيران بهذه الطريقة لتخفيف وقع الصدمات. وهنا تأتي قصة الحمار الذي يحبه بنكيران. وهو بالضبط الحيوان الوحيد الذي ذكره بالاسم، ودعا شباب حزبه إلى تمجيده. يشعر بنكيران بالخذلان، فهو لم يقبض الأجر عما فعله منذ 2011. لذلك كانت قصته موحية عندما قال إنه صادف رجلا يقود حمارا كان يجر عربة في عقبة، وكيف كان يحاول جاهدا جر الحمار والعربة دون جدوى، حتى مر بنكيران بسيارته، فنزل منها، ودفع العربة من الوراء وصاحب الحمار يجرها من المقدمة، فتحرك الحمار والعربة معا، ليعود بنكيران إلى سيارته بكل هدوء، ويحتسب أجره عند الله. لكن الجرة لا تسلم دائما بالنسبة إلى قصص الحمار، وإذا كانت رؤيا الحمار في المنام عادة تبشر بخير، كما تقول التفاسير، فإن الواقع يفند ذلك كثيرا. لذلك، ليست هناك قصة حمار أدق في تلخيص قصة بنكيران وحزبه من تلك التي ذكرها ابن المقفع في كتابه الحيوان، عن ابن آوى والأسد والحمار. تقول الحكاية إن الأسد أصيب بضعف شديد ولم يعد يقو على الصيد، فأفتاه ابن آوى، الذي كان يأكل من فضلات طعامه، أن يأتيه بحمار يأكل قلبه وأذنيه، وأن ذلك هو دواؤه، وبالفعل أبدع حيلة تبعد الحمار عن الإنسان الذي أنهكه جوعا وأثقالا، لكن الأسد رأف به لضعفه، وفر الحمار، غير أن ابن آوى عاد إلى الحمار يقنعه بأن الأسد كان يريد الترحيب به فحسب، فعاد مرة أخرى معه، لكن ابن آوى أقنع الأسد بأكل الحمار هذه المرة، فوثب عليه الأسد وقتله، ثم قرر أن يغتسل ويتطهر قبل أن يأكل قلب الحمار وأذنيه، على أن يترك الباقي لابن آوى. فلما ذهب الأسد ليغتسل، أكل ابن آوى قلب الحمار وأذنيه، لكي يتطير الأسد منه فلا يأكل منه شيئا. ورجع الأسد إلى مكانه فقال لابن آوى: «أين قلب الحمار وأذناه؟» فقال ابن آوى: «ألم تعلم أنه لو كان له قلب يعقل به، وأذنان يسمع بهما لما رجع إليك بعدما أفلت ونجا من التهلكة».