ارتبط اسم محمد بوسعيد في الأسابيع القليلة الماضية، بعبارة "المداويخ"، التي وصف بها المشاركين في حملة المقاطعة الشعبية. بوسعيد وقف مستهل شهر ماي الماضي، داخل إحدى الجلسات الرسمية للبرلمان، ووصف المقاطعين ب"المداويخ"، ليصبح رأسه مطلوبا من طرف أوساط واسعة، بعضها سياسي والبعض الآخر من الرأي العام. النائب البرلماني عن فريق الأصالة والمعاصرة، عبداللطيف وهبي، هاجم بوسعيد بشدة في جلسة برلمانية لاحقة، وقال إن وزراء في الحكومة "يسبّون الشعب ويصفونهم بالمداويخْ والقطيع"، متسائلا "هل هذه حكومة جلالة الملك؟ هل هذه حكومة يراقبها البرلمان؟". موازاة مع ذلك، أطلقت عريضة إلكترونية نشرها موقع avaaz المتخصص في العرائض، مطالبة بإقالة محمد بوسعيد. العريضة برّرت دعوتها إلى إقالة بوسعيد بوصفه المطالبين بتخفيض أسعار مواد، أساسا، بال"مداويخ" داخل مؤسسة البرلمان، "ونظرا إلى ملفاته السوداء واستماتته في الدفاع عن اللوبيات الاقتصادية المحتكرة للسوق المغربية". رغم أن أحدا لم يكن يتوقعه، إلا أنه لم يفاجئ أحدا، الملك يُقيل وزير الاقتصاد والمالية محمد بوسعيد. الخبر نزل كالصاعقة على أهم وزارات الحكومة وأكثرها تأثيرا في جميع قراراتها وسياساتها. كانت الساعة تشير إلى عصر أول أمس الأربعاء، حين انتشرت قصاصة مقتضبة لوكالة الأنباء الرسمية انتشار النار في الهشيم. وزراء ومديرون وكتاب عامون قطعوا أنشطتهم وألغوا التزاماتهم ودخلوا في اتصالات مكثفة عبر التطبيقات "المشفرة". كان الجميع في انتظار البقية المحتملة للقرارات الملكية، "فمنذ يوم الأحد الماضي، حين اجتمع الملك في الحسيمة ببعض الوزراء عقب بث الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى عيد العرش، لوحظ أن شيئا ما يُحضّر من هذا القبيل"، يقول مسؤول سام في إحدى وزارات حكومة العثماني. مصدر آخر حضر الاحتفالات الرسمية بمناسبة ذكرى عيد العرش وتابع جل تفاصيلها من الحسيمة إلى تطوان، مرورا بمدينة طنجة، قال ل"أخبار اليوم" إن "غياب محمد بوسعيد كان مثيرا للانتباه، فالجميع يعلم أن الوزراء يلغون جميع التزاماتهم الداخلية والخارجية لحضور مثل هذه المناسبات". مصدر آخر قال إن بوسعيد دخل القصر الملكي بمدينة طنجة يوم الاثنين الماضي، حيث أجريت الاحتفالات الملكية بمناسبة عيد العرش، "لكنه كان موضوع لقاء خاص لا نعرف بمن جمعه، وغادر بعد ذلك مثله مثل رئيس الجهة إلياس العماري"، يقول مصدرنا، والذي رجّح أن يكون بوسعيد قد تلقى خبر إعفائه حينها، بطريقة مشابهة لاستقبال رئيس الحكومة السابق عبدالإله بنكيران بقصر الدارالبيضاء، حيث أخبره مستشارو الملك بقرار إعفائه. البلاغ الصادر عن الديوان الملكي، كما عممته وكالة المغرب العربي للأنباء، تضمن شحنة من الغموض الذي اعتبره جل المراقبين مقصودا. فالإعلان عن إقالة وزير المالية جاء متضمنا لنحو 60 كلمة مرتبة بعناية شديدة وموزعة بين فقرتين. الجزء الأول من القصاصة جاء حملا للسند الدستوري للقرار، حيث أحال مباشرة على الفصل 47 من الدستور، والذي يمنح الملك حق إعفاء الوزراء بعد استشارة رئيس الحكومة، فيما جاءت الفقرة الثانية حاملة لتوضيح أكسب القرار هالة أكبر من الغموض، حيث قالت إن "هذا القرار