يعود محمد الناجي، الباحث السوسيولوجي المغرب إلى ما عاشه المغرب في السنة الأخيرة من تقلبات اجتماعية وسياسية. كما يتناول موضوع النخب وطريقة إنتاجها ببلادنا. عرفتم في الآونة الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي بمواقفكم المباشرة، وانتقاداتكم الحادة للمخزن والسياسات العامة للدولة. لكنكم لم تكونوا كذلك دائما. ما سر هذا التغيير، حتى لا أقول الانقلاب؟ ليس ذلك من أجل أن أحقق أي مجد، لقد كان الأمر دائما كذلك. أظن أن سبب اللبس يعود إلى أني اقتربت في فترات من مساري من رجال النظام، وبينهم مستشارون ملكيون. لكن هذه العلاقات تدخل في إطار مبادرات ثقافية أعتز بها ولا أتبرّم منها، بل على العكس من ذلك تماما. لم أقتحم، في المقابل، الحدود التي تحيط بهذا العالم الثقافي إلى السياسي، لم أخلَق لذلك، لاسيما بسبب صراحتي في الحديث. الذي تغير اليوم هو أني لم أعد في المقاعد الخلفية كملاحظ، وأجد نفسي، مع شبكات التواصل الاجتماعي وبعض كتبي، منخرطا في عمل نقدي متواصل، وأتابع مستجدات الأحداث بشكل أفضل باعتباري مثقفا حرا تماما، هكذا أتصوّر نفسي. ما يهم في الحقيقة الآن هو ذكاء النظام والمجتمع اللذين أتطرق إليهما في كتبي. كثيرا ما يتم الحديث عن أزمة نخب. هل تتفقون مع هذه الملاحظة؟ أزمة النخب المُجدِدة سياسيا وثقافيا هي بكل تأكيد أزمة قائمة. النظام، في حقيقة الأمر، استطاع كسر العمود الفقري لمجتمع في عز نشاطه، عبر تقويض قاعدة إنتاج نخبة متمردة وناقدة. النخبة الموجودة نخبة عنينة عقيمة، تخدم المصالح السياسية والاقتصادية للنظام. فمنذ بضعة عقود مع أزمة التعليم نجد أنفسنا أمام إغلاق باب إنتاج نخب خارج تلك المبرمجة من أجل خدمة النظام القائم. ما يعني أن الثقافة توجد في الحضيض. الإنتاج الثقافي لسنوات السبعينات يفوق في جودته بكثير ما ينتج اليوم رغم عدد الجامعات، إنه أمر محزن. درّستم في الجامعة المغربية مدة طويلة. هل تضمون صوتكم إلى التيار العام الذي يهاجم مستوى المدرسة العمومية؟ دون مبالغة، المدرسة تخضع لتدمير مدبر بعناية بهدف دقيق ومحسوب، وهو تكميم مجتمع بأسره ومنعه من صنع مستقبله. الجامعة، التي ترزح تحت بؤس ثقافي وعلمي، ليست إلا امتدادا لما يجري في التعليم الابتدائي والثانوي. حتى لا نتوه في التفاصيل، أقدم مثلا واحدا: كافة المجلات الوازنة التي كانت تعد دعائم لنقاش حقيقي اختفت. يمكننا أن نذكر مثال «لاماليف». مستوى المجلات الجامعية عرف تراجعا مثل مجلة «هسبريس تامودا» أو المجلة الجغرافية. لم يعد هناك حقل أكاديمي قائم قادر على أن يكون فضاء للنقاش والابتكار. هناك تراجع ثقافي لا يختلف فيه اثنان. حقبة الأدعياء والمتملقين مفتوحة على مصراعيها. الشاشات الرسمية تحاول بشكل مثير للشفقة تأثيث الفراغ المهول الذي تسبب فيه النظام. العقوبات التي اتخذت أخيرا في حق وزراء وولاة وعمال وعدة أعوان للإدارة، هل يمكن أن تقود إلى تخليق الحكامة الإدارية؟ لا يمكن أن ننكر بشكل كلي ما لهذه العقوبات من أثر إيجابي على الحكامة الإدارية. لدى بعض هذه العقوبات ملمح إيجابي، وستكون لها بعض الثمار بالنسبة إلى علاقة المواطن بعون السلطة، الذي لم يعد بإمكانه التمترس خلف الإفلات من العقاب بصفته ممثلا محصنا لأعلى السلطات. مع ذلك، هناك أمر غير مريح بخصوص هذه الإجراءات، وهو أننا لا نعرف بشكل واضح المنطق الذي يقف خلفها، ومدى تناسقها، لأنها إجراءات لم يتم توضيحها وتبريرها بشكل رسمي، ولأنها ليس ناجمة عن إجراء إداري راسخ بقوانينه وعقوباته. هذه الإجراءات ليست أيضا ثمرة مقاربة ديمقراطية يمكن للمواطن في إطارها، عبر ممثليه أو قنوات أخرى، إسماع صوته حول الموضوع الذي يشغله، إلى درجة تحديد من يتحمل المسؤولية تجاهه وما وجه التقصير الذي يتهمه به. في أي منطق تدخل إذن هذه العقوبات؟ تدخل في إطار المنطق الداخلي لهرم السلطة نفسه. فحتى ولو كانت هذه الإجراءات تمثل بشكل غير مباشر ردا على الاحتجاجات، التي «فرضتها»، فالنظام عازم على الحفاظ على اليد العليا وإظهار ذلك، وبذلك، هو يتصرف كما يحلو له في إطار ما يقدّر أنه يعد حكامة جيدة. هذا ما يُفهم في كافة الأحوال من مقاربته. هذه الإجراءات تقوي شوكة النظام إذن؟ المخزن، كما قد يقول الكثيرون، دون أن يكونوا كليّا على خطأ، يخرج أكثر قوّة، على الأقل في المدى القصير. احتجاجات الشارع تقدم له الفرصة لتوطيد سلطته على أعوانه الذين يصبحون، بالتالي، تحت رحمة إرادته الطيبة. المضمر هو أن القضية تتعلق بالنظام وأعوانه، ولا مكان فيها للشارع. وبذلك، لا يقدم النظام أي تنازلات في ما يخص تدبيره الداخلي. هذا ليس بالأمر الجديد… الجديد، والمكسب الذي تراكمه الاحتجاجات، هو أن جهاز الدولة لم يعد متضامنا موحد الصفوف، وهو ما يمثل مستجدا. هناك انفصال لهذه المستويات التي لم تعد أكثرها هشاشة خارج دائرة العقاب. الإسمنت الذي يوحد مختلف مستويات جهاز الدولة يتفكك تحت ضغط الشارع الذي يتغير ويتنامى وعيُه بحقوقه. إنه تقدم مهم في الحقيقة، يكشف الجهات الهشة في النظام الذي يقوم أعلى مستوى فيه، «نواة النظام»، بإنقاذ نفسه عبر تقديم خدامه قرابين لإسكات الغضب الجماهيري. نحن هنا أمام منعطف في علاقات القوة بين الدولة والسكان، وهو منعطف بدا واضحا منذ نتائج آخر انتخابات. ألا يمكن أن يؤدي ذلك إلى مزيد من إبعاد الأشخاص الأكفاء والنزهاء عن المهام الإدارية العليا مخافة أن يلاقوا مصيرا مماثلا؟ لا أظن أن النزاهة تمثل انشغالا أولويا بالنسبة إلى النظام، وإنما الإخلاص والإذعان التامان، والسمع والطاعة. كما أرى أن كشف عمق القضية يتطلب النظر إليها من زاوية مخالفة لهذه الزاوية. القضية الأساسية تتعلق بالمسطرة المتبعة، المنطق الذي يؤدي إلى التجريد من المهام، والذي يفترض أن يتم إشعار الخادم به مسبقا. بكلمات أخرى، المشكل يتصل بعدم وجود قواعد لعب مسطرة بوضوح أمام كافة الأطراف المعنية. بمعنى؟ طريقة التعامل التي استقر عليها الاختيار في هذه الحالة يصعب استيعابها، إذا حصرنا أنفسنا في التصوّر الخالص للدولة الحديثة التي تكون في قطيعة تامة مع ماضيها القريب. في الحقيقة، نحن لسنا بعيدين، في هذه الحالة، عن الإجراءات المخزنية العتيقة، حيث مزاج السلطان وكبار الوزراء يحدد الوجهة المطلوب اتباعها. فالخادم القريب من المركز يربح بعض الأهمية، لكنه يبقى هشا لأن وضعه يبقى رهينا بإرادة السيد. في الحالة التي تعنينا، المستشار الملكي قريب من الملك، وكذلك الوزير قريب من الملك ومن المستشار الملكي، والعامل من الوزير، والقايد من العامل، والخطاطة تتكرر بهذه الطريقة حتى وإن تغيّر المركز. هل هذه الخطاطة تأخذ بعين الاعتبار تعايش نظامين متمايزين؟ الملكية في طور تحولها تستخدم سجلات تنهل من الحديث والتقليدي، حتى وإن كان السجل الأخير مستترا في خطاب توافقي. هناك منطق يتداخل فيه منطقان، أو، كما تقول القاعدة، الحي يرث الميت. إضافة إلى ذلك هناك عامل افتتان الجماهير بالعقوبات والإعدامات الجماهيرية، وما يحدث مع الوزراء ومسؤولين آخرين ينم رمزيا عن ذلك: أي محاولة إرضاء الجماهير بالاعتماد على طريقة عتيقة لكن صلاحيتها لاتزال قائمة. من جهة أخرى، إذا تفحصنا عن كثب هرم السلطة، تنظيم الدولة، التراتبية الحالية في جهاز الدولة المتسع في قاعدته، فإنه يصبح ضيقا في قمته، بتعبير آخر «أحادي الاتجاه»، ما يشجع اللجوء إلى ممارسات سلطانية تعود إلى عهد غابر. وحدة القائد في قمم السلطة تجبره على الرد بهذه الطريقة بسبب عجز المؤسسات التي يظهر فراغها بجلاء لا تخطئه العين. هل قدر البلاد أن تسوسها حكومات ضعيفة أمام منطق النظام؟ طبعا لا. التغيير الذي حصل للساكنة مع الهيمنة المتزايدة للساكنة الحضرية، وتنامي الوعي السياسي، عدّل، حتى لا نقول قلب، علاقات القوة. النظام لم يعد قادرا على التحكم في المسار الانتخابي بالشكل الذي يريده، على الأقل ليس مثل ما كان عليه الحال في السابق. البوادي، التي كان النظام هو السيد المطلق داخلها، بدأت تفرغ تدريجيا، وتتغير العقليات داخلها تحت تأثير العولمة والهجرة والشبكات الاجتماعية. التحكم في هذه الفضاءات القروية يمر بالضرورة بتعبئة الأعيان وأعوان السلطة في البوادي، وبالتوزيع السخي للمال. تجربة الأصالة والمعاصرة تؤكد هذا الأمر. ورغم هذا الضغط متعدد الأشكال، نجح العدالة والتنمية في كسر هيمنة الدولة على صناديق الاقتراع. الأهم طبعا ليس حزب المصباح، وإنما ذاك الجزء من الساكنة الذي غير واقع الأمور.. ساكنة حضرية من الصعب التحكم في أصواتها. لو أن العدالة والتنمية تبنى موقفا أكثر شجاعة ومسؤولية، لكانت الأمور ستتخذ منحى آخر، وستبرز عمق التغيير الحاصل. لكن هذا الحزب غير متشبع بثقافة التحدي رغم الفزاعات التي يثيرها. المصير الذي خصصه الحزب لبنكيران يعد مثالا واضحا. على العموم، كافة الفاعلين السياسيين الموجودين بالساحة، من مختلف ألوان الطيف، يخشون المجهول، ويحولون هذه الخشية إلى ذريعة. ماذا يعني انتخاب العثماني أمينا عاما للحزب؟ هل تتفقون مع من يرون في انتخابه انتصارا ل«التحكم»، وتدخلا في الشؤون الداخلية للأحزاب؟ في الحقيقة، تدخل السلطات العمومية يتبادر إلى الذهن، لكنه بعيد عن الإجابة عن سؤالكم. معنى انتخاب العثماني أعمق من ذلك، ويتعلق بتطور المجتمع. انتخابه تم بشكل ديمقراطي داخل مؤسسات الحزب. بنكيران لم يقدّر جيدا طبيعة حزبه. الحزب ركب على إرادة التغيير التي عبرت عنها ساكنة المدن، لكنه ظهر في مستوى أقل من تطلعات هذه الساكنة. وماذا عن الخطاب الديني والأخلاقي؟ هذا الخطاب ظهر أنه الوسيلة الفعالة من أجل استمالة الناخبين. لكن لا يوجد مشروع متناسق للتغيير غير إدانة الفساد و«التحكم». هذا الحزب هو نتاج المدرسة الجديدة منزوعة العقل (décérébrée)، بخطاب بسيط ودون مشروع متكامل. شد الحبل مع النظام الذي قام به بنكيران بطريقة متهورة لم يرق الأعيان الجدد للحزب الذين أمالوا كفة العثماني. الهيكلة الداخلية والطبيعة الاجتماعية للعدالة والتنمية هما أكبر مسؤوليَن عن الاختيارات التي أقدم عليها هذا الحزب. هل «تمخزن» المصباح الآن؟ وما هو التيار أو الحزب الذي يمكن أن يدافع عن مصالح الناس؟ أعتقد أنه دون وجود مدرسة وطنية ومخلصة ذات مستوى عال، مفتوحة أمام أغلب الشرائح في المجتمع، فإن إمكانية قيام حزب شعبي قوي لاغية. ما رأيكم في تطورات محاكمة معتقلي حراك الريف؟ النظام يأخذ كامل وقته، يطفئ شيئا فشيئا وهج الاحتجاجات باستنزافها، مثل حيوان جريح يُترك ينزف إلى أن يفقد حيويته. أصعب الأوقات التي كان على النظام تدبيرها هي أوقات القمع العنيف والاعتقالات. بعد مرور تلك الفترة، بدأ النظام يخفف قبضته. أعتقد أنه يفرغ الاحتجاج من مضمونه عبر تفكيك مكوناته وعزل قادته. مع مرور الوقت، تصبح طبيعة ومآلات الحراك غير واضحة مقارنة بلحظة انطلاقه. رغم ذلك، من الواضح أن النظام غير قادر على إيجاد حل ملائم لإنهائه، كما أنه يستفيد من غياب منظمات قادرة على استثمار الحراك سياسيا، وفي الوقت ذاته فهو يعاني بسبب غيابها، باعتبارها قوى وسيطة بينه وبين الشارع، ما يدفعه إلى خيار مواجهة الشارع وحده. يجري الحديث عن نموذج اقتصادي جديد للمغرب، هل ترون أن النموذج القديم استُنفد؟ لا أرى حقيقة أي نموذج قائم. هناك طبعا نموذج يرتكز على التملك الخاص للخيرات، لكنه أبعد من أن يكون نموذجا ليبراليا، إذا أردنا أن نعطي هذا المفهوم حمولته التاريخية. في نظري، النموذج القائم يقترب أكثر من نموذج انتقالي للتراكم البدائي للرأسمال، حيث تحمي المجموعات المهيمنة سيطرتها «بشكل قانوني» على وسائل الإنتاج باللجوء إلى بسط النفوذ على جهاز الدولة. وهذا هو الفرق الرئيس بينه وبين الليبرالية، حيث المؤسسة الاقتصادية حاضرة بقوة، وهي التي تفرض قواعد اللعب. في المغرب، التحكم في السلطة السياسية هو الذي يضمن الهيمنة على الاقتصاد، الذي ليس بذلك القدر من الحرية الذي يبدو عليه. ما هو شكل النموذج الاقتصادي المنشود إذن؟ النموذج الحالي لايزال لديه مستقبل. لكن لنقل إن النموذج الملائم في ما يخص النجاعة يمكن استلهامه من آسيا التي توجد في أوج ازدهارها. يتلخص هذا النموذج في بضع كلمات: أولا، نظام وطني منشغل بتقدم البلاد وازدهار ساكنتها، مشروع اجتماعي متناسق، تعليم جماهيري ذو جودة عالية لتخريج النخب التي يحتاج إليها الوطن. التعليم يبقى هو المفتاح، وفيه نجد الإرادة الحاسمة لبلاد ما للخروج من التخلف. لا أحتاج إلى مزيد من الشرح لأقول لكم كم نحن بعيدون عن ذلك. ترجمة «اليوم24» بتصرّف عن مجلة «إيكونومي-أونتروبريز»