دخلت حملة المقاطعة الشعبية لمنتجات ثلاث شركات، هي: "أفريقيا غاز" و"حليب سنطرال" و"سيدي علي"، شهرها الثاني، دون أن تظهر في الأفق نيّة التراجع أو الاستسلام. ورغم أن المقاولات الثلاث متعنتة وترفض لحد الآن الاستجابة للمطالب المعلنة، إلا أن الحملة استطاعت تحقيق نتائج مثيرة يبدو أنها وسعت من حالة الاحتقان السياسي والاجتماعي، من أبرزها إسقاط أحلام رئيس حزب الأحرار عزيز أخنوش، الذي اضطر إلى الاختفاء عن الأنظار، وإجبار الوزير لحسن الداودي على الاستقالة، بعدما تجرأ على التظاهر ضد الحملة ومناصرة شركة الحليب. ما يدعو إلى التساؤل حول السيناريوهات الممكنة لوقف حملة المقاطعة دون مزيد من الخسائر وللخروج من حالة الاحتقان السياسي والاجتماعي كذلك. نتائج غير متوقعة تكاد التحليلات تجمع أن حملة المقاطعة تحمل رسائل محددة: الأولى، أنها احتجاج على غلاء الأسعار والمعيشة، والثانية أنها احتجاج على زواج المال بالسلطة، والثالثة أنها رفض ولو متأخر لحالة "البلوكاج" السياسي و"الانقلاب" الناعم، الذي تم على الانتخابات التشريعية ل7 من أكتوبر 2016. أما من حيث الأسلوب، فهو يكاد يكون غير مسبوق في مسار الفعل الاحتجاجي بالمغرب، بحيث "أنها أقل كلفة من الناحية السياسية، لأن المواطن يمكنه أن يحتج دون أن يعرض نفسه للاعتقال أو لتحرشات السلطة"، يقول محمد مصباح، باحث مشارك في معهد "شاتم هاوس" البريطاني، مضيفا: "بأنها تشعر المواطن بأنه حر في الاستهلاك من عدمه، ماله في جيبه ويمكنه أن ينفقه كيف يشاء". وهو أسلوب فعال، كذلك، لأنه "يجعل السلطة عاجزة عن ضبطه، وأن قدرات الحملة تفوق قدرات الأجهزة على الضبط والقمع". علاوة على الأسلوب غير المسبوق، ليس لحملة المقاطعة قيادة موجهة، وتشير أغلب التحليلات إلى أن المنخرطين فيها هما فئتان، بحسب رجل الأعمال كريم التازي: الأولى، تمثل طبقة وسطى هشة تضررت قوتها الشرائية وتريد أن تعبر عن غضبها. أما الفئة الثانية، فتضم مناضلي التيارات السياسية والجمعوية التي تريد أن تغتنم هذه الفرصة للتعبير عن غضبها السياسي. في حين يشير فؤاد عبدالمومني إلى ثلاث فئات: فئة متضررة من غلاء الأسعار، وفئة ثانية تقاطع رفضا منها لتجبر مُركّب المال والسلطة، ثم فئة ثالثة تقاطع لأنها تضررت من سوء التنمية وغياب التوزيع العادل للثروة. وهؤلاء جميعا يشتركون في الإحساس بالغبن والحكرة. بهذه السمات، استطاعت حملة المقاطعة أن تحقق نتائج غير متوقعة، من أبرزها إنهاء أحلام عزيز أخنوش في الهيمنة على المشهد السياسي قبل وبعد الانتخابات التشريعية المقبلة سنة 2021، إذ أظهرته هذه الحملة تاجرا جشعا للمال وللأرباح غير الأخلاقية، بوصفه مالك شركة "أفريقيا غاز"، فأجبرته على الاختفاء عن المشهد تماما. قبل أن يفاجأ بالشباب الغاضب يرفع شعارات تطالبه بالرحيل عن المشهد السياسي، وذلك في حضرة الملك محمد السادس، بمناسبة تدشينات في طنجة. وضعت حملة المقاطعة أخنوش في دوامة، لم تؤثر على شركاته فحسب، بل وصلت إلى حزبه التجمع الوطني للأحرار، الذي جمدت أنشطته خلال شهر رمضان، ولم تعد اجتماعات قياداته سواء في المكتب السياسي أو في الفريق