في ظل الركود والموت الإكلينيكي للفعل والمبادرة السياسيين في البلاد، ألقى نزار بركة، الأمين العام لحزب الاستقلال، بصخرة كبيرة في مياه هذه البِركة الآسنة، وذلك عندما عبر في لقاءات حزبية في كل من الناظور والحسيمة، قبل أسبوع، عن استعداد حزب الاستقلال للاعتذار عن أحداث الريف 1958-1959، إذا ما تبث ما يستوجب ذلك الاعتذار. هذا التصريح غير المسبوق في تاريخ الحزب خلف ردود فعل مختلفة ومتباينة؛ بين مرحب بالمبادرة ومستحسن لها، كما فعل نجل الراحل محمد سلام أمزيان؛ محمد أمزيان في تدوينة له على "الفيسبوك" اعتبر فيها المبادرة "خطوة شجاعة ننتظر أن تليها خطوة التنفيذ. وسأكون (باسمي الشخصي طبعا ودون زعم النيابة عن أحد)، أول المهنئين له والمرحبين…(ف)تجاوز الآلام الذاتية لبنة أساسية للتأسيس لثقافة المصالحة والمصارحة"، وبين مشكك في المبادرة ورافض (ضمنيا) لأية مصالحة رمزية بين فاعل سياسي والريف، بما يكشف أن البعض يهمه فقط، استمرار هذا الطابو واستمرار الاستثمار فيه لحسابات ذاتية قاصرة على إدراك أهمية المصالحات الكبرى في تاريخ الشعوب والدول. هل اعتذار حزب الاستقلال كاف؟ وهل الاعتذار يجب أن يكون مقرونا بكشف الحقيقة كلها حتى يتحمل كل طرف نصيبه من المسؤولية، لأن المصالحة يجب أن تقوم، أيضا، على الإنصاف؟ أحداث الريف 1958-1959 لا يمكن فصلها مطلقا عن سياق الصراع السياسي، الذي أطر المرحلة من تشكيل حكومة البكاي الأولى سنة 1955 إلى إعلان حالة الاستثناء سنة 1965، وهي مرحلة لا يقتصر تأثيرها على تلك الأحداث الأليمة، ولكن تأثيرها لازال ممتدا إلى اليوم، خاصة في الإشكال المستعصي بخصوص بناء الدولة الديمقراطية، تلك المرحلة شهدت صراعات كبيرة بين الحركة الوطنية، ممثلة في حزب الاستقلال وحركة المقاومة والحركة العمالية، وبين جزء آخر من الحركة الوطنية ممثلا في حزب الشورى والاستقلال وباقي التعبيرات السياسية المناطقية، التي كانت تنتصر لتشكل بنية سلطوية قوية في المركز دون أن تكون من أولوياتها قيام حياة سياسية ودستورية طبيعية، هذه الصراعات لم تكتف فقط، بالمواجهة السياسية والإعلامية، ولكنها تجاوزت ذلك إلى مواجهات مسلحة خلفت ضحايا في كلا الجانبين، فالصراع كان حول تمثل دولة ما بعد الاستقلال، وهو صراع لازالت شظاياها (…) تمثل ركيزة لكل الصراعات المعلنة والمكتومة التي تعرفها بلادنا إلى اليوم. اعتذار حزب الاستقلال هو مبادرة سياسية تتجه لبناء المستقبل وليست لحظة لإنكاء الجراح، فالحقائق في مثل وقائع الريف تبقى في ذمة التاريخ مستعصية خارج البحث الأكاديمي الرصين، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون حصيلة عمل سياسيين تفصلهم عن الأحداث سنوات طويلة، وليست أمامهم غير روايات شفوية فعل فيها الزمان فعلته وتمت أسطرتها وتغذيتها بروح سلبية إضافية نتيجة تدبير مجحف للمنطقة على مدى عقود. مبادرة حزب الاستقلال يجب أن تُفهم في سياقها السياسي، وفي سياق اللحظة التي تعرفها بلادنا، فهي ليست اعترافا بفعل جرمي، بل هي تحمل شجاع لجزء من المسؤولية السياسية كحزب سياسي كان يعيش في تلك الفترة بالذات صراع أجنحة، سيؤدي إلى انقسامه في السنة ذاتها (يناير 1959) بعد فشل تنظيم مؤتمر استثنائي في 11 يناير. والذين قادوا أحداث الريف في تلك الفترة رفعوا مطالب عدة في نونبر 1958، وهي المطالب نفسها، تقريبا، التي رفعها قبل ذلك حزب الاستقلال في 20 أبريل 1958، لقد طالب قادة الريف بتأسيس حكومة وحدة وطنية تمثل كل الجهات المغربية؛ وإقامة نظام ديمقراطي يحقق رغبات الشعب في ميادين الاقتصاد والسياسة والتعليم، وكان حزب الاستقلال قد طالب قبل ذلك بتمتين الاستقلال وإجلاء القوات الفرنسية وإقامة مؤسسات ديمقراطية، وتشكيل حكومة منسجمة، وتقديم الضمانات الدائمة للحريات العمومية، وتحديد برنامج للانتخابات البلدية وإقامة ملكية دستورية، وذلك بعد انسحاب الحزب من حكومة البكاي الثانية، وقد قدم المرحوم محمد الخامس في "العهد الملكي" التزاما بتحقيق تلك المطالب، وذلك في 8 ماي 1958. المبادرة اليوم، يجب أن تكون للدولة لإتمام مسار المصالحة المتعثر؛ فحزب الاستقلال لم يكن يملك الطائرات ولا المسؤولية على أفراد الجيش والقوات المساعدة، حيث واجهت هذه القوات وبعض منها قبل أحداث الريف تمرد عدي أو بيهي بقصر السوق (الرشيدية حاليا)، وتمرد بلميلودي بأولماس، وكان ذلك من طبيعة ردود الفعل بالنسبة إلى الدول حديثة العهد بالاستقلال في مواجهة النزاعات الجهوية والمناطقية. المطروح الآن، جبر الضرر الجماعي الحقيقي وإعادة الثقة في وطن يضم الجميع ومنصف مع الجميع.