أعادت تصريحات نزار بركة، الأمين العام لحزب الاستقلال، حول استعداد حزبه للاعتذار عن أحداث الريف سنتي 1958 و1959، جدلا سياسيا وتاريخيا ظل مسكوتا عنه أزيد من 60 سنة. بركة قال إن حزبه مستعد للاعتذار إذا ثبت تورطه في تلك الأحداث بأي شكل من الأشكال، بل أقدمت قيادة الحزب على تشكيل لجنة من بين قيادييه للعمل على فحص مدى مسؤولية الحزب عن تلك الأحداث، التي اندلعت لأسباب سياسية وأخرى اجتماعية واقتصادية، واستعمل الجيش الملكي لقمعها، ما أدى إلى سقوط نحو 8 آلاف قتيل، وفق بعض التقديرات، إضافة إلى جرائم الاغتصاب الجماعي والتشريد والتنكيل بمن بقي من الأحياء، والتي يرويها الآباء عن الأجداد، وتأبى أن تنطفئ، بل تزيد أخطاء الدولة المتوالية في حق هذه المنطقة في إذكاء جذوتها. خطوة حزب الاستقلال جاءت في سياق قضائي تميز بالأحكام القاسية ضد معتقلي حراك الريف، وسياق سياسي تميز بتراجع نفوذ حزب الأصالة والمعاصرة، الذي أرادت جهات في الدولة أن يكون قناة للمصالحة في المنطقة، فضلا عن سياق عام اجتماعي واقتصادي يتسم بالأزمة والاحتقان الذي تبدو مؤشراته في أكثر من جهة شرقا وجنوبا وشمالا. فهل تكون خطوة حزب الاستقلال مبادرة جديدة للمصالحة أم مجرد تكتيك سياسي؟ نزار بركة أشار إلى ما يشبه المبادرة، حين أكد أن مشروع جبر الضرر الجماعي في منطقة الريف قد تعثر، ولا بد من استكمال هذا المشروع في أبعاده التنموية والثقافية، والرمزية كذلك، في تأكيد منه للحاجة إلى الاعتذار إلى المنطقة وكشف الحقيقة كاملة. لكن، عماذا يريد حزب الاستقلال أن يعتذر، وهو الذي ظل ينفي أي مسؤولية له عن تلك الأحداث، بل إن نور الدين مضيان، رئيس الفريق البرلماني للحزب وأحد أبناء منطقة الريف، يرى أن أحداث الريف صُنعت من أجل الانتقام من حزب الاستقلال، والدليل هو تعرضه للانشقاق بعد تلك الأحداث مباشرة، مشيرا إلى أن الحزب سبق أن طالب هيئة الإنصاف والمصالحة، سنة 2005، بكشف الحقيقة كاملة حول أحداث انتفاضة الريف، وهو ما لم تستطع الهيئة فعله، لأسباب غامضة لم تكشفها. سعيد الصديقي، أستاذ العلاقات الدولية، اعتبر أن موقف حزب الاستقلال «يمثل جرأة سياسية غير مسبوقة»، لكنه أكد أن «حزب الاستقلال حُمِّل أكثر من مسؤوليته عن تلك الأحداث، وأن الحزب في صيغته الحالية ظُلم كثيرا من نسب بعض الوقائع المؤلمة إليه، مع أنه كان في تلك الأحداث عبارة عن تكتل سياسي فسيفسائي، ومن كان لهم التأثير الأكبر في تلك الوقائع ينتمون إلى جناح آخر غادر الحزب بعد ذلك، وظل اسم «حزب الاستقلال يتحمل جريرتهم وحده». وأكد الصديقي، وهو ابن منطقة الريف، أن تلك «صفحة مظلمة لا تحتاج فقط إلى الاعتراف، بل على الدولة والفاعلين الأساسيين في تلك المرحلة، وعلى رأسهم حزب الاستقلال، كشف الحقيقة كاملة». بيد أن علي الإدريسي، المؤرخ المقيم في كندا، يقول إنه إذا «كان حزب الاستقلال جادا في تسليط الضوء على دوره في انتفاضة الريف، فما عليه سوى أن يعود إلى مواقف الحزب المنشورة في جريدتي حزب الاستقلال نفسه (العلم وL'opinion)»، وأضاف: «لقد انبرى حزب الاستقلال سنة 1958 لاتهام الممتعضين من ظلم حكام ورثوا التسلط ولم يرثوا حكمة السلطة، بأنهم ضد الوحدة الوطنية، كما اتهم المطالبين