البرلماني منتظمة كالعادة، ما شجع برلمانيي الاتحاد الدستوري إلى الاحتجاج على هيمنة برلمانيي الأحرار على مهام الفريق البرلماني المشترك بينهما. ورغم الخسائر المادية والسياسية التي ألحقتها حملة المقاطعة به، إلا أن أخنوش ظهر عاجزا أمام الأسئلة الملحة التي تطرح عليه، وإحداها لماذا سمح لنفسه بربح نحو 23 مليار درهم في ثلاث سنوات، مستغلا تحرير سوق المحروقات، وهو الذي سمحت له الدولة بالتحكم في القطاع منذ سنة 2007. أما النتيجة السياسية الثانية للحملة، فكانت إجبار الوزير الحسن الداودي على الاستقالة من منصبه، في خطوة لم تكن متوقعة، تماما مثلما لم يتوقع منه أن يتظاهر تضامنا مع شركة "سنطرال" ضد حملة المقاطعة، ما أثار استغراب الرأي العام، ودفع قيادات وقواعد حزبه إلى الاحتجاج عليه، ومطالبته بالاستقالة وهو ما استجاب له بالفعل. ويبدو أن استقالة الداودي قد فتحت الباب أمام التفكير في جواب جدي حول حملة المقاطعة، ودفع البعض إلى ترويج سيناريوهات معينة للخروج من المأزق السياسي والاجتماعي. خيارات الملكية مع تفاقم الأزمة، تتجه الأنظار إلى الملك محمد السادس بصفته رئيس الدولة الذي خوله الدستور اختصاصات وصلاحيات واسعة تمكنه من التدخل لحل الأزمة. عباس بوغالم، أستاذ العلوم السياسية بوجدة، يرى أن "الوضع السياسي الحالي جد معقد، من الصعب تجاوزه بإجراءات ومبادرات جزئية، كما أن الاختيارات والبدائل ليست كثيرة، وتدور في أساسها حول كيفية تفعيل المؤسسات الدستورية المعطلة". بوغالم يرى أن جزءا من الجواب عن مطالب حملة المقاطعة يكمن في "تفعيل مؤسسات دستورية معطلة، وعلى رأسها مجلس المنافسة". وأضاف "إذا قرر الملك التدخل، فقد يتوجه نحو تفعيل المؤسسات التي تعزز من الحكامة في الدولة، وتفعل ربط المسؤولية بالمحاسبة، وعلى ضوء توجيهات وبرنامج عمل يستجيب للتحديات الاجتماعية والاقتصادية". غير أن محمد مصباح يرى أن المؤسسة الملكية قد تجد نفسه أمام ثلاثة سيناريوهات: سيناريو محتمل، و"هو الأكثر تشاؤما" مفاده أن الدولة لن تتفاعل إيجابا مع حملة المقاطعة، وستهملها اعتقادا منها أنها ستنطفئ لوحدها، مادامت أنها تستهدف ثلاث شركات فقط، يمكن تعويضها عن خسائرها بطرق أخرى، في حال ارتأت المؤسسة الملكية هذا الخيار، فإن "التعنت قد يؤدي إلى الانفجار"، يقول مصباح، مشيرا إلى "حالة الأردن، حيث أدى تصلب الحكومة برفضها سحب قانون الضريبة على الدخل، وتراكم الإحباطات، وغياب الوسائط، إلى الاحتقان، وبالتالي الانفجار الاجتماعي في الشارع". السيناريو الثاني أمام المؤسسة الملكية، في نظر مصباح، هو "التجاوب الفعلي مع مطالب حملة المقاطعة، من خلال الإقدام على زلزال سياسي والقيام بإجراءات الهدف منها إعادة بناء الثقة في المؤسسات وفي الحياة الساسية"، وهو سيناريو مرغوب فيه برأي مصباح، ولن يتحقق إلا "بفصل جدي بين المال والسلطة، وإبعاد رجال الأعمال عن الحكومة، والتفعيل الحرفي للدستور فيما يخص تضارب المصالح، وربط المسؤولية بالمحاسبة". لكن هذا السيناريو يبقى مستبعدا في نظر مصباح لأنه يعني إعادة هيكلة النظام القائم ككل. أما السيناريو الثالث، وهو المرجح، فقد