كتب السيد أحمد عصيد أن لسان حال الإسلاميين يقول للآخر - باختصار - :"أنت حر .. لكن داخل بيتك !". و تحدث عن كيف يحتكر الإسلاميون الفضاء العام، فيطلقون العنان للحاهم وجلابيبهم دون حسيب أو رقيب، ويحتلون الأرض مصلين في الأرصفة والشوارع بكل أريحية، ويمتنعون عن الأكل والشرب في رمضان بكل حرية، ويذبحون ملايين الأكباش في عيد الأضحى متسببين في كارثة بيئية، - و فاته أن يذكر خرقهم للأجواء بصوامع مساجدهم الناطحة للسحاب الموسعة لثقب الأوزون ! - ورغم كل هذا فإنهم يجدون تسامحا لا نظير له من طرف "الأقلية العلمانية" التي تتفهم وتتحمل وتصطبر على رؤية كل هذه المظاهر التراثية التقليدية الفولكلورية تضج في دولتها المدنية الحديثة ! و بالمقابل، فإن "الأغلبية الإسلامية" عوض أن تحمد الله على الحريات التي تتمتع بها و "تتكمش وتدخل سوق راسها" فإنها تتطاول وتحشر أنفها في ما لا يعنيها، فتعمل على مصادرة "المكتسبات التي لا تنازل عنها !" والتي تحققت منذ سنة 1912 – أي منذ احتلال فرنسا للمغرب !– والتي تتمثل بالخصوص في حرية التعري العلني والسكر العلني! الشاهد إذن، أن السيد أحمد عصيد يعتبر أن الفضاء العام ملك للجميع ومن حق جميع الأفراد أن يمارسوا حرياتهم فيه بغض النظر عن مدى تضارب بعضها مع قناعات ومعتقدات الأغلبية، وبهذا فإن كان لسان حالنا يقول للآخر :"أنت حر .. لكن داخل بيتك"، فإن لسان حال السيد أحمد عصيد يقول للآخر :"حريتي تنتهي عندما يبدأ أنفك" ! مربط الفرس تنطوي "المرافعة" التي تفضل بها السيد أحمد عصيد دفاعا عن "فتوحاته" الحقوقية على خللين مفاهيميين مشكلين: الخلل في فهم الحرية والخلل في فهم الإنسان. الخلل في فهم الحرية : يتحدث السيد أحمد عصيد عن الحرية كقيمة مطلقة لا ينبغي أن تقيد، وإلا فإنها ستستحيل شيئا آخر غير "الحرية". (طبعا يعود من حين لآخر ليعترف بضرورة تقييد بعض الحريات دون توضيح المعيار المحدد لما يمكن أو لا يمكن تقييده من الحريات، في تناقض من تناقضاته المألوفة، وفي مؤشر على أن أفكار الرجل نسق هلامي لا ينضبط لأي منهج علمي). إن القول بالحرية المطلقة للفرد أو الجماعة، لا يعني إلا أن صاحبه – أي صاحب القول – يعيش حالة هذيان مستعصية، فالحرية المطلقة لا وجود لها أبدا، وإن كانت السلطة المطلقة تساوي الفساد المطلق، فإن الحرية المطلقة تساوي الفوضى المطلقة. والمشكل الأكبر الذي يواجه القائل بالحرية المطلقة – بغض النظر عن مضمون هذه الحرية - هو مشكل المعيار، وحين يقول السيد أحمد عصيد بأنه مع تقييد حرية معينة (حظر إهانة العلم الوطني للتعبير عن موقف سياسي، مثلا)، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما الذي جعله يقبل تقييد هذه الحرية (من حريات التعبير) بينما يرفض تقييد حرية أخرى؟ هل من معيار موضوعي يحكم هذا التمييز؟ الحقيقة – التي لا يستطيع السيد أحمد عصيد إنكارها - أنه لا معيار يحكم الأمر، لأنه في الأصل لا يوجد لديه منهج علمي محكم يضبط الموضوع برمته. إن تقييد الحرية لا يعني بالضرورة الاعتداء عليها، وإنما قد يعني "تنظيمها"، وإن الفوضى ليست سوى ممارسة كل واحد منا لحريته بشكل مطلق متجاهلا حريات الآخرين وحقوقهم. إن إجبار السائقين على التوقف عند الضوء الأحمر، لا يعني الاعتداء على حريتهم في الحركة، وإنما يعني "تنظيمها" وإدارتها بحيث لا تتضارب مع حرية المشاة، فتستحيل فوضى عارمة يضيع فيها حق المشاة في قطع الطريق أو حتى حقهم في الحياة. إن إجبار سيدة عجوز في بلدة كوركلاند الإيرلندية الناعسة على جرف مطل على المحيط الأطلسي، على تغيير طلاء بيتها، لا يعني الاعتداء على حريتها في طلاء بيتها باللون الذي ترغبه هي، وإنما يعني "تنظيم" حريتها بحيث لا تستحيل خدشا للمنظر الجمالي العام الذي ارتضاه عموم السكان لبلدتهم المميزة ببيوتها الملونة. وإن قمنا بمسح للعالم فسنجد آلاف النماذج التي تثبت أنه لا وجود لحرية مطلقة، أبدا، و أن الحرية لا توجد إلا مقيدة، قيودا تتفاوت في نوعها ودرجتها حسب ثقافة المجتمع، وأن هذه القيود تتواضع عليها الأغلبية. الخلل في فهم الإنسان : حين يتحدث السيد أحمد عصيد عن الفضاء العام المشترك، وكيف أنه من حق الجميع أن يمارس فيه حرياته بدون قيد، معتبرا أن ممارسة البعض لحرياتهم في الفضاء العام لا يعني الاعتداء على حريات الآخرين، فإنه ينطلق من تصور مادي للإنسان، هذا التصور الذي يجعله يعتقد أنه مادام لم "يشنق عليك" فإنه لم يعتد عليك، وأن ممارسته لأي سلوكات في الفضاء العام لا تؤذيك ولا تضيرك في شيء مادام أنه لم يتخط حدودك المادية، وبالتالي فلا حق لك في التضييق عليه أو المطالبة بوقفه لأي سلوك أو ممارسة. و مكمن القصور في هذا الفهم هو أنه تصور مادي بحت، فالسيد أحمد عصيد يعتقد – أو على الأقل حديثه يعطي هذا الانطباع - أن الوجود الإنساني إنما هو الوجود المادي الجسدي فقط، بينما الحقيقة هي أن الإنسان في الأصل كائن ميتافيزيقي، فهو يفكر ويتخيل ويحلم ويبكي ويضحك ويتألم ويستمتع ويخجل ويرتبك ويفزع ويحب ويكره ويكتئب ويحزن ويفرح ... فوجوده الإنساني يتجاوز الحيز المادي الجسدي ويتمدد ليكون وجودا معنويا، روحيا وشعوريا. وهكذا يتمدد المرء إنسانيا في الإنسانية فيكون أي اعتداء على الإنسان اعتداء عليه، ويتمدد وطنيا فيكون أي اعتداء على الوطن اعتداء عليه، ويتمدد روحيا فيكون أي اعتداء على مقدساته الروحية اعتداء عليه. و إذا كان السيد أحمد عصيد يوافق على حظر العبث بالعلم الوطني، فعليه أن يعلم أن العلة التي جعلت من العبث بالعلم الوطني محرما ومجرما، هي نفسها التي تجعل من العبث بباقي مقدسات المجتمع محرما ومجرما، وإن كان العبث بالعلم الوطني يؤذي ويعتدي على الشعور الوطني للمواطنين، فإن العبث بالمقدسات الدينية يؤذي ويعتدي على الشعور الديني للمواطنين. وإن أراد السيد أحمد عصيد أن لا يتناقض مع نفسه، فعليه إذن أن يوافق على حظر الإفطار العلني كما يوافق على حظر تمزيق العلم الوطني، لأن حرمة الدين مثل حرمة الوطن، إن لم تكن أعلى وأولى لأنه الجامع للأمة والمانع من الفرقة. وإلا فعليه أن يوضح لنا العلة الجوهرية التي تجعل من إهانة مقدس وطني أمرا مرفوضا، بينما تجعل من إهانة مقدس ديني أمرا مسموحا بل مطلوبا من أجل تدشين عصر الحريات !؟ الخلاصة إذن، هي أن السيد أحمد عصيد يتسلح في "فتوحاته الحقوقية" بمفاهيم مختلة مضطربة، ويتقدم بدفوعات مفككة تجعل من مرافعاته دعاوى متهالكة لا يقيم بعضها بعضا، وهذا لأن الإديولوجيا لا تفسر مواقفه، فضلا عن أن يفسرها العلم. وريثما يتفضل السيد أحمد عصيد بفك هذه "العصيدة"، فإنه بوسعنا أن نقول له و بالفم الملآن :"نعم، أنت حر .. لكن داخل بيتك" !