لم يضع الإعلام الأمريكي السلاح ولو للحظة في مواجهة أكبر خيبة مُني بها في السنوات الثلاث الأخيرة: اعتلاء دونالد ترامب رئاسة البلاد رغما عن أنفه! حاول الإعلام الأمريكي أن يقول للعالم بكل اللغات وكل الطرق، إن ترامب أكبر "قالب" تعرضت له الأمة الأمريكية. أمريكا دولةُ تواصل ولباقة وكياسة ودبلوماسية ولا يمكن أن يكون ترامب رمزها الأعلى. الملياردير الأشقر مر إلى البيت الأبيض في غفلة من الجميع. بل ترامب أكبر دليل على تعرض "ديمقراطيتنا العظيمة وقيمنا العليا وتاريخنا العريق" لمؤامرة ! إنهم الروس. كل شيء يقول إن روسيا وراء "خيبتنا الجماعية". فالخصم المفضل لدى أمريكا، في المحن والأزمات، هو روسيا. روسيا، بإشراف شخصي من بوتين، وفق رأي الاستخبارات الأمريكية، الذي وافق هوى إعلام غاضب متأفف، وجهت الرأي العام الأمريكي خلال الانتخابات الرئاسية لصالح ترامب. كيف فعلت ذلك؟ عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي صنعها عباقرة أمريكا، وفي صدارتها توتير وفايسبوك. نعم، روسيا جعلت من نقاط قوة أمريكا نقاط ضعفها أيضا. قامت روسيا، حسب الزعم الأمريكي، ببث مجموعة من الشائعات والأكاذيب وأنصاف الحقائق عبر هذه الشبكات للنيل من سمعة هيلاري كلينتون ورفع أسهم ترامب عند الرأي العام. تدخل بوتين في المسار الانتخابي الأمريكي من خلال توظيف معلومات سبق أن حصل عليها قراصنة تابعين للكرملين من داخل الحزب الديمقراطي. فجّروا المعلومات خلال لحظة الانتخابات مثل قنبلة موقوتة. فتبعثرت قواعد ديمقراطية أمريكا. طيّب، لنتساءل: ماذا لو صحّت المؤامرة على أمريكا؟ لو صدق أنه تم بذل جهد منسق من طرف دولة أجنبية، ربما شاركت فيه أو استفادت منه أطراف داخلية للتأثير في نتائج محطة سياسية حاسمة في أمريكا. أمريكا بكل جبروتها التكنولوجي والإعلامي والاستخباراتي. أمريكا التي اخترع أبناؤها يوتيوب وفايسبوك وتويتر واخترعوا تلك الخوارزميات فائقة الذكاء، التي تحصي سكناتنا وحركاتنا وأنفاسنا (أنفاس المشتركين في إحدى هذه الشبكات)، وتكتب عنها تقارير مفصلة. إذا صحت، مادام إعلام أمريكا الرزين ومفكروها يصّرون على ذلك، لنا أن نطرح ثلاثة تساؤلات تخصنا نحن. الأول، يتصل بكون التدخل الروسي المفترض في الانتخابات الأمريكية جاء في صيغة تدخل في المحتوى. أي في شكل عرض لمعلومات وحجب لأخرى، والتلاعب في أخبار وصور وفيديوهات وبث لشائعات وخلق لاتجاهات (trends) زائفة. اليوم، نلاحظ في المغرب والعالم العربي عموما انتشارا لاتجاهات وصفحات وفيديوهات غريبة عنّا. تضعنا أمام أحد احتمالين. إما أننا صرنا إلى هذا الحد من الرداءة، وإما أن هناك من يصنع هذه الاتجاهات من خلال التدخل في المحتوى. يوظف المضمون لتوجيه شعب بأكمله. اليوتيوب أكبر مثال على هذا الأمر. وأركز على فكرة التدخل في المضمون لا الجانب التقني، أي إن الأمر يتصل بتشجيع تسجيل وبث نمط من الفيديوهات والصور والأخبار والدعاية لها عبر شبكات التواصل لتصير حديث الداني والقاصي. التساؤل الثاني، عن ماذا لو صح وجود أطراف إما داخلية (جهات سلطوية داخل الأنظمة العربية) أو أجنبية توظف بيانات الفرد العربي بالاعتماد على خوارزميات خاصة، لشحنه بالرداءة وتعليق قلبه بالتفاهة والضحالة، وبناء منظومة قيم جديدة لديه مبنية على اللامبالاة والتيه والخواء. من يفتح تحقيقا في ما يتعرض له "شرفنا الرقمي" من انتهاكات؟ التساؤل الثالث، يتصل بسابقة مماثلة. حين تفجر الربيع العربي خرجت أصوات نقدية تقول عن أمريكا كلاما مشابها لما تقوله أمريكا عن روسيا، أي إنها تدخلت لتوجيه أحداث الربيع العربي عبر شبكات التواصل. هرع الإجماع إلى تصنيف هذا الخطاب على أنه خطاب تآمري غريب؟ لكن أيهما أشد إيغالا في الغرابة، دولة رائدة تكنولوجيا تريد إقناعك بأن روسيا قلبت انتخاباتها رأسا على عقب وأن ترامب تقريبا عميل روسي (مفكر أمريكي تساءل إن لم يكن ترامب عميلا روسيا في مقال بنيويورك تايمز)، أم دول متخلفة تكنولوجيا تقول إن أمريكا نزلت بكل ثقلها لتفجير احتجاجات الربيع بسند من شركاتها؟ لا أقول إن الاحتجاجات العربية صنيعة أمريكية، أقول ألا يصح التساؤل والتحقق، بكل اعتدال ونسبية في ترتيب الخلاصات، عن الدور الذي لعبته أمريكا فيها. إذا سمحت أمريكا لنفسها بالقول إنه تم التغرير بناخبيها، فلِمَ لا يجوز القول إن هناك من غرر بملايين المتظاهرين وباعهم أملا زائفا، ثم صمت بعدها عن المجازر والقصف والدمار؟