الملكي يأتي في إطار تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، الذي يحرص جلالة الملك أن يُطبق على جميع المسؤولين مهما بلغت درجاتهم، وكيفما كانت انتماءاتهم". هذه العبارات "التوضيحية" جعلت بعض المراقبين يفهمون إشارة القصاصة الرسمية إلى أن الإعفاء الملكي الجديد هو استكمل ل"الزلزال"، الذي ضرب أواخر العام الماضي حكومة سعد الدين العثماني، وأدى إلى إقالة أربعة من وزرائها بسبب الاختلالات التي كشفها تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول برنامج "الحسيمة منارة المتوسط". ليلة طويلة من الاتصالات والبحث عن التفسيرات، حتى من جانب بعض المسؤولين السامين، تأرجحت نتائجها بين تقارير مجلس إدريس جطو الأخيرة، التي حملت بشدة على السياسات المالية لبوسعيد، وبين تقرير والي بنك المغرب الأخير حول الوضعية المالية، والذي قدمه عبد اللطيف الجواهري للملك يوم الأحد الماضي بالحسيمة، وبين الاختلالات التدبيرية الكثيرة التي همّت مشاريع وأوراش كثيرة، وأدى بعضها إلى احتجاجات شعبية. بعد نحو أربع ساعات من إعلانها قرار الإعفاء، عمّمت وكالة المغرب العربي للأنباء قصاصة تقول إن التقرير الأخير لوالي بنك المغرب كشف تدهور المالية العامة خلال سنة 2017. القصاصة التي لا تخلو من تلميح إلى السبب المباشر المحتمل لإعفاء بوسعيد، تقول إن الدين العمومي المباشر توجهه نحو الارتفاع، حيث تزايد بواقع 0,2 نقطة إلى 65,1 في المائة من الناتج الداخلي الخام، "مع العلم بأنه يتعين تخفيض هذا المؤشر إلى حوالي 60 في المائة من الناتج الداخلي الخام في أفق 2021، انسجاما مع التزامات الحكومة برسم خط الوقاية والسيولة". إشارة مباشرة إلى "خطأ جسيم" قد يستدعي الطرد من "الوظيفة" الحكومية، أعقبه توضيح القصاصة أن التقرير أشار، أيضا، إلى أن الدين الداخلي تفاقم بنسبة 4,8 في المائة والخارجي بنسبة 7,2 في المائة، "ليمثلا بذلك 50,7 في المائة و14,4 في المائة على التوالي من الناتج الداخلي الخام. وفي المجموع، ارتفع جاري الدين العمومي بنسبة 5,4 في المائة إلى 871,5 مليار درهم، وتزايدت نسبته إلى الناتج الداخلي الخام بواقع 0,4 نقطة إلى 82 في المائة". الباحث في العلوم السياسية، عبدالمنعم لزعر، قال ل"أخبار اليوم" إن إعفاء وزير المالية، وفق الصيغة التواصلية المعتمدة في البلاغ، "يجيب عن تساؤلات تدمج رهانات الفضاء الرسمي برهانات الفضاء غير الرسمي، ورهانات الفضاء الواقعي برهانات الفضاء الافتراضي، وهو ما يترجمه ويعبر عنه التفاعل الإيجابي مع حدث الإعفاء من طرف الجميع". وأضاف لزعر أن الاعفاء يرمي إلى إعادة التأكيد على رسالة، كثيرا ما ترددت في الخطب الملكية "مفادها أن الملك كمؤسسة دستورية يتموقع فوق الأحزاب السياسية، إذ إن استخدام عبارة "كيف ما كان انتماؤهم" تخدم غايات ومرامي هذا التموقع". من جانبه، الباحث الاقتصادي في المعهد المغربي لتحليل السياسات، رشيد أوراز، قال إن وزارة المالية تعتبر أهم وزارة في أية حكومة، "ومن يتحكم فيها يتحكم في كل الحكومة، وبالتأكيد يؤثر في السياسات العمومية، وفي الحصيلة الحكومية". وأضاف أوراز أن اختيار وزير المالية يكون مبنيا على معايير الكفاءة والمهنية "وحتى