عندما تضع رِجْلا في السياسة ورجلا في التاريخ، يصعب عليك أن تمشي، لذلك يجلس عبدالإله بنكيران في بيته هذه الأيام، ويشكل اللقاء معه لحظة استثنائية، غنية بالدلالات والمعاني وبغير قليل من المتعة، لأن الأحداث لم تنل من حس السخرية لديه، ونادرين هم رجال السياسة الذين تحلو مجالستهم، ويعرفون كيف يَضحَكون ويُضحِكون، طبعا لا نتحدث عن "الضحك على الذقون"، لأن هذه "رياضة شعبية" يمارسها كل السياسيين تقريبا! في بيته ب"ديور الجامع"، استقبلني بمرحه المعهود، ملفوفا في عباءة بيضاء أنيقة، تخفي وزنه الزائد. عندما سألته عن أحواله رد أنه بخير والحمد لله، كما ترى، ما عدا بضع كيلوغرامات ربحتها منذ أن خسرت الحكومة والحزب… أجمل شيء في بنكيران عفويته التي تجعلك تحس أنك تتحدث مع صديق قديم. الرجل ترأس الحكومة في ظرف حرج من تاريخ المغرب، وَقاد تجربة علق عليها المواطنون آمالا عريضة لاستكمال الانتقال الديمقراطي وتسريع وتيرة الإصلاحات، وقضى ولايته الحكومية يتصارع مع "التماسيح" و"العفاريت"، ومع ذلك صمد وربح الانتخابات، لكنه تعرض للضرب تحت الحزام وأُخرج من المشهد بطريقة فجة، بعد ما أدخل السياسة إلى البيوت، وجعلها تشبه الناس، تأكل الطعام وتمشي في الأسواق وتجلس في المقاهي، أعطاها عمقها الجماهيري، بأسلوبه الذي يمزج بين البساطة والصدق والسخرية. إبعاد الرجل من الحكومة والحزب، كان إيذانا بمسلسل التراجعات التي نعيش على إيقاعها في الشهور الأخيرة، وإغلاقا للقوس الذي فتحته تظاهرات العشرين من فبراير. لا يخفي بنكيران قلقه على مستقبل "العدالة والتنمية"، وخوفه من فقدان "استقلالية القرار الحزبي"، حتى وإن كان سعيدا بالانتصارات التي حققها محسوبون عليه في المؤتمرات الجهوية الأخيرة، "كأنها صحوة للدفاع عن الثوابت"، إذا فقد الحزب "استقلالية قراره" على الإخوة أن يتركوا المركب، وإلا سيكون مصير حزب "المصباح" مثل مصير "الاتحاد الاشتراكي"، الحزب التاريخي الكبير، الذي لم ينزل فقط، إلى الجحيم، بل صار يقيم فيه، والعياذ بالله. سألته إن كان وزراء الحزب مازالوا على اتصال معه، وإن كانوا يزورونه أو يستشيرونه، فهز رأسه متأسفا: "لا أحد، باستثناء مصطفى الخلفي الذي لم يقطع زياراته، فهو بمثابة ابني، ومحمد يتيم من حين لآخر"… وصمت قليلا قبل أن يواصل: "من كنت أتمنى أن يزورني ويستشير معي أكثر، هو الدكتور سعد الدين العثماني، لكنه مع الأسف لم يفعل إلا مرتين: الأولى حين جاء يستشيرني في شأن الاحتفاظ بعبدالقادر اعمارة أمينا لمالية الحزب، والثانية قبل أن يذهب مؤخرا لإنزكان بعد ما صرح للصحافة أن زياراته لم تنقطع"… يتأسف بنكيران لأن خليفته على رأس الحزب أقصى من القيادة كل من يختلفون معه في التقدير السياسي للمرحلة، رغم أن قوة الحزب في اختلاف الآراء وتدافع التوجهات، ويستحضر أنه عندما كان مكانه، حرص على أن يكون معه في القيادة من يعارضونه، "الرميد وحامي الدين وأفتاتي، كلهم كانوا ضدي، وعندما اشتغلنا سويا في القيادة صاروا معي"! يدرك بنكيران أن السياسة تحتضر في البلد. إذا نظمت انتخابات في الأيام المقبلة "سينش" المراقبون الذباب في صناديق الاقتراع. عندما تتكسر الثقة، من الصعب ترميمها. يتأسف السياسي، الذي لا يتقن لغة الخشب، أنه كلما تحدث أو أعطى رأيه، يخرج هواة الاصطياد في الماء العكر للتحريض ضده، وآخرها كانت تصريحاته في مؤتمر شبيبة الحزب في فاس، يستحضر الحملة التي استهدفته حين قال إنه "لا يطلب رضا الملك"، بل "رضا والدته ورضا رب العالمين"، وكيف اشتغلت التأويلات المغرضة لكلام لا يعدو أن يكون شرحا لاشتغال المؤسسات في ظل دستور 2011، مؤكدا ثقته في ملك البلاد وفي حكمته. الرجل سلم أمره لله، ولا تخيفه مثل هذه الحملات، "حتى أحداث الحسيمة حاولوا أن يلصقوها بي"، لكنه مستعد "للتضحية"، منذ اليوم الذي قبل فيه الدخول إلى معترك الشأن العام، لذلك يضع في صدر الصالون صورته مع رفيق دربه، المرحوم عبدالله باها، الذي يعتبر رحيله المفجع رمزا للتضحية، و"لغزا" لم تفك كل طلاسمه، وعندما طلبت منه التعليق على ما صرح به أحمد ويحمان على هامش الندوة الصحافية التي عقدها عبدالعلي حامي الدين مؤخراً، وحديثه عن احتمال تعرض باها لعملية "اغتيال"، أجاب أن "ويحمان رجل صادق"، وثمة مؤشرات كثيرة تدعو إلى الشك في سبب الوفاة، لكن ليس هناك أدلة، والتحقيق أُقفل، وعلم ذلك عند الله… رِجْل في السياسة ورِجْل في التاريخ.. أعتقد أن بنكيران لم يحسم بعد، هل يتقدم خطوة إلى الأمام ويدخل إلى "متحف الشمع" ليجلس قرب عبدالرحمان اليوسفي وعبدالله إبراهيم، أم يرجع خطوة إلى الخلف، ليبدأ جولة جديدة من المصارعة الحرة ضد "التماسيح" و"العفاريت"؟!