معروفة جدا هي قصة الطالب من إحدى جامعات كولومبيا الذي نام أثناء الدرس وعندما استيقظ وجد زملائه قد انفضوا من حوله والأستاذ غادر، فