تصوير: عبد المجيد رزقو يصعد جوزيف ستالين، بالمعطف الكاكي، إلى المنصة المطلة على بلاط الساحة الحمراء. يتحسس شاربيه، وهو ينتظر عبور كتائب الجيش الأحمر. لكن الذي يأتيه أفواج من جماهير كرة القدم. من كل العالم، وبألوان زاهية. تتعالى الأهازيج البهية على اختلافها. ويكثر الصخب في أمسية عجيبة. يعيد الدكتاتور الدموي يديه إلى جيبي المعطف. يلقي نظرة خاطفة على ضريح لينين. يدير ظهره، وينزل الأدراج الرخامية. يتجه إلى متحف الشمع ليواصل حياته الأخرى. لقد تغير كل شيء؛ روسيا اليوم ليست شيوعية. والساحة الحمراء، لم تعد دموية. الساحة الحمراء تلخص روسيا دون كلمات.. الوصول إلى الساحة الحمراء، بالعاصمة الروسية موسكو، بسيط جدا. فهناك ميترو ينقلك تحت الأرض. وهناك أروقة تقودك إليه؛ دائما تحت الأرض. وهناك مداخل كثيرة. ثم حين تصعد إلى فوق، تكتشف مكانا بهيا للغاية. فالشوارع عريضة جدا. والعمران مبهر، ببناياته الدقيقة والقوية والجميلة، بواجهاتها المزخرفة. بالقرميد، والقباب، والنوافذ الكبيرة. والرخام يحيطك من كل مكان. والحدائق كأنها تنبت تحت قدميك. كلما رفعت قدما نبتت حديقة. والنافورات ترحب بك. وتمثال كارل ماركس الكبير، وهو يمسك بيده قلما وبالأخرى كتابا، يذكرك بأن هذا المكان له تاريخ مع الشيوعية. يمكن للذي يأتي لزيارة الساحة الحمراء أن يختار وسيلة نقله المشتهاة. ولكن أفضلها الميترو. فهو ميسر، وبخس الثمن، ومريح جدا. وعند الوصول يستطيع الزائر أن يأتي، في كل مرة، من مدخل معين. سيساعده ذلك على اكتشاف المكان من عدة زوايا. لكل زاوية جماليتها. وكل منها تحتاج مسارا معينا. وكل مسار فيه شيء يستحق المشاهدة. وكل مشاهدة تنضاف إلى أخرى لتشكل الصورة الحقيقية للساحة الحمراء، بالكريملين، والكنائس، والمحيط العام، حيث البنايات الحكومية جنبا إلى جنب مع المولات، ومحلات الوجبات السريعة العالمية، وفندق "فور سيزنس". إنها قلب العاصمة موسكو. بل قل هي قلب روسيا. فهي تتوسط العاصمة. وهذه هي التي قال عنها المؤرخ الروسي الشهير نيكولاي كرامزين:"زيارة موسكو تعني التعرف على روسيا". فمنها تتفرع الطرق الرئيسية، التي تقود إلى الطرق السيارة، ومنها إلى المدن الأخرى. وهي حين استعادت الكنائس المهدمة في العهد الستاليني، وأحيطت بالمولات التجارية، دلت وحدها على أن كل شيء تغير في روسيا. لقد انتقل البلد من حقبة إلى أخرى، وتحول الهاجس المجتمعي من الانضباط للحزب إلى الانضباط للبلد. وأصبح الروس يحبون الحياة، بعد أن ظلوا لسنين يخافونها. اسمها الذي يعني بالروسية أنها ذات لون أحمر، يعني أيضا أنها جميلة. وبالفعل، فبعضهم يؤكد أن المعنى الثاني هو الأصح. ويقولون إن اللون لا علاقة له بتاريخ الساحة القديم. ثم إنهم يخطئون من ينسب الحمراء إلى المرحلة الشيوعية. فإنشاء الساحة يعود إلى القرن السابع عشر. ويشير هؤلاء إلى أنه ربما يكون للاسم صلة بمذبحة ارتكبها أحد القياصرة، وهو إيفيان الرابع، بعد وفاة زوجته. أنت في الساحة.. التقط لك صورا للذكرى قبل الدخول إلى الساحة الحمراء، التي تحولت أثناء كأس العالم لكرة القدم إلى مزار عالمي وملتقى للشباب من كل أنحاء العالم، يتعين عليك أن تعبر الممر الأمني، بآليات المراقبة بالأشعة. ثم أنت الآن على مرمى حجر. تتقدم قليلا فإذا بك في الساحة تماما. وترى غير بعيد ذلك السور الشهير الذي لطالما تابعته في نشرات الأخبار على عهد الشيوعية، وفي الأفلام الوثائقية. وتحول عينيك إلى اليسار فترى محلا تجاريا ممتدا. وبعده الكنيسة ذات القباب التساعية الغريبة الأشكال والألوان والنقوش والأقواس. وتتقدم شيئا ما فيأسرك الرخام القرمزي على ضريح لينين. وحين تخفض النظر يجذبك البلاط المصنوع من الحجر الصلب. وتمضي قدما فتكتشف المزيد، مئذنة حمراء متصاعدة، بساعات أربع كبيرة تتوسطها كقلوب، ونجمة هائلة تجللها من فوق. ومن عجب، فالساحة التي لطالما احتضنت الاستعراضات العسكرية الشيوعية، وأبرزها عرض ما بعد الانتصار على النازية، ها هي ذي تستعرض فيها فيفا، الشركة الرأسمالية، أشياء لها صلة بكرة القدم. وتتقدم الجحافل من الزائرين لالتقاط الصور بمحاذاة كل جدار وبناية وتمثال وزخرف. ويهتف الفرنسي إلى جانب الروسي والمكسيكي والإيطالي، وحتى الألماني والمغربي. ويرقص الناس، ويجلس بعضهم أرضا ليشعروا بأن اللحظة توقفت قليلا. ويدقق غيرهم في مقتنيات تباع داخل الساحة، عبارة عن تذكارات لهذا المكان العجيب الذي احتوى الكثيرين، وسجل تاريخا عجيبا ومتقلبا. وحين تمضي إلى الباب الثاني، لتغادر الساحة. ها أنت تجدك ماضيا إلى قبر الجندي المجهول. فهناك ممشى رائع، بين حديقتين جميلتين. وجدار مصنوع من الطوب الأحمر. تتلمسه، فيؤكد لك أنه بالفعل من الطوب، وأنه ما زال يقف صامدا. ويغريك بصورة، فتلتقطها. ويبتسم لك، وترد الابتسامة. وتستمر ماشيا إلى القبر، حيث الرخام القرمزي يحيط بشعلة لا تنطفئ، وعلى درج أعلى نحتت خوذة، ورداء، وسلاح، لفقيد قتل في إحدى الحروب دفاعا عن الوطن. وأثناء الابتعاد عن المكان لا بد أن يقول لك أحدهم:"هذه الزيارة لا تكفي. يتعين علينا زيارة الساحة مرة أخرى. فهناك أشياء كثيرة تستحق الوقوف عندها لمدة أطول". وكي لا تضيع لذة زيارتك، تتقدم دون أن تلتفت إلى ما خلفته وراءك. ومع ذلك، فأنت تكتشف أشياء أخرى جديدة، فتعرف منها أنك بالفعل تحتاج زيارات أخرى. فهذا المكان ينطوي على أسرار كبيرة. وكل سر يفضي إلى سر. إنه منطق الدمية الروسية مرة أخرى. فوق الساحة وتحتها.. ساحة تخبئ أخرى.. يكتشف زائر الساحة الحمراء بالعاصمة الروسية موسكو أنها تخبئ تحتها ساحة أخرى. هي مسرح للميترو، وأنفاقه التي يحيلك عليها. والمحلات التجارية المتشعبة. وأبرزها المحل التجاري الكبير جدا، الذي يقع مباشرة قبل الولوج إليها، وعلى مقربة من فندق ‘فور سيزنس" المملوك للملياردير السعودي الوليد بن طلال. وهذا المحل يقدم للزائرين كل أنواع الألبسة، والعطور، والمقتنيات الأخرى، والطعام على أشكاله، والمشروبات. وهناك مقاه أيضا، حيث يمكن للمرء أن يجلس للراحة، ويطلب شايا روسيا يؤتى به في براد زجاجي رائع. هكذا يجد الزائر نفسه أنه إزاء