الريفيين بأدنى حقوقهم في وطنهم بأنهم معادون للحركة الوطنية، وأنهم يتآمرون على النظام الملكي، ويسعون إلى الانفصال عن المملكة. وذلك كله، في نظرنا، لكي يحظى برضا السلطة». وإذا كان الأمل معقودا لدى تيار واسع على مصالحة حقيقية هذه المرة، فإن علي الإدريسي، الذي واكب عمل هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2005، وكان ممن استمعت إليهم بشأن ما ينبغي فعله لطي صفحة الماضي، يبدو متشائما، ويقرأ في مبادرة حزب الاستقلال مجرد صدى لجهات في السلطة ربما تعوّل عليه لأنه كان الحزب الذي لم يشارك في اتهام حراك الريف العام الماضي بالتآمر على الدولة، أما المصالحة «فهي شعار استُخدم في مغرب الاستقلال مناورة قصد تمييع الأحداث وإدخالها إلى نفق النسيان. غير أن المناورة بالشعارات والوعود فقدت كثيرا من بريقها لدى مغاربة لهم قدرة فائقة على مقاومة ثقافة النسيان»، على حد قوله. فتح نزار بركة، الأمين العام لحزب الاستقلال، يوم الجمعة 6 يوليوز 2018، لأول مرة، باب نقاش سياسي تاريخي حول مسؤولية حزبه عن أحداث 1958 و1959 في الريف، معبرا عن رغبة حزبه في المصالحة مع الريف واستعداده للاعتذار. لم يسبق لأي أمين عام لحزب الاستقلال أن طرح موضوع الاعتذار عن أحداث الريف في تلك المرحلة، ولا حتى المصالحة الحزبية مع منطقة الريف. الملف مرت عليه ستون سنة، ولم تسلط عليه هيئة الإنصاف والمصالحة الضوء لأسباب غامضة، رغم أن نور الدين مضيان، رئيس الفريق الاستقلالي في مجلس النواب، قال، ل«أخبار اليوم»، إن حزبه طلب من الهيئة، منذ تأسيسها، أن تدرج تلك الأحداث ضمن مهامها وأن تهتم بها، لكن ذلك لم يتحقق. سياق هذه المبادرة اتسم بمعطيين؛ الأول هو صدور أحكام قاسية في حق نشطاء حراك الريف، والثاني هو فشل تجربة حزب الأصالة والمعاصرة باعتباره «أداة» سوقت المصالحة في الريف. الأحكام الأخيرة أثارت ردود فعل سياسية وشعبية، وخلفت استياء عاما، وهي فرصة اختارها حزب الاستقلال الذي اصطف في المعارضة للتموقع سياسيا في المنطقة، لذلك، كما قال نور الدين مضيان، فإن الحزب الأول الذي بادر إلى زيارة الحسيمة والناظور، مباشرة بعد صدور الأحكام، هو الاستقلال. وفعلا، فقد زار مضيان أسر المعتقلين، خاصة بيت ناصر الزفزافي، وعبر عن تضامنه مع الأسر، ووصف الأحكام بالقاسية. كما أن الحزب أصدر بيانا محليا استنكر فيه «التعامل الأحادي الممنهج من الجهات المسؤولة في مقاربة ملف حراك الريف»، معتبرا أن هذا التعامل «هو الذي أسهم في تأجيج الأوضاع بربوع الإقليم والمنطقة، وأحيى ذاكرتها الجماعية الجريحة». واعتبر الحزب أن الأحكام التي صدرت في حق قيادة حراك الريف «قاسية وثقيلة، ولها تداعيات سلبية على التراكم الإيجابي الذي رصدته بلادنا في مسار البناء الديمقراطي». وهي مواقف مهدت الطريق للمهرجان الخطابي الذي نظمه الحزب لأمينه العام، نزار بركة، في مدينة الحسيمة في 6 يوليوز الجاري، والذي أعلن فيه مبادرة المصالحة والاعتذار. وبخصوص تجربة البام، الذي هيمن على معظم الجماعات الترابية في الريف مستعينا بشخصيات ريفية سُخرت لها وسائل الدعم، فإنها وصلت إلى الباب المسدود. وبدل أن تحل مشكل الدولة مع الريف، وتصفي رواسبه التاريخية والنفسية، فإنها أنتجت مشاكل جديدة في الريف بين نخبة استفادت من «الوافد الجديد»، وفئات في المجتمع رأت أن إلياس العماري، الأمين العام السابق، باع وهم المصالحة مع الريف للدولة، وأنه أحد «أذرع المخزن» ليس إلا. لذلك، تبين منذ وفاة محسن فكري، بائع السمك، في أكتوبر 2016، أن البام سعى، تارة، إلى تأجيج الاحتجاج، وتارة أخرى إلى الابتعاد عنه. وعندما تعقدت الأمور، لم يجد أحدا من سكان الريف مستعدا للاستماع إليه. بالنسبة إلى حزب الاستقلال، الذي عانى مثل أحزاب أخرى مضايقات وممارسات البام في الريف منذ انتخابات 2009 الجماعية، فإن هذه فرصة سانحة للعودة بقوة إلى الساحة السياسية من خلال طرح قضايا سياسية كبيرة، والمتوقع من جديد خاصة تجاه الريف. اعتذار رمزي أم قصاص؟ الأحداث التي وقعت في نهاية الخمسينات تميزت بسياق خاص حصل خلاله المغرب للتو على استقلاله سنة 1956، حيث اندلعت احتجاجات لسكان الريف للمطالبة بحقوق اقتصادية وتنموية، تحولت إلى تدخل مسلح ضد الريف، وبما أن حزب الاستقلال حينها كان جزءا من الحكم، فإن أصابع الاتهام كانت توجه إليه. الأمين العام عاد إلى تلك الأحداث الأليمة والجراح القديمة، بالتزامن مع أحداث حراك الريف والأحكام الثقيلة، وقال، في تجمع بحضور قيادات استقلالية، أبرزها شيبة ماء العينين، رئيس المجلس الوطني، ونور الدين مضيان، رئيس الفريق البرلماني بمجلس النواب، وعبد الجبار الراشدي، عضو اللجنة التنفيذية، ومسؤولو الحزب المحليون والمنتخبون، إن حزب الاستقلال مستعد ل«فتح ورش المصالحة الحزبية مع المنطقة من أجل كشف حقيقة مسؤولية حزب الاستقلال بشأن ما جرى فعلا خلال أحداث 1958 و1959 الأليمة، والقيام بالمكاشفة الضرورية مع الذات والنقد الذاتي». وفي الوقت الذي أكد فيه أن ذلك سيكون مناسبة لتصحيح «العديد من المغالطات والافتراءات التي ألصقت بحزب الاستقلال»، عبر نزار عن استعداد حزبه «للاعتذار في حدود مسؤولية الحزب ورجالاته عما وقع». هذه المبادرة كانت مطروحة منذ مدة داخل الحزب، حسب ما قاله نور الدين مضيان ل«أخبار اليوم»، وهي جاءت بإلحاح من مسؤولي الحزب المحليين في الريف. الأمين العام لحزب الاستقلال عاد للتذكير بفشل المشروع المتعلق بجبر الضرر الجماعي، رغم أنه لقي «كل الدعم» من حزب الاستقلال عندما كان في قيادة الحكومة (2007-2011)، لكن «الأمور تعثرت»، يقول نزار، «واليوم، لا بد من استكمال مسلسل جبر الضرر الجماعي في المنطقة بشقيه التنموي والرمزي والثقافي كذلك»، وذكر بأن حزب الاستقلال ظل دائما يحيي ذكرى معركة أنوال، والتذكير بالمواقف المشتركة في المنفى بين الزعيمين علال الفاسي ومحمد بن عبد الكريم الخطابي من أجل الاستقلال. واعتبر أن المصالحة الحزبية مع المنطقة «ضرورية» لطي صفحة الماضي، «بعد كتابتها وقراءتها في إطار المكاشفة والحقيقة والمسؤولية، وتحصين الحاضر والمستقبل حتى لا يتكرر ما وقع». لكن، ماذا يعني الاعتذار عن تلك الأحداث؟ إلا يفتح الباب للمطالبة بالقصاص والعقاب؟ حسب عادل بنحمزة، عضو المجلس الوطني للحزب، فإن مبادرة نزار بركة «إيجابية»، سواء من حيث مضمونها أو توقيتها، لأن طرح المصالحة مع الريف في هذه الظرفية، التي تتسم بالأحكام القاسية ضد نشطاء الحراك، «أمر مهم». لكن هناك حاجة إلى توضيح الأمور تاريخيا. الحزب -يقول بنحمزة- كان في سنة 1958 يعرف «حالة مخاض بين تيارين»؛ الأول متشدد، والثاني له روية مختلفة عن تدبير الصراع السياسي بعد الاستقلال. في تلك المرحلة عرف المغرب توترات بين عدة مناطق وبين الحكم المركزي، مثل عدي أوبيهي في تافيلالت، كما وقعت أحداث منطقة ولماس. وهذه الأحداث «شملها مسلسل الإنصاف والمصالحة وجبر الضرر» عكس الريف. أما حزب الاستقلال في 1958 فإنه «مختلف» عما هو عليه حاليا، فقد عرف انشقاقا، وبقي الحزب الحالي يحتفظ بالاسم نفسه. يقول بنحمزة: «الحقيقة مهمة، لكن يجب تنقيتها من الأساطير التي تأسست على روايات شفوية تحولت مع الزمن إلى إحساس بالظلم». ويقر بنحمزة بأن الاستقلاليين كانت لهم مسؤولية في الدولة في تلك المرحلة، وأنهم ورثوا مرحلة تاريخية كانت فيها تيارات مختلفة داخل الحزب، لذلك، فإن «الاعتذار مطروح، لكنه ذو صبغة رمزية» وليست «جنائية»، أي أن الهدف منه هو «النظر إلى المستقبل وليس القصاص»، أي الاعتذار عن سلوك أشخاص كانوا محسوبين على الحزب وقاموا ببعض الممارسات، أما قرار التدخل في الريف -حسب بنحمزة- فهو قرار الدولة التي استعملت الجيش والطيران، ولا دخل للحزب في ذلك. لكن باحثين آخرين، خاصة من الريف، يَرَوْن أن مسؤولية حزب الاستقلال ثابتة، منهم عبد السلام بوطيب، رئيس مركز الذاكرة المشتركة الذي يهتم بتاريخ الريف، فهو يرى أن حزب الاستقلال في تلك المرحلة «كان هو الدولة»، وشبهه ب«الدولة العميقة اليوم»، بل كانت له «سجون خاصة به وميليشيات». ودعا بوطيب حزب الاستقلال إلى الاعتراف بما قام به والاعتذار، لكنه شدد على أن المصالحة يجب أن تكون أشمل «في إطار مغربي مغربي». لكن، ما أهمية ما يطرحه الحزب في سياق هذا التوتر الحالي والحكام الثقيلة الصادرة؟ يجيب بنحمزة بأنه يأمل أن يكون ذلك بداية لمصالحة شاملة، لكن ذلك «رهين بمراجعة الأحكام التي صدرت أخيرا، وتحقيق انفراج». وهذا ما أشار إليه نزار بركة في تجمعه بالحسيمة، حين قال إن حزبه يدعم «الانفراج والتهدئة» في إطار «دولة القانون والمؤسسات، وفي إطار المطالب المشروعة للسكان»، مؤكدا أن مكان المعتقلين «الطبيعي هو العيش بسلام مع أسرهم، والإسهام في تنمية منطقتهم وبلادهم». وفي انتظار مرحلة استئناف الأحكام في حق نشطاء الريف لنزع التوترات، اتخذ حزب الاستقلال خطوة أخرى حين كلفت اللجنة التنفيذية، خلال اجتماعها في 9 يوليوز، لجنة يرأسها شيبة ماء العينين، رئيس المجلس الوطني للحزب وعضو اللجنة التنفيذية، باستجماع المعطيات التاريخية المرتبطة بتلك الأحداث، والاستماع إلى شهادات مؤرخين وشخصيات وطنية ومواطنين من المنطقة عايشوا تلك المرحلة، وذلك «في أفق تسليط الضوء على علاقة الحزب بما جرى»، وتبديد الكثير من «الغموض والمغالطات المحيطة بهذا الموضوع، ومحاولة استجلاء الحقيقة من أجل طي هذه الصفحة التي لن تتكرر، وفي أفق مصالحة تتوجه نحو المستقبل». وأكد الحزب استعداده لفتح ورش المصالحة مع المنطقة، وتقديم الاعتذار في حال ثبوت علاقة الحزب ورجالاته بالأحداث الأليمة لسنتي 1958 و1959، وذلك في أفق الطي النهائي لهذا الملف. فهل ينجح حزب الاستقلال في فتح باب المصالحة الشاملة مع الريف؟.