الاستقلالية في الحكومات الائتلافية. نظرا إلى الآليات التي يتوفر عليها، والتي تسهل أو تعرقل عمل الحكومة ككل". وفي حالة حكومة سعد الدين العثماني، يقول أوراز إن الوزير عزيز أخنوش، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار والمقرب من الملك، "بسط سيطرته على الحكومة من خلال تحصيله على منصب وزير الاقتصاد والمالية. مما أعطى له ولحزبه نفوذا قويا في هذه الحكومة. وفي حالتنا نحن، المتعلقة بحكومة سعد الدين العثماني، يظهر منذ البداية أن الوزير أخنوش بسط سيطرته على الحكومة من خلال تحصيله على منصب وزير الاقتصاد والمالية. والملاحظ هو أن قانون المالية الأول الذي أعده الوزير المُعفى عرف اختلالات أخلاقية كبيرة، منها بعض الإعفاءات التي استفاد منها وزراء وأصدقاؤه في الحزب. وهو ما أظهر أن هذا القانون الذي يعتبر أهم قانون سنوي في البلد استغل لمصالح حزبية وشخصية ضيقة". الباحث عبدالمنعم لزعر شدد على أن قرار الإعفاء يستقي أهميته من كونه "يخدم "طاقيا" الصيغ المعيارية للقانون الضمني للحقل السياسي، لكونه كان إعفاء غير متوقع، ومستبعدا بحسب رؤى المتتبعين، وإن كان مطلبا مركزيا من طرف البعض. وإذا صحت هذه القراءة فإن هذا الإعفاء هو حلقة في إطار مسلسل متواصل، يصعب التكهن بسرعته ومساراته، مسلسل قد لا تكون تعبيراته مستوحاة من نفس المعين الخطابي والإجرائي والمعياري". وفيما اعتبر المحلل المخضرم مصطفى السحيمي أن إعفاء بوسعيد مجرد امتداد لقرارات الإعفاء التي اتخذها الملك قبل أشهر في حق الوزراء، وتأكيدا على أن قاعدة ربط المسؤولية بالمحاسبة تشمل الجميع، وأن الملك يتابع الملفات ويقوم بتقييمه الخاص؛ أوضح رشيد أوراز أن اشتغال وزارة المالية اتسم بتعثرات كبيرة، "فلا شك أن لها مسؤوليات كبيرة في تأخر تنفيذ بعض المشاريع التنموية الجهوية، التي كان بإمكانها ترسيخ تنموية جهوية (منارة المتوسط مثلا)، وأدى تعثرها إلى بروز احتجاجات مناطقية عنيفة. كما أهملت وزارة الاقتصاد والمالية، أيضا، الاهتمام بالمشاريع الصغيرة والمقاولات الصغرى وجذب الاستثمارات الأجنبية وتقديم الضمانات للمستثمرين المغاربة قبل غيرهم، هذه من المشاكل الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد المغربي ولم تقدم وزارة الاقتصاد والمالية أية مقترحات جدية لحلها". ورغم حرص جل المصادر المقربة من دوائر القرار على استبعاد ربط إعفاء بوسعيد بكبوته الشهيرة، حين وصف المشاركين في حملة المقاطعة ب"المداويخ"، إلا أن أوراز يؤكد أن هذه الواقعة جعلت بوسعيد "يحرق" صورته لدى الرأي العام، "ولا يمكن للدولة أن تتشبث بشخص لا شعبية له في منصب حساس، بل المطلوب منها أن تغيره بشخص أكثر لباقة وكفاءة. فوزير بشعبية منخفضة سيصعب عليه الدفاع عن مشروع قانون المالية الجديد لسنة 2019، ولن يستطيع إقناع الرأي العام بالإصلاحات الصعبة والقاسية التي تنتظر المغرب. فنحن مقبلون على استكمال إصلاح المقاصة والتعاقد وإصلاحات هيكلية أخرى تتطلب "بروفيلات" أكثر مصداقية ويحترمها الرأي العام الوطني". القشة التي قد تكون وراء قصم ظهر بوسعيد، هي العرض الأولي الذي قدمه مؤخرا أمام كل من مجلس الحكومة ولجنتي المالية بالبرلمان، حول