شرعت حكومة سعد الدين العثماني، خلال الأيام الماضية، في تجميع حصيلة سنة أولى من عملها. فقد كلّف العثماني مساعديه في رئاسة الحكومة، بتنسيق مع الوزير المكلف بالعلاقة مع البرلمان والمجتمع المدني، بإعداد حصيلة سنة من الأداء الحكومي، في وثيقة يرتقب إعلانها قريبا في حملة تواصلية. الخطوة ستكون هي الثانية من نوعها في مسار ما سُمي بحكومة أبريل، إذ سبق أن أعلنت حصيلة الثلاثة أشهر الأولى من عمرها تحت شعار: «120 يوما.. 120 إجراء»، كان الغرض منها إعطاء الانطباع بأنها مستمرة ولن تسقط ردّا على التحليلات التي ذهبت في ذلك الاتجاه، وهو الانطباع الذي نجحت فيه بالفعل، إذ لاتزال حكومة العثماني قائمة بكل مكوناتها، بل تؤكد أنها مستمرة إلى نهاية ولايتها، بيد أن السؤال الأهم هو: بأي ثمن حصل ذلك؟ السياسة في غرفة الإنعاش بالفعل، استطاعت حكومة العثماني أن تصمد لمدة سنة، وهي التي جاءت في سياق صعب تميز ب6 أشهر من البلوكاج انتهت بإبعاد رئيس الحكومة السابق. البقاء مدة سنة أعطى العثماني الثقة، فصرّح قائلا إن الحكومة ستبقى إلى آخر ولايتها القانونية. لكن، كيف حصل ذلك؟ أحمد البوز، أستاذ العلوم السياسية، يرى أن إحدى ميزات حكومة العثماني «إعادة إنتاج الصورة النمطية لرئيس حكومة متحفظ في الكلام، حيث يُغلّب جانب الكتمان، والمنضبط للغة الإشارات والأعراف والتقاليد المخزنية»، وذلك على خلاف مرحلة رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران، والتي تميزت أكثر «بلغة الحوار والجدل والنقاش، وأحيانا لغة الفضح السياسي»، وهي سمة تعود إلى شخصية بنكيران «الذي استطاع أن يكسّر لغة الأسرار باعتماد لغة البوح». أما مع العثماني، «فنحن بصدد العودة إلى تقاليد الوزراء الأولين السابقين، أمثال عبد الرحمان اليوسفي وعباس الفاسي». لا يكتفي العثماني بالتزام الصمت، بل يبدو كأنه يتصرف مثل «مسؤول إداري» ملزم بواجب التحفظ وبتنفيذ التعليمات. منذ ترؤسه الحكومة، يكاد يغيب عن النقاش المجتمعي، وفي الوقت نفسه هو غير قادر على إثارة الجدل والنقاش السياسي، سواء حول أداء حكومته، أو بخصوص رؤيته للوقائع والتحديات. عبد الحفيظ اليونسي، أستاذ القانون العام، قال ل«أخبار اليوم» إن «السياسة دخلت في ظل حكومة العثماني إلى غرفة الإنعاش»، وأضاف: «ليس هناك نقاش سياسي، فالحكومة لم تعد تصنع الحدث السياسي، ويبدو لي كأنها عاجزة عن ذلك، تماما مثلما تبدو المعارضة غائبة ولا يُسمع لها صوت». ويفسّر هذا الوضع عادة بطبيعة الحكومة التي تتألف من 6 أحزاب إضافة إلى التقنوقراط، وهي مكونات بينها خلافات سياسية ومصلحية، ومن شأن إثارة الجدل السياسي حول القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الشائكة أن يُفجّرها عند أول عقبة، ويبدو وكأنها تحافظ على استمراريتها من خلال محاولة تنفيذ برنامج الإدارة، كما تم اعتماده في البرنامج الحكومي، أي تغليب هاجس الإنجاز لسد النقص في المشروعية. أما التفسير الثاني لضعف قدرة الحكومة على إثارة الجدل السياسي، فهو أنها حكومة «دون قضية»، حيث يرى منتقدوها أنها تخلت عن فكرة الإصلاح منذ البداية، لذلك يبدو وزراؤها دون قضية تجمعهم، باستثناء بعض الإجراءات الصغيرة التي اقتضتها الظروف ودعت إليها الحاجة. ومن نتائج قتل السياسة، تركيز العثماني على خطاب «الإنجاز»، حيث يبدو وزراء الحكومة وكأنهم مجموعة من التقنيين، ينفذون البرنامج السنوي وفق التعليمات التي صدرت لهم، وليسوا سياسيين وقادة في أحزابهم، دورهم الأول هو التجاوب مع آلام الفقراء والمهمشين والسعي إلى تحقيق تطلعاتهم، وتوجيه الإمكانات نحو التحديات الحقيقية. أكثر من ذلك، أدى تغليب الطابع التقني على أداء الحكومة إلى الحديث عن حكومة برأسين، رأس العثماني ورأس عزيز أخنوش، في حين تحدث آخرون عن حكومتين؛ حكومة المال والأعمال بقيادة أخنوش، وحكومة المشاكل الاجتماعية برئاسة العثماني. وهذا الوصف أزعج العثماني، حتى إنه خرج يوم 19 فبراير، في حفل التوقيع على ميثاق الأغلبية الحكومية، للقول: «هناك حكومة واحدة يترأسها سعد الدين العثماني الذي عينه جلالة الملك»، وفي محاولة لتبرير التضارب بين تصريحاته وتصريحات أخنوش، قال العثماني: «نحن لسنا حزبا واحدا، وإنما ستة أحزاب»، مضيفا: «من الطبيعي أن نختلف وتكون لنا وجهات نظر مختلفة، وإلا سنندمج ونكون حزبا واحدا، وهذا غير ممكن». ويعكس كل ذلك، حسب الجامعي أحمد البوز، «هشاشة مؤسساتية»، مؤكدا أن الحديث عن «حكومة برأسين» معناه أن «المعطى الانتخابي لم يعد محددا، وأن نتائجه غير واضحة بما فيه الكفاية». ومقارنة بالحكومة السابقة، يرى البوز أنها كانت «حكومة ائتلافية، لكن كان هناك مركز ثقل يتم التركيز عليه هو حزب العدالة والتنمية، إما بالتأييد أو الاعتراض، أما مع الحكومة الحالية، فإن الرئاسة لدى العثماني، لكن مركز الثقل في جهة أخرى هي التجمع الوطني للأحرار». التطبيع مع الفساد علاوة على قتل السياسة، يلاحظ أن السنة الأولى من عمر حكومة العثماني تميزت بتراجع حاد في مستوى الخطاب المناهض للفساد، على خلاف الحكومة السابقة، التي وإن لم تفلح كثيرا في الحد من هذه الظاهرة، فقد عبّرت دوما عن مناهضتها وحاولت مواجهتها، بل تركت للحكومة الحالية استراتيجية وطنية ببرنامج محدد. ففي 26 دجنبر 2015، صادقت الحكومة السابقة على الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد، ثم بعدها بستة أشهر (ماي 2016) وضعت برنامجا ب10 محاور تتوزع إلى 239 إجراء مدققا وواضحا، لتأتي بعدها الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2016، ثم بلوكاج 6 أشهر الذي انتهى بتشكيل حكومة العثماني في أبريل 2017، والتي واصلت الاشتغال على مرسوم إحداث اللجنة الوطنية لتنزيل الاستراتيجية أعلن في يونيو 2017، ما أدى إلى احتجاجات ضده بسبب إقصاء المجتمع المدني والمهني، وهو الاحتجاج الذي أدى إلى إعادة النظر في المرسوم مرة ثانية، وأفرج عنه في نونبر 2017، لكن اللجنة لم تعقد اجتماعها الأول سوى قبل أسبوع، أي 4 أبريل الجاري. محمد بنعبد القادر، الوزير المكلف بالوظيفة العمومية، اعترف في تصريح رسمي بأن المغرب تأخر في تنفيذ الاستراتيجية، وعزا ذلك إلى عوامل عدة؛ بينها الانشغال بالانتخابات التشريعية التي جرت عام 2016، وما تلاها من أحداث سياسية. وأكد أن محاربة الفساد تتطلب نوعاً من الهدوء لتفعيل الإجراءات القانونية واحترام قرينة البراءة، لأن «الهدف ليس أن نخلق مادة إعلامية أو فرجة، أو حماسة، بل إنها مسألة جادة ينبغي ألا تسخّر لأغراض معينة، أو تتحول إلى مجرد شعار سياسي لتصفية الحسابات». لكن المسكوت عنه هو أن القطاعات الحكومية غير متحمسة جميعها لتطبيق الاستراتيجية، بل منها من يرى أن الاستراتيجية «غير قابلة للتطبيق». بنعبد القادر كشف ل«أخبار اليوم» أن صعوبة التطبيق ترجع إلى «كثرة المشاريع التي تتطلب إشراف كل وزير في قطاع معين على مشاريع أفقية بقطاعه، والتي تتداخل مع قطاعات حكومية أخرى». وبالإضافة إلى ضمور أولوية محاربة الفساد في الخطاب الحكومي، خصوصا وزراء حزب العدالة والتنمية، يُلاحظ أن تعاطي القضاء (النيابة العامة) مع الملفات التي تُثار في الصحف يكون تعاطيا باردا. ففي يناير الماضي، تفجرت فضيحة صفقة 40 حافلة للنقل المدرسي بتارودانت، كان يفترض توزيعها على عدد من الجماعات، قبل أن يكتشف المسؤولون أن الصفقة، التي كانت بقيمة 900 مليار سنتيم بين رئيس المجلس الإقليمي وبرلماني بالإقليم وكلاهما من حزب التجمع الوطني للأحرار، بها عيوب وخروقات، وتحوم حولها الشبهات. ورغم الجدل الذي أثارته الواقعة في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، لأنها تنطوي على تبذير للمال العام، فإن الحكومة التزمت الصمت، ولم تُعلّق على الموضوع لحد الآن. ومما يلاحظ على الحكومة، في هذا الإطار، حسب عبد الحفيظ اليونسي، أنها «لم تستطع التمكين للمبادئ والقيم الدستورية على المستوى المؤسساتي. هناك غياب مطلق لإعادة هيكلة مجلس المنافسة، وهناك أيضا تجميد لدور الهيئة الوطنية لمحاربة الرشوة، وعدم تفعيل غرف جرائم الأموال في محاكم الاستئناف، كما أن الحكومة لم تستطع الحد من تغول شركات المحروقات»، وخلص إلى أن «الحكومة تظهر عاجزة أمام تنامي دور اللوبيات وأصحاب المصالح الخاصة التي تحقق أرباحا خيالية في ظل وضع اجتماعي متأزم». وإذا كانت محاربة الفساد من الشعارات التي رفعها حزب العدالة والتنمية في الولاية السابقة، وأعطته «نقطة تميز وجذب» وسط الحقل الحزبي ولدى الناخبين، فإنها مع حكومة العثماني «أصبحت قضية من بين قضايا أخرى»، يقول أحمد البوز، ما يعني أنها «لم تعد أولوية لدى حزب العدالة والتنمية»، ومن باب أولى لدى الحكومة. قمع الاحتجاجات وفي الوقت الذي تطبّع فيه حكومة العثماني مع الفساد، يُلاحظ تنامي الاحتجاجات الكبرى. فقد بدأت الولاية الحكومية الحالية في الوقت الذي كانت فيه الاحتجاجات قائمة بحدة في الحسيمة ومنطقة الريف عموما، ولم تكد تكمل سنتها الأولى حتى اندلعت احتجاجات أقوى في مدينة جرادة شرقا. منذ سنة 2011، عرف المغرب تصاعدا في المد الاحتجاجي، إذ تشير المعطيات الرسمية إلى أن المغرب يعرف نحو 50 احتجاجا كل يوم، ما يعني أن السلطات تدبر نحو 18 ألف احتجاج سنويا، أزيد من 85 في المائة منها في المدن الكبرى. لكن، يلاحظ، منذ اندلاع حراك الريف في أكتوبر 2016، أي أياما قليلة بعد الانتخابات التشريعية، أننا أمام عودة ظاهرة الاحتجاجات الاجتماعية الكبرى، وفي أمد زمني قصير، والتي تضرب بالأساس في مدن الهامش البعيدة عن المركز، والتي تعاني التهميش والفقر. حسن طارق، أستاذ العلوم السياسية، اعتبر أن الاحتجاجات أصبحت أحد مكونات المشهد السياسي، وأرجع تنامي الاحتجاج إلى عدة أسباب، منها «أن هناك عجزا بنيويا للسياسات العمومية في الاستجابة لحاجات وتطلعات المجتمع»، بالإضافة إلى «ضعف النقابات المركزية، وتراجع قدرتها على التأطير الاجتماعي للاحتجاجات، ما أدى إلى ظهور تنسيقيات شعبية وحركات اجتماعية هامشية». وسجّل طارق أن سهولة ولوج الفضاء العام، من خلال ما تسمح به وسائط التواصل الاجتماعي، مثل الفايسبوك، والذي يستخدم في التعبئة السياسية والجماهيرية، «أسهمت بشكل قوي في تزايد رقعة الاحتجاجات». من جهته، اعتبر الحسن العسيبي أن أبرز تحدٍّ واجهته حكومة العثماني خلال السنة الأولى من عمرها و«لم تنجح فيه، هو الحراك الاجتماعي»، وأضاف، في حوار تلفزيوني: «لدينا حراك اجتماعي جديد مختلف عما كان من قبل، يجعل الحكومة أمام تحدي تقديم مبادرات ملموسة مرتبطة بالشأن الاجتماعي». العسيبي أفاد بأنه «إذا كانت حكومة اليوسفي أدت دورا في الانتقال السياسي، وحكومة جطو كان لها دور اقتصادي، فإن حكومة العثماني مطلوب منها أن تعلب دورا اجتماعيا»، مؤكدا أن هذا الدور «هو الآن دون المستوى المطلوب». ومن نتائج تراجع قدرة الحكومة على معالجة تحدي الاحتجاجات، عودة المقاربة الأمنية والزجرية في التصدي لها، حيث تعرف محاكم المملكة حاليا محاكمات قضائية لعشرات المعتقلين الشباب بتهم سياسية في الغالب، بعدما اعتقلوا نتيجة مشاركتهم في التظاهر والاحتجاج. وتزكي التدخلات الأمنية ضد الاحتجاجات، سواء في الريف أو جرادة، الخطاب الرائج بين المنظمات الحقوقية، دوليا أو وطنيا، حول وجود «انتكاسة حقوقية تهدد المكتسبات»، خصوصا أن التضييقات باتت تشمل حريات عامة، مثل حرية الصحافة وحرية التظاهر والتجمع، وهي حقوق «كانت السلطة تحافظ على هامش معتبر فيها، حتى في زمن قتل السياسة»، يقول عبد الحفيظ اليونسي. هكذا يبدو، إذن، أن حصيلة سنة من عمر حكومة سعد الدين العثماني لا تدعو إلى التفاؤل بخصوص المستقبل، ولا يمكن أن نتوقع منها الشيء الكثير. فقد تكون الإجراءات التي نفذتها عديدة من حيث الكم، وقد يكون بعضها مهما لهذه الفئة أو تلك، لكن التقييم من زاوية سياسية يؤكد أنها تظل إنجازات هشة ومشتتة وجزئية، وفوق ذلك دون روح سياسية.