تلجأ المؤسسة الملكية "إلى المزيد من الشيء نفسه"، أي اتخاذ إجراءات جزئية قد تغير الواجهة، لكن لن تطال العمق"، من قبيل تعديل حكومي جزئي أو واسع، قد يشمل إخراج حزب التجمع الوطني للأحرار إلى المعارضة وتعويضه بحزب الاستقلال، وتفعيل دور مجلس المنافسة والهيئة الوطنية لمحاربة الرشوة، وهي "صيغة وسط"، قد تفضلها المؤسسة الملكية على غيرها من الخيارات، خصوصا وأنها "ستلعب بآخر الأوراق لديها لامتصاص الغضب والاحتقان داخل المجتمع، وقد يصاحب ذلك خطاب ملكي نقدي كالعادة". إسقاط الحكومة يعد إسقاط الحكومة من خلال ملتمس الرقابة أو غيره أحد الخيارات الممكنة، ويبدو أن حزب الأصالة والمعاصرة من أنصار هذا الطرح، إذ عبّر عن ذلك صراحة أمينه العام الجديد، حكيم بنشماش، حين دعا إلى تجاوز "الشرعية الانتخابية" بحجة أنها أصبحت أحد الكوابح أمام التطور الوطني، وأشار بنشماش في نقطة نظام موجهة إلى الحكومة إلى إمكانية إجراء تعديل دستوري يلغي ربط تعيين رئيس الحكومة من الحزب الفائز في الانتخابات. واعتبر أن "المكون الأغلبي للحكومة، بعد ما استنفد كافة مبررات فشله، وسقوط المشجب الذي اعتاد على أن يعلق عليه عجزه المزمن، غير قادر على بلوغ سقف المسؤولية الدستورية وحجمها ومداها المخولة له، فمن حق الأصوات المجتمعية المعارضة، وكذا المعارضة المؤسساتية كامتداد لتلك الأصوات المعبرة عن نفسها في صيغة "سلطة خامسة"، تجريب الإمكانات الدستورية المتاحة، ومن واجبها أن تطرح على أجندة الحوار الوطني مسألة معالجة "الكوابح" الموجودة في الوثيقة الدستورية نفسها". وأكد أن حزبه لا يجد حرجا في "طرح السؤال الذي يتحاشاه كثيرون: هل يستقيم كبح ورهن إمكانات التطور الوطني باسم "شرعية انتخابية" هي في الواقع ليست شيئا آخر غير "شرعية" قاعدة انتخابية، لا تمثل إلا نسبة ضئيلة جدا لمجتمع يريد أن يتقدم إلى الأمام؟". تصريحات بنشماش تأتي بعد ترويج حزبه لإمكانية تقديم ملتمس الرقابة لإسقاط حكومة سعد الدين العثماني، تجاوبا في رأي الفريق البرلماني لهذا الحزب مع حملة المقاطعة وتفاقم الاحتقان الاجتماعي. وإذا كان الدستور يشترط توقيع خُمس الأعضاء، أي 78 عضوا، وهو عدد يتوفر عليه فريق "البام" لوحده في مجلس النواب، فإن إسقاط الحكومة لن يكون ممكنا إلا بتصويت الأغلبية المطلقة من أعضاء المجلس. بنشماش من خلال مداخلته في مجلس المستشارين يتصور أن إسقاط الحكومة ممكن، على أساس عدم الذهاب إلى انتخابات سابقة لأوانها، بل تعديل الدستور وإقرار إمكانية تعيين رئيس حكومة بدون احترام نتائج الانتخابات وعلى أساسها. وهو الموقف الذي أثار ضده ردود فعل قوية من قبل حزب العدالة والتنمية، المعني الأول بتصريحات بنشماش. رئيس فريق العدالة والتنمية بمجلس المستشارين، نبيل الشيخي، وجّه نقدا قويا إلى بنشماش بقوله: "إنكم بصدد الانتقال من منطق التحكم، الذي رافق نشأتكم الأولى، إلى منطق الدعوة الصريحة إلى الانقلاب على الديمقراطية، وهي خطيئة جديدة لن يغفرها لكم الشعب المغربي، الذي يميز جيدا بين شرفاء السلطة الخامسة، وانتهازيي الطابور الخامس". ووصف الشيخي في تدوينة له على حسابه ب"الفايسبوك" الخرجة الأخيرة لبنشماش بالهواجس المتهافتة، معتبرا أن "الزعيم الجديد لحزب خرج لتوه فاشلا من تجربة التحكم، التي لفظها المغاربة في محطات، واستحقاقات، استعمل فيها هذا الحزب كل الوسائل غير المشروعة، التي لاتزال تحتفظ بها ذاكرة الشعب المغربي، فلا يمكنك، في مثل هذه الحالة إلا أن تستغرب من الجرأة والخلفيات، التي تدفع أمثال هؤلاء إلى التطاول على أسس، ومنطلقات، ومرجعيات في متن الدستور، تشكل أساس البناء الديمقراطي". عباس بوغالم، أستاذ العلوم السياسية، اعتبر أن "ملتمس الرقابة الذي يروّج له لن يحل المشكل، بقدر ما سيعمّق المشكل السياسي"، مؤكدا أن "المشهد السياسي لن يتحمل إعادة ترتيبات عنيفة للفاعلين في الحكومة، بقدر ما أن الوضع يتطلب تعديلا جوهريا يعاد بمقتضاه النظر في أولويات وبرنامج الحكومة، بما يستجيب بسرعة لمطالب حملة المقاطعة، من خلال التركيز على البعد الاجتماعي والاقتصادي". تعديل حكومي شامل يميز يوسف بلال، أستاذ العلوم السياسة، بين الحلول الممكنة بصفة آنية وعاجلة وتلك التي تتطلب بعض الوقت للتفكير. ويرى أن من أهم الحلول العاجلة التي يمكنها أن تستجيب لمطالب حملة المقاطعة "اتخاذ إجراءات انتقالية تخفف من ارتفاع الأسعار، وتقلص من هامش الأرباح". وهي إجراءات تتطلب "إقناع المقاولات من خلال ممثلها الاتحاد العام لمقاولات المغرب بتقليص هامش الأرباح، بالشكل الذي يرضي المواطن والمقاولات في الوقت نفسه". لكن هناك حلولا أخرى جوهرية من شأنها أن تضمن عدم تكرار ما جرى، وتتمثل في رأي يوسف بلال في "تفعيل المؤسسات الدستورية، ومن أبرزها مجلس المنافسة الذي خوّل له الدستور والقانون مراقبة السوق، ومنحه آليات رقابية وزجرية لتنظيم المنافسة، وتطبيق القانون، وهو مجلس معطل لحد الآن". أما الحكومة، "فهي تعاني من ضعف الانسجام، بسبب وجود وزراء لديهم شركات ومصالح يدافعون عنها، مثل عزيز أخنوش". وأوضح بلال أن حملة المقاطعة أظهرت أن "التحالف هش داخل الحكومة، بحيث ظهر مكون يدافع عن مصالح المقاولات، ومكون آخر يفترض فيه الدفاع عن مصالح قاعدته الانتخابية، لكنه لم يفعل"، في إشارة إلى حزب العدالة والتنمية. واعتبر بلال أن "التناقض الجوهري داخل الحكومة يجعلها غير قادرة على إبداع حلول توفيقية بين مصالح المواطن ومصالح المقاولات"، خصوصا وأن "الحكومة الحالية لم تلتزم بالوعود التي ترضي الناخب، ولم تستطع تمثيل كتلتها الناخبة، بل ضحّت بها لصالح المقاولات"، ما يجعل احتمال إجراء تعديل جذري وشامل في مكوناتها أمرا متوقعا. وتتقاطع توقعات يوسف بلال مع توقعات محمد مصباح في إمكانية حدوث سيناريو يبدو أنه الأرجح، ويتكون من إجراءات متعددة منها تعديل حكومي جوهري قد يصل إلى إدخال حزب الاستقلال إلى الحكومة، مع تقليص وجود حزب الأحرار فيها، بما فيه مغادرة عزيز أخنوش للحكومة، علاوة على إجراءات أخرى مثل تفعيل دور مجلس المنافسة، والهيئة الوطنية لمحاربة الرشوة، وتفعيل دور المجلس الوطني لحقوق الإنسان. وهي مؤسسات دستورية معطلة، ويفترض فيها أن تضطلع بمهام الوساطة بين المواطن والدولة، بما يخفف من الاحتقان السياسي والاجتماعي والحقوقي.