مشروع القانون المالي للعام المقبل. تصور بوسعيد لميزانية 2019 غلب عليه التشاؤم وترديد عبارات الإكراهات والتحديات، وهو ما حمل إشارات سلبية للاقتصاد المغربي. وفي الوقت الذي أوصت تقارير المؤسسات الاستراتيجية الأخيرة، مثل بنك المغرب والمجلس الأعلى للحسابات، باستكمال إصلاح نظام المقاصة الذي بدأ في عهد الحكومة السابقة، لم يبد عرض بوسعيد حول الميزانية المقبلة أي استعداد لحذف الدعم الذي يقدمه صندوق المقاصة لغاز البوتان، رغم كل الاختلالات التي يعرفها هذا الدعم. العرض الذي قدمه وزير المالية المنتمي إلى حزب مالك أكبر شركة لتوزيع الغاز، عزيز أخنوش، تضمن برمجة 20 مليار درهم من الميزانية العامة، كنفقات لصندوق المقاصة، في السنوات الثلاث المقبلة. بوسعيد بدا سخيا مع صندوق المقاصة، حيث توقع له مخصصات مرتفعة مقارنة بالكلفة الحالية لصندوق المقاصة، والتي تبقى في حدود 15 مليار درهم. الوزير توقع ارتفاعا طفيفا في سعر البوتان، حيث قال إنه سينتقل من 544 دولارا للطن في 2019، إلى حوالي 560 دولارا للطن في 2021. 20 مليار درهم اختفت بسبب تعويم الدرهم قبل عام واحد من الآن، وخلال مجلس حكومي انعقد أواخر يوليوز 2017، كشف وزير الاقتصاد والمالية، محمد بوسعيد، عن الكلفة الباهظة التي تسبّب فيها إعلان قرار تغيير سعر صرف الدرهم. بوسعيد، الذي قدّم عرضا حول الوضعية المالية والاقتصادية في أفق تحضير مشروع القانون المالي للعام 2018، قال إن المغرب خسر ما بين 15 و24 مليار درهم من احتياطي العملة الصعبة في شهري ماي ويونيو الماضيين، وذلك بفعل تحرّك الفاعلين الاقتصاديين الذين يعتمدون على الاستيراد في أنشطتهم الاقتصادية، إلى طلب الحصول على احتياطيات كبيرة من العملة الصعبة. هذا المبلغ المفقود من العملة الصعبة يناهز شهرا كاملا من تغطية الاحتياطيات من العملة الصعبة للواردات. الميزانية العامة تخسر 40 مليار سنتيم بسبب بوسعيد في الأسابيع الأولى من سنة 2018، أي بمجرد الشروع في تطبيق قانون المالية الحالي، وبمجرد إعلان مجموع "سهام"، التي يملكها وزير الصناعة التجمعي مولاي حفيظ العلمي عن صفقة ضخمة لتفويت فرعها الخاص بالتأمين لعملاق جنوب إفريقي، تبيّن أن خزينة الدولة ستُحرم من نحو 40 مليار سنتيم، بعد الإعفاء الذي أقره بوسعيد في ميزانيته لفائدة صفقات تفويت حصص الشركات. مشروع القانون المالي للعام 2018، تضمّن فقرة عنونها وزير المالية التجمعي محمد بوسعيد، ب"إعفاء تفويتات الأسهم أو حصص المشاركة في الشركات". إعفاء برّرته مذكرة تقديم مشروع القانون المالي، بالسعي إلى "تشجيع إعادة هيكلة الشركات وتعزيز رأسمالها"، مقترحة "إعفاء التفويتات بعوض أو بدون عوض، والمتعلقة بحصص المشاركة أو أسهم في الشركات أو في المجموعات ذات النفع الاقتصادي". هذا المقترح الذي تمت المصادقة عليه من طرف البرلمان، أعفى صفقات تفويت الأسهم أو حصص المشاركة في الشركات، من رسم قيمته 4 % من قيمة الصفقات، كان يُؤدى باعتباره يتعلق بواجبات التسجيل. نسبة تعني أن عملية تفويت "سهام للتأمينات" من طرف مولاي حفيظ العلمي إلى العملاق الجنوب إفريقي، كانت ستضخ حوالي 400 مليون درهم (40 مليار سنتيم)، في خزينة الدولة، لولا هذا الإعفاء.