يجلس القرفصاء وحيدا في إحدى حدائق العاصمة الرباط على قلتها، يتابع المارة، يتفحص وجوههم كأنه يرى نفسه فيهم لما كان في ريعان شبابه ويتمتع بكامل صحته، يشرد تارة وتارة أخرى يبتسم ابتسامة خفيفة في وجه كل من نظر إليه، يبدو أنه في عقده السابع، يرتدي قميصا أسود عليه سترة في اللون البني، رسمت على ملامحه خارطة السنين التي أمضاها بين جدران الإدارات المغربية، يتذكر تلك الأيام بابتسامة وعيناه يشع منها بريق غريب، "رغم التعب والتذمر الذي كنت أشعر به وأنا في الوظيفة العمومية، إلا أن تلك الأيام كانت أحلى مراحل عمري، كانت حياتي طبيعية، أعمل، أعيل أسرتي، أسافر، أقابل أناسا جددا؛ لكن اليوم أعيش في عزلة ووحدة رغم لقائي بين الفنية والأخرى ببعض الأصدقاء القدامى". "الحاج عبد الله" كان يعمل في "بريد المغرب"؛ أمضى في تلك الوظيفة ما يناهز أربعة عقود، لكنه اليوم يواجه شبه الفراغ والوحدة وأمراض الشيخوخة التي تتفجر كأنها بركان هائج، "بعد تقاعدي بتعويض ضئيل لا يتجاوز 3000 درهم، عانيت من الفراغ والملل ولبثت في البيت لشهور أمضي يومي في مشاهدة التلفاز واللعب مع أحفادي حين يزورونني والنوم، لكن بعد مضي سنة وجدت نفسي أعاني من لائحة أمراض طويلة ولائحة ممنوعات أطول، بقي للطبيب أن يقول لي مت وأرحنا فجسدك منهك منك". ويضيف "بدأت مسلسل العلاج، المصاريف عرت كاهلي، والمواعيد الطويلة أنهكت جسدي الضئيل، تعبت من المستشفيات ولم تعد لي القدرة المالية لمسايرتها، فقررت التوقف عن العلاج وانتظار أجلي إلى أن يحين"؛ يصمت، يرسم على شفتيه ابتسامة ثم يقول "لن نعيش أكثر من عمرنا". توفيت زوجة الحاج عبد الله قبل سنتين، ومنذ ذلك الوقت وهو يمضي نهاره في هذه الحديقة يراقب الناس ويلاعب الأطفال، "أشعر أن هذا المكان بيتي الثاني، أقصده كل صباح بعد تناولي لوجبة الفطور وأجلس هنا أستمتع بالخضرة والناس"، ويضيف "أعيش لوحدي بعد وفاة زوجتي وأبنائي أغلبهم يعيشون خارج أرض الوطن، لذا أفضل القدوم إلى هنا على المكوث بين أربعة جدران لوحدي، حتى وإن باغتني الموت أكون بين الناس ولست لوحدي". المرض ينهش أجسادهم! يجلس بهدوء بجلبابه الأبيض وعكازه الخشبي، يتأمل العالم من حوله، عيناه شاردتان يبدو أنهما تحملان هموم الدنيا، بين الفينة والأخرى، يسعل فيخرج منديله ليمسح فمه ثم يعيده إلى جيبه، هذا الشيخ الذي كان يشتغل بإحدى الإدارات العمومية وجد نفسه بعد إحالته على التقاعد، يحمل جسدا ينخره المرض بمعاش زهيد لا يكفي حتى لتسديد ثمن زياراته للأطباء المتكررة. قبل عشر سنوات، فجأة وجد نفسه أن عليه جمع أغراضه ومغادرة مكتبه ليأتي شخص آخر مكانه، كانت صدمته كبيرة فلم يكن يعد السنون، وجد صعوبة في التأقلم مع محيطه الجديد والجلوس في البيت، لكن بعد مدة قصيرة، بدأ يعاني من آلام في المفاصل والقلب وأصيب مرض السكري والضغط، كل هذه الأمراض جاءت دفعة واحدة، ما تسبب له في أزمة نفسية، يقول في حديثه ل"اليوم24″؛ "لم أحسب حساب هذا اليوم، أثقلت كاهلي الأمراض ومصاريف المستشفيات والأدوية، معاشي لا يكفي حتى لدفع حق زيارة الأطباء، أما ثمن الأدوية فدائما أجدني أستجدي معارفي لإقراضي ثمنها في انتظار أن يتم تعويضي من صندوق التأمين". وتابع "هذا العمر على الإنسان أن يستعد له، فهو سن الحاجة للصحة والمال والاهتمام، نصبح مثل الأطفال بعدما كنا أرباب أسر"؛ يتوقف عن الحديث يشرد قليلا ثم يضيف بابتسامة خافتة، "بعدما كنت المعيل أصبحت عالة على أبنائي، في بعض الأحيان أشعر أني مستشفى متنقل لما أعانيه من أمراض القلب والشرايين والمفاصل والسكري والضغط". أما صديقه الذي كان معه، فهو يعاني من عدد من الأمراض قبل خروجه للتقاعد، لكن حدة تلك المعاناة زادت بعد خروجه على المعاش، حيث يحكي ل"الجريدة" أنه تعب من المستشفيات، خصوصا منها الحكومية، وتعب من استجداء أبنائه، الذين يعانون بدورهم من قساوة الحياة وتكاليفها، أن يدفعوا له ثمن الدواء والمتابعة مع الأطباء في القطاع الخاص، "كان من المفروض أن تكون التعويضات التي نحصل عليها بعد التقاعد تفوق أجرتنا أو تعادلها، لأن هذه المرحلة هي التي تكون فيها المصاريف مرتفعة ويزداد خطر الإصابة بالأمراض، لكن للأسف النظام عندنا يرمي المتقاعدين كأنه يرمي عنه ثوبا قديما". العزلة من بين المشاكل التي يعانيها المتقاعدون هناك غياب الأنشطة والعزلة، ففي الوقت الذي كان فيه فاعلا في المجتمع يصبح فجأة بدون وظيفة، وهذا حسب عدد من الدراسات يسبب في أمراض الاكتئاب وأيضا زيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والشرايين، إذ يحكي أحد المتقاعدين الذي التقيناه في حديقة "المكتبة الوطنية" بالرباط؛ أنه بعد خروجه على المعاش انتابه إحساس عدم جدواه، خصوصا بعد جلوسه لمدة طويلة في البيت دون أن القيام بأي عمل يذكر، ويضيف "حتى المسجد لم أعد أذهب إليه، تقوقعت على نفسي، أمضي يومي في مشاهدة التلفاز أو قراءة الجرائد والنوم". هذا النظام الذي اتبعه هذا الأخير كان متعبا بالنسبة له وسبب له أزمة نفسية، حيث أصبح يشعر بالإحباط واقتراب أجله، "في حين أن الحياة تفتح ذراعيها من جديد للإنسان المتقاعد"، يقول المتحدث ذاته مضيفا، "من المفروض أن يجرب الإنسان كل ما كان يجد صعوبة في عمله بسبب ضيق الوقت والمسؤوليات"، مشيرا إلى أنه بعد مدة من تلك الحال التي كان عليها، قرر الخروج للمشي والتعرف على أشخاص جدد وهو ما تم فعلا، إذ يأتي كل مساء إلى الحديقة ليلعب مع أقرانه "الكرة الحديدية"؛ ويتبادلون الحديث ويناقشون أمور السياسة والحياة. من جانبه، اعتبر الهاشمي رئيس جمعية "العمر الذهبي"؛ أن المتقاعد بعد تقاعده، يجب أن يعيش حياة طبيعية، غير أنه يعود ليقول إن الفوارق المالية بين المتقاعدين والمصاريف التي تزداد بالنسبة للعناية بالصحة، تدفعه إلى العيش في ظروف صعبة، مشيرا إلى أنه يجب أن تكون هناك مؤسسة تسهر على خدمة المتقاعدين، وتشرف على أعمالهم وتخرجهم من العزلة بإنشاء نوادي خاصة بهم للترفيه والرياضة. صدمة المسنين معطيات صادمة كشفتها دراسة جديدة حول واقع الأشخاص المسنين بالمغرب، أنجزتها وزارة الأسرة والتضامن والتنمية الاجتماعية، بشراكة مع المرصد الوطني للتنمية البشرية، حيث أظهرت أن 7.3 في المائة من أصل 3.2 مليون مسن قالوا إنهم يعانون من الإقصاء الاجتماعي ولا يحضون بالعناية الاجتماعية، إذ ترتفع هذه النسبة في الوسط الحضري إلى 8.8 في المائة. وحسب الدراسة، فإن المغرب يعاني من نقص حاد في الأطباء المختصين في أمراض الشيخوخة، إذ أنه يوجد فقط 10 أطباء في جميع ربوع المملكة، أي طبيب لكل 300 ألف مسن، حيث إن الرعاية الاجتماعية في الأسر تقع على النساء، سواء كان زوجها أكبر سنا أو هي، وحتى مع أقاربها دائما هي التي