أول صرخة لرضيع حديث الولادة تكون عبارة عن إشعار موجه للوسط الذي ينتظره بفارغ الصبر، اشعار بأنه وصل إلى هذه الحياة بسلام، و أنه بهذه اللحظة و مبدئيا هو بحاجة إلى قطرة حليب تسد جوعه و تشعره بوجود أمه ليطمئن للعالم الجديد الذي سيعيش به.. يكبر الرضيع ليصبح طفلا، مراهقا، شابا، كهلا ثم شيخا.. و خلال مختلف مراحل عمره يعيش ليؤمن رغيف خبزه! خلال طفولته يلقن دروسا أولية في كيفية حصوله على قوته، و تأتي المراهقة كي تكون فترة ستحول الطفل المتلقي للدروس إلى مكون لشخصية و منتج لأفكار قد تدله على طرق حتى يدعم ما تلقاه بصغره و يطبقه، ثم يكون الشباب ثمرة ورثت كل ما تحتاجه لتستطيع تأمين خبزها اليومي.. هذا هو محور الحياة! و سر كل المشاكل التي تغزو العالم.. سبب الحروب و سبب الدمار.. غير أن الرغيف يختلف نوعه من جهة لأخرى.. حيث أن القابع بقمة الجبل المعرض لحرقة شمس الصيف و جليد فصل الشتاء يناضل من أجل دفء و خبز حافي.. و تلك الأرملة التي تتحمل مسؤولية عشرة يتامى تناضل من أجل توفير حياة قابلة للعيش لأطفالها.. و هناك العاطل الذي لم يجد ملجأ يساعده على الاستيقاظ من النوم و تحريك يديه الاثنتين و العمل في سبيل ايجاد رغيف يأكله.. و تجد في جهة أخرى غنيا يكرس حياته كلها لتنمية و تطوير عمله و مضاعفة ثروته و تخزينها لما بعد فناءه.. و تجد حزبا يناضل من أجل منصب حتى يسيطر على بلد.. و رئيسا يتوسع و يستعمر و يتدخل بالدول المجاورة و يناضل ايضا ليسرق رغيفها..! يختلف نوع الرغيف من واحد لآخر باختلاف المركز و المنصب و المكانة المسؤولية التي تتحملها كل جهة.. لكن في كل سيرورة الحياة التي ذكرتها و بمختلف مراحل العمر لم يكن للتربية جزء أهم من الرغيف.. طريقة الحصول عليه و ما يتلقاه الانسان حول هذا لا تراعي دائما محور "التربية" .. حسب مطمع الانسان و ما يرجوه من الحياة، حسب ما يمثل بالحياة، و حسب مكونات الحياة بالنسبة له! الحفاظ على استمرارية عيشه مسألة يخضعها للحاجة تبرر الوسيلة و ليس لشيء اخر غير ذلك.. غير ان سياسة الحياة هذه و بعد مرور قرون من الزمن اوضحت أن الشعب المكون من الجهات التي سبق و ذكرتها بحاجة للتربية قبل الرغيف، بحاجة للتربية حتى تتعلم طرق الحصول على الرغيف في اطار الاحترام و القانون دون تجاوزات ولا ظلم.. ليتحقق العدل و تسود المساواة بين طبقات المجتمع التي تتصارع فيما بينها حتى تحقق مصلحتها الشخصية و حتى تجسد المعنى الحقيقي ل "أنا و من بعدي الطوفان" .. طبعا من حق المريض أن يشفى.. من حق العاطل ان يوظف.. من حق المتشرد ان يحصل على سكن.. من حق العازب العاجز عن الزواج لظروفه المادية ان يتزوج.. من حق الفقير ان يتساوى مع الغني.. من حق المواطن ان يحصل على ما نهبته منه جيوب الحكام الذي اختارها ان تحكمه.. لكن ليس من حقه أي شيء قبل أن يتربي.. قبل ان يفكر بالمصلحة العامة قبل الخاصة.. قبل أن يكون قادرا على الاستماع الى الحقائق عوض التحدث عن جهل.. قبل أن يكون ظابطا لحقوقه وواجباته و قبل ان يعرف جيدا اين تتواجد حدوده بالضبط.. ليس من حقه شيء قبل ان يعيد النظر بالكلام الذي سمع سابقيه يرددونه فأخد منه ما طلح و ترك ما صلح و برمج عليه خلاياه العصبية دون ادنى جهد يذكر..! شعب يورث أفكارا لا تقبل الاسقاط على واقع تغير بتغير أبطاله، أفكارا توازي الواقع بشكل صارخ، شعب بهذه المواصفات لا يمكنه ان يحقق العدل و لا حتى رؤيته من زاوية بعيدة مادام لم يعدل بين رغيفه و تربيته!