أخيرا وصل الإسلاميون بالمغرب إلى كرسي الحكم، بعد حوالي أربعة عقود من العمل الدعوي والمدني ثم السياسي، ذاقوا خلالها كل صنوف الإقصاء، والملاحقة، والتهميش...، وانتهت بفتح قلاع السلطة الحصينة في المغرب. إن الإسلاميين منذ أن ظهروا في المغرب وخارجه، وهم يبشرون الأمة بقدرتهم على انتشالها من التخلف والانحطاط، وإنزالها المنزلة التي تليق بها بين أمم الأرض، سياسيا واقتصاديا وثقافيا...، وقد بلوروا في هذا السياق شعارات جذابة، سلبت وجدان الشعوب العربية، وغذت أحلامهم الجميلة؛ شعارات قائمة على مثل: الحرية، والكرامة، والعدالة، فهل بمقدورهم –اليوم- بعد امتلاكهم زمام السلطة ولجامها تحقيق هذه الوعود الكبرى؟، هل بإمكانهم تقديم نموذج للحكم الراشد القادر على إثارة القوى الإيجابية الكامنة في الشعب المغربي، وحفزها على العمل والعطاء الحضاري؟، هل الذي كان ينقص المغاربة من أجل تحقيق نهضة هو "السياسة الصالحة"، المستوحاة من عقيدة الأمة ودينها، حتى تنصلح سائر الأمور، وتستقيم؟. إن الغاية من هذه الأسئلة، هي كبح جماح التفاؤل الزائد عن الحد، الذي بات يسيطر على فئات عريضة من الشعب المغربي، بما فيها بعض النخب، وبالمقابل بلورة رؤية عقلانية للحظة التاريخية التي تجتازها الأمة، تصوب إدراكنا لإمكانات الإصلاح الواقعية، وترفع من درجة الوعي بالتحديات التي تقف على جنبات طريق هذه التجربة الجديدة. ننطلق في هذا النص من حقيقة لا يختلف حولها اثنان، وهي أن المغرب يعاني من أزمة سياسية معقدة، وبنيوية، ليست وليدة السنوات القليلة الماضية، بل ترجع بعض أسبابها ومظاهرها إلى مراحل ما قبل الاستعمار، وكل القراءات الاختزالية لهذه الأزمة التي تعلقها بظرف طارئ، أو سبب واحد هي قراءات مضللة، من شأنها تزييف الوعي، والتشويش على الرؤية. وتختزل الدولة مؤسسة وشرعية ووسائل الحكم... جل مظاهر هذه الأزمة السياسية. إن الدولة التي تحكمت في أقدار المغاربة على امتداد خمسين عاما تقريبا هي دولة مأزومة، يلاحقها الفشل على أكثر من صعيد. ومن أبرز علامات إخفاقها التاريخي: علاقتها المتوترة مع المجتمع؛ وضعف إنتاجيتها النهضوية والحضارية. لقد أدخل الاستعمار الفرنسي إلى المغرب نواة "الدولة الحديثة" ابتداء من سنة 1912م، وعمل على رعايتها طيلة أربعين عاما، وبعد انسحابه سنة 1956م، عمل على تفويتها إلى الحكام الجدد، الذين لم يكن بمقدورهم عمليا ونظريا استعادة هياكل الدولة السلطانية التي تفككت وتلاشت أجهزتها في ظل الاحتلال، وفي نفس الوقت لم تكن لهم الشجاعة لتبني مفهوم الدولة الحديثة بكل اشتراطاتها، وهو ما أدى إلى بناء كيان سياسي عمرانه حديث، وقلبه غارق في التقليد. وإذا كانت الدولة الحديثة من الناحية الوظيفية ولدى الوضعانيين "هي مجموع أدواة عقلنة المجتمع"، وهي في ذات الوقت "مؤسسة خدماتية" في علاقتها بالمجتمع، فإنها في الحالة المغربية، وفي المجتمعات الحديثة العهد بالاستعمار عموما، لم تستطع أن تكون كذلك، بحيث تحولت بعد فترة وجيزة من رحيل الاحتلال إلى مؤسسة قمعية تُخضِع المجتمع، بدل الخضوع له، وتستلهم روح النموذج السلطاني المنقرض مؤسساتيا. لقد كانت "دولة ما بعد الاستعمار" في المغرب، دولة أبوية، وفية لشرعياتها التقليدية، دولة قائمة على منطق الغلبة أو التغلب، لم تهتم بالشرعية "الحديثة" المستمدة من المجتمع، والقائمة على التفاني في خدمة الصالح العام، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية والديمقراطية، واستغنت عن كل ذلك ب"العصبية" والقوة، والقمع، ولدينا في أحداث المغرب المعاصر أمثلة وافية عن الطبيعة القمعية والتسلطية لدولة ما بعد الاستعمار، ومن أبرز هذه الأمثلة أحداث 1965، والانتفاضات الشعبية المتكررة سنوات 1981، 1984، 1990...، بالإضافة إلى حالات الخطف والاغتيال والسجن... التي طالت المئات من المغاربة عشاق الحرية والديمقراطية من يساريين وإسلاميين. ومن الناحية السوسيولوجية استندت "دولة ما بعد الاستعمار" على المجتمع القروي (الفلاح المغربي)، الذي تشكلت منه غالبية المغاربة، الذي لم يطالبها بأكثر من توفير الأمن والقضاء، واستغنى عنها فيما عدا ذلك، وكان هذا المجتمع ولا زال الأداة الرئيسية لضمان دوام الطبيعة القهرية للدولة المغربية، وتجديد شرعيتها. إن الدولة المغربية الحديثة، بالرغم من مرور هذه السنين الطويلة على تأسيسها، لم تنجح بعد في تحديث شرعيتها، وحسم الانتقال نحو "الحداثة السياسية" (الدولة الديمقراطية)، ولعل أكبر مظهر لهذا الفشل، هو التعثر المستمر لمشاريع الانتقال الديمقراطي، وتضخم المؤسسة الأمنية على حساب باقي المؤسسات، وضعف الإنجاز التنموي... إلخ. وإذا كان الإعراض عن الحداثة، وتحاشي الشرعية الديمقراطية في الماضي يشكل أحد مظاهر التجاوب بين الدولة والمجتمع (المجتمع البدوي)، فإنه أمسى اليوم -عكس ذلك- انفصالا عن المجتمع، ونوعا من الاغتراب، خاصة بعدما بلغت نسبة السكان الحضريين أزيد من 65% من مجموع السكان. لقد أصبح التوتر سمة أساسية لعلاقة الدولة بغالبية المجتمع في السنوات الأخيرة، واتسع نطاق المعارضة السياسية، وتعزز نفوذها، بسبب تردي الخدمات الاجتماعية، والتجاوزات الحقوقية، وعجز الدولة عن رفع مؤشرات النمو الاقتصادي والتنمية البشرية...، واتخذ هذا التوتر أشكالا مختلفة من الاحتجاج ملأت الساحات العمومية وصفحات الإعلام...، غير أن أرقى تجسيد لهذا التوتر وأنضجه هو "الربيع الديمقراطي العربي"، الذي عرفه العالم العربي بما فيه المغرب خلال السنة الجارية. ففي هذا السياق، فقد وجه الربيع المغربي رسالة قوية وواضحة للدولة المغربية لا تقبل التأويل، تدعوها إلى التطابق مع المجتمع، وأن تبادر طوعا إلى التخلي عن الشرعية التقليدية القائمة على القوة والتغلب، والتحكم، والتحلي بشرعية حديثة قائمة على الديمقراطية وسيادة الأمة، وتدل بعض المبادرات التي أقدمت عليها على استيعابها السريع للرسالة، واعترافها بشرعية تحركات المجتمعات الحضرية، وعدالة تطلعاتها، وعلى رأس هذه المبادرات الإقدام على تعديل الدستور بالتشاور مع الهيئات السياسية الرئيسية، والدعوة لانتخابات مبكرة، والتخلي عن التزوير...، الشيء الذي حمل حزب العدالة والتنمية المعارض إلى السلطة. فهل يمكن اعتبار ما حصل دستوريا، وسياسيا، كاف للدلالة على انتقال حاسم نحو الدولة الحديثة، وخروج الدولة المغربية من أزمتها، التي لاحقتها منذ تأسيسها، أم أن الأمر يحتاج إلى مزيد من العمل والمثابرة السياسية؟. إن وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة ليس نهاية الأزمة، بل هو بداية لحلها، ويقتضي هذا الأمر مجموعة من الخطوات والإجراءات السياسية والقانونية التي تصب في اتجاه: الحد من تغول الأجهزة الأمنية وتجاوزاتها؛ إقرار سلطة القانون؛ تكريس مبدأ استقلال القضاء وفصل السلطات؛ تعزيز صلاحيات المؤسسات المنتخبة؛ بناء مؤسسات ذات مصداقية؛ إقرار مبدأ المحاسبة إلى جانب المسؤولية؛ إعطاء الأولوية للخدمات العمومية...، فهل يقدر حزب العدالة والتنمية على تطبيق كل هذه الإجراءات، والنجاح فيها؟. فإذا كان وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم علامة على تحول استراتيجي للدولة في السياق المغربي، فإن هذا التحول هو مجرد مشروع لحد الآن، وإنجاز 25 نونبر هو خطوة في اتجاه تحقيق هذا المشروع، وليس علامة على تحقق تام له، وما زالت تفصلنا مسافة زمنية وسياسية عن "الدولة الحديثة الديمقراطية" التي تجتمع فيها مؤشرات العقلانية (الحكامة)، والديمقراطية، واحترام القانون، وسيادة الأمة...، بل الأهم من هذا، والأخطر، أن قوى "الدولة القهرية" (الدولة التقليدية) لازالت تتمتع باللياقة اللازمة، التي تمكنها في أي لحظة من الانقلاب على المشروع الديمقراطي، والرجوع إلى نقطة الصفر. وهكذا، فمناط المساءلة النزيهة لحزب العدالة والتنمية، وهو يمارس السلطة، يتعلق أساسا بوفائه لروح الربيع العربي الديمقراطي، وتطلعات الشباب من أجل "دولة حديثة وديمقراطية"، دولة مواطنة، ملك للمواطن، فأي تراجع عن روح هذا الربيع، أو خيانة لعواتق الملايين التي حملت الأستاذ عبد الإله بن كيران إلى رئاسة الحكومة ستكون نكسة بكل ما تحملها الكلمة من معنى، ونهاية درامية لرومانسية سياسية داعبت خيال الملايين من المغاربة فترة من الزمن، وستضع المغرب مرة أخرى أمام واقعية الحلول الراديكالية لأزمة الدولة. إن الضمانة الحقيقية لتحقق مشروع الدولة الحديثة الديمقراطية بالمغرب هو يقظة الشارع السياسي، ومتابعته، وتحركاته، وليست التجربة الحكومية لحزب العدالة والتنمية، فهذا الأخير هو عامل أساسي في هذا المشروع لكنه بالتأكيد ليس كل العوامل، التي يوجد معظمها –سواء منها السلبي أو الإيجابي- خارج إطار العدالة والتنمية. وأخيرا، إن دعوى عقلنة الانتظارات التي نطلقها من خلال هذا المقال، الغاية من ورائها الإبقاء على دور سياسي إيجابي لحزب العدالة والتنمية في اتجاه بناء الدولة الجديدة، حتى ولو تجمد التطور، واستباق الإحباط واليأس الذي يتربص بهذه التجربة، وذلك بالتأكيد على أن أزمة الدولة المغربية هي أزمة سوسيولوجية وثقافية وسياسية عميقة، فوق طاقة جهة حزبية معينة مهما كانت قوتها وجاهزيتها، وتحتاج إلى تظافر جهود كل المعنيين بها في المجتمعين السياسي والمدني. يجب أن نبرهن كساسة، وشعب، ونخب... أن ما تحقق ديمقراطيا، نستحقه، وأن المغرب ضيع الكثير من الفرص والوقت بتأجيله المتكرر للديمقراطية، فهذه هي رسالة 25 نونبر، وهي نفسها رسالة النجاح المحتمل لحزب العدالة والتنمية. [email protected]