منظومة الدمية الروسية مجددا. فالساحة الحمراء التي تقدم لك نفسها طبقا شهيا من البنايات العظيمة، والحدائق الغناء، والشوارع الفسيحة، وتفاجئك كلما تقدمت بشيء آخر شهي، هي نفسها التي تحيلك على أشياء أخرى طيها. فما أن تنزل الأدراج إلى الأسفل، حتى تكتشف أن هناك أدراجا أخرى، وأخرى. وبطبيعة الحال، فكل درج كهربائي أو رخامي، ماتع، يقودك إلى عالم فسيح يتضمن مركزا تجاريا خاصا، بكل ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأذواق. وقد يغرق صاحبه في الكثير من التجوال. ولا يمكن للمرء أن يلتفت إلى جهة ما في الساحة، ونقصد هنا المحيط كله الذي يتسمى بها، دون أن يأسره مشهد ما. فحتى في البعيد هناك نافورات، وهناك مقاه لها شكلها الخاص، وهناك أبنية من طراز متنوع، وهناك رصيف من حجر له جماليته، وهناك خضرة على مد البصر، وهناك رجال أمن بقبعاتهم الفريدة يحرسون المكان. كلها تفضي بك إلى بعضها، وكل يشدك إليه. وهو ما يجعل الزائر في حيرة. ولا تنتهي تلك الحيرة بشكل من الأشكال، إلا بإقناع النفس بأن بالإمكان المجيء مرات أخرى للحصول على حصة أكبر من المشاهد المثيرة. التماثيل.. احتفاء بالجمال الرسالة التي يستمدها أي زائر للساحة الحمراء بموسكو، وهو يلاحظ ذلك الاحتفاء الكبير بالتماثيل، أن هناك توجها لتكريم من أسدوا خدمات للبلد. فحين تجد تمثال ضابط متفوق في الحرب العالمية جنبا إلى جنب مع تمثال لينين، وغير بعيد تمثال ماركس، وتماثيل أخرى لشخصيات غيرها، تعرف أن هناك اعترافا بالذين قدموا أشياء لروسيا، وهناك احتفاء بالجمال، وبالطبع هناك تكريسا لثقافة الذوق الباذخ. الساحة الحمراء من هذه الزاوية لوحة فنية كبيرة تتوسط العاصمة موسكو. موضوعها مغرق في التاريخ. غير أن الواقع يفيض من إطارها. الناتئ فيها شيوعي، يغيب عنه وجه ستالين بشكل لا غبار عليه. وأرضيتها قيصرية وشيوعية معا. وخطوطها المتشعبة كلها نسيج متكاثف من صنع الأيام، حيث مزيج الماضي والحاضر. بل حتى المستقبل يظهر في ثنايا اللوحة، أفقا لدولة غيرت ثوبها بقوة الواقع، لكنها لم تفقد هويتها. فهي ليست لقيطة، بل ذات ماض. ومن الآن فصاعدا، سيجد المنتخب الروسي لكرة القدم لسنة 2018 موقعا بارزا له في اللوحة. سيذكر كل واحد من الزوار الماضين والمستقبليين لاعبين أسعدوا وأبحوا الملايين من الروس. ستخلد سقطة نيمار البرازيلي، وبكاء غوميز، ودموع رونار، وأخطاء تقنية الفيديو، ورقصة السيدة الأولى لكرواتيا، وسيلفيات الجماهير في ليل الساحة الحمراء، وملعب الكرة العجيب في سان بتيرسبورغ، وابتسامة بوتين في وجه محمد بن سلمان، وأشياء أخرى كثيرة لا تنسى. سيصبح مونديال روسيا ضربة ريشة في نسيج اللوحة. فالحدث الكبير حول روسيا إلى الحدث الأبرز. واشتغل هو نفسه بمنطق الدمية الروسية. صار حدثا يفضي إلى حدث، فآخر، ثم آخر، إلى ما لانهاية له من الأحداث التي كلما تضاءلت في حجمها، كبرت في معناها، ودلت على مدى جدية وحرفية الصناع الذين تفننوا وأتقنوا، حتى في الأشياء الصغيرة. وهل تصنع التاريخ والدول إلا الأشياء الصغيرة؟