استقبلت بصدر رحب ملاحظاتك حول السجال الذي دار بيني وبين الدكتور بيد الله الشيخ، خصوصا وأنها جاءت محكومة بخلفية نبيلة تقرأ الخطاب بحسن نية وتتعامل معه بلغة سياسية راقية، ونحن في أمس الحاجة إليها لاسترجاع جزء من الثقة في الفاعلين الحزبيين والسياسيين. أعترف بأني لجأت إلى لغة حادة للرد على مقال أساء إليّ كثيرا كتبه زميل لي داخل البرلمان تربط بيني وبينه علاقات الاحترام والتقدير المتبادل! لم يكن مقالا لمناقشة الأفكار، بقدر ما كان مقالا للاستهداف الشخصي والتحطيم المعنوي والتشكيك في الولاء للثوابت الوطنية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل انتقل إلى التشكيك في الهيئة السياسية التي أنتمي إليها واتهامها بممارسة التقية، ولذلك كان الرد من جنس المقال الأول وإن كان ليس من عادتي أن أرد بلغة حادة، ولا أخفي أسفي على ذلك.. أتفق مع الأستاذ وهبي في كون خلافنا يتم وينبغي أن يتم داخل الثوابت، فكما أن هناك تصورات تسيء إلى الثابت الديني (الإسلام) وتربطه ببعض القراءات المتشددة والمغالية، فإن هناك قراءات مستنيرة تجعل من الدين الإسلامي مستجيبا لقضايا العصر، وكما أن هناك تصورات حول الملكية تدفعها إلى المحافظة والتقليد والمغالاة في الطابع التنفيذي للملكية، فإن هناك تصورات ديمقراطية للملكية تعمل على التفعيل الديمقراطي للدستور، وتنظر إلى الملكية كمؤسسة تمتلك كامل المؤهلات والمقومات لإنجاز تحول ديمقراطي حقيقي.. خصوصا وأن الملكية – كما قال الصديق وهبي- نفسها أبانت على قدرة كبيرة في استيعاب أفكار مختلفة حولها وحول تطورها، وكان قبولها بدستور 2011 العنوان العريض لذلك. إن بعض الأفكار التي عبرت عنها، والتي في جوهرها تستند إلى التراكم الفكري، الذي طوره الفكر السياسي المغربي في موضوع إصلاح النظام السياسي، تم بسطها بشكل مفصل في العديد من الأدبيات الحزبية ومنها أطروحة النضال الديمقراطي لحزب العدالة والتنمية وورقة الإصلاحات الدستورية، التي تقدم بها الحزب سنة 2011 أمام اللجنة الملكية لتعديل الدستور.. كما أن الظروف السياسية التي تمر منها البلاد منذ الارتباك الكبير الذي حصل بعد انتخابات السابع من أكتوبر، والتي لم يتم التعامل مع نتائجها بطريقة معقولة، هي ظروف في عمومها مطبوعة بالقلق العام من أجواء التوتر الموجودة، ونقاشنا يندرج أساسا في سياق البحث عن الحلول المطلوبة من الجميع خلال هذه المرحلة، ولذلك لا مجال لبعض الذين اعتادوا أن يسبحوا في الماء العكر ويعتقدون بأن الفرصة مواتية لهم لممارسة هوايتهم المفضلة، والمتمثلة في محاولة استعداء المؤسسة الملكية ضد العدالة والتنمية، والتموقع كأصوات «أليفة» في خدمة النظام السياسي..!. النقاش أكبر من ذلك. ولا حاجة إلى تذكيرهم بأن مدرسة العدالة والتنمية كانت ولازالت تؤمن بالإصلاح في نطاق الثوابت الوطنية، وعلى رأسها النظام الملكي وتسعى إلى تطوير النظام السياسي عن طريق الحوار والتوافق وليس عن طريق الغلبة والقوة. وهي مناسبة لأقول بأني متفق تماما مع الفهم، الذي عبر عنه الأستاذ وهبي، بقوله بأن استعمال كلمة "التفاوض" لم يكن مقصودا به الشكل المعروف بجلوس الند للند، ولكن المقصود به ذلك الحوار المبني على الاحترام الواجب للملكية وتوقير مكانتها، والذي كان دائما وبالأحرى في اللحظات الصعبة. إن تطوير أداء جميع المؤسسات لا يمكن أن يتم إلا عبر الحوار والتوافق، وهو ما كانت تقوم به أحزاب الحركة الوطنية تاريخيا انطلاقا من دورها التمثيلي لقطاعات عريضة من لفئات الشعبية، سواء في عهد المرحوم محمد الخامس أو المرحوم الحسن الثاني، الذي طالما اجتمع بأحزاب الحركة الوطنية واستمع لاقتراحاتهم بشكل مباشر أو عبر مذكرات مطلبية مكتوبة. واليوم، يمكن أن نؤكد بأن الإصلاح هو عملية مستمرة، ولا يمكن أن يتوقف، لكن زمام المبادرة يبقى في يد المؤسسة الملكية التي لم يسبق في التاريخ المغربي المعاصر أن عرفت مستوى من الإجماع والتسليم بالمشروعية من طرف باقي الفاعلين مثلما تعرفه اليوم، ويمكن اعتبار عهد الملك محمد السادس هو انطلاق مرحلة جديدة في العلاقة بين القصر والأحزاب السياسية الجادة، حيث انتهى منطق الصراع بعدما اختارت الملكية أن تتموقع كقائدة لمشاريع الإصلاح، وهي قادرة على التطوير والتطور بكل شجاعة، ولذلك فنحن نتوجه إليها بمطالبنا دون خوف من عودة سنوات الرصاص التي يخيفنا بها البعض، لأننا نؤمن جازمين بأن الاختيار الديمقراطي اختيار لا رجعة فيه. وأخيرا، أشكر الصديق عبداللطيف وهبي على حسن نيته، وأتفق معه على أن تطوير ديمقراطيتنا الفتية لا يمكن أن يتم بلغة الاتهامات والاتهامات المتبادلة والتشكيك في النوايا .. وأعتقد بأن الزمن لا يسعفنا كثيرا للتأخر في بناء الثقة ونسج خريطة طريق واضحة وسريعة للتحول الديمقراطي المنشود..