تتكفل برعايتهم، وأكدت النساء المستجوبات أن التمييز بينهن وبين الرجل يزيد من إحساسهن بالإقصاء، كما أن تراجع الخصوبة البيولوجية للمرأة قبل الرجل يدخلها في مرحلة الشيخوخة المبكرة. ووفقا لمعطيات الدراسة، فإن معدل المرض بالنسبة للأشخاص الذين يتجاوزون 60 سنة وصل إلى 32.06 في المائة، وهذه النسبة تكون مرتفعة في المناطق الحضرية أكثر من المناطق القروية بنسب على التوالي 36.3 في المائة و 27.4 في المائة، كما أن نسبة النساء اللواتي يصبن بالأمراض تفوق نسبة الرجل ب 10 في المائة. وكشفت الدراسة أن الأشخاص بين 60 و64 سنة تتعرض نسبة 25.2 في المائة منهم للأمراض، والأشخاص الذين يتجاوزون 75 سنة، نسبة 41 في المائة منهم يمرضون. وتشير الدراسة إلى أن أكثر من نصف المسنين يعانون من مرض مزمن واحد على الأقل، إذ تبلغ هذه النسبة 57.5 في المائة، 49.3 في المائة من الرجال مقابل 65.3 في المائة من النساء، وفسر معدو الدراسة الفجوة بخصوص الأمراض المزمنة، بأن المرأة بصفة عامة أكثر عرضة للإصابة بالأمراض بسبب الولادة والأعمال المنزلية الروتينية. وبخصوص التغطية الصحية، فبينت الدراسة أن التأمين الصحي يغطي 50.6 في المائة من كبار السن، 26.3 في المائة منهم لديهم تأمين إلزامي و24.3 في المائة مشمولون بالتأمين الصحي، ومقارنة مع 2006، فقد شهت نسبة التغطية الطبية بالنسبة للمسنين زيادة واضحة بلغت 13.3 في المائة. ووفقا لآخر المعطيات، فإن من 3-4 من بين كل عشرة مسن، يحتاجون الرعاية الصحية دون الحصول عليها، وأن 64 في المائة منهم يتجهون للمراكز الصحية مرة في كل أسبوع على الأقل، إذ هناك تباين في نسبتهم في المناطق الحضرية ب 67.2 في المائة، و في المناطق القروية بنسبة 57.4 في المائة، ويرجع ذلك أساسا إلى صعوبة الوصول إلى المرافق الصحية في المناطق القروية. وأفاد نصف المسنين المصابين بالأمراض، أنهم لم يستخدموا خدمة الرعاية الصحية، إذ قال 49.9 منهم إنهم يعانون نقصا في الموارد المالية، 45.5 في المائة لا يستطيعون دفع ثمن الاستشارة، و4.4 في المائة منهم لم ينتقلوا بسبب كلفة النقل الباهظة، بينما اعتبر 22.3 في المائة من المستجوبين أن المرض لا يتطلب الاستشارة الطبية، فيما قال 8.6 في المائة منهم إن الخدمات في المراكز الصحية سيئة. رفع المعاشات! تعمل فيدرالية الجمعيات الوطنية للمتقاعدين بالمغرب، التي تضم حالياً 36 جمعية تمثل حوالي 150 ألف متقاعد من مختلف القطاعات العمومي، الشبه العمومي والخاص، على الدفاع عن حقوق المتقاعدين، حيث أكد العربي العزاوي، رئيس الفدرالية، على أن أولى مطالب الفيدرالية هي الرفع من الحد الأدنى للمعاشات إلى مستوى الحد الأدنى للأجور (2500 درهم)، واستفادة الأرملة من المبلغ الكامل للمعاش الأدنى، مضيفا "لا يعقل أن تأخذ الأرملة 50 في المائة من الحد الأدنى، والحالة أنه هزيل مقارنة مع حاجيات الحالة الراهنة". ومن بين المطالب الأخرى التي تعانيها فئة المتقاعدين حسب العزاوي، التخفيف من ضريبة الدخل على المتقاعد الذي ساهم منذ عقود، حيث أدى الضريبة من أجره، وهذا التخفيض يقول المتحدث قد يكون إما برفع مستوى الخصم الضريبي من 55 في المائة إلى 70 في المائة أو حذف السقف المتمثل في 168000 درهم سنويا، كما تسعى الفدرالية إلى إرساء معالم نظام ضريبي جديد خاص بالمتقاعد كالمعمول به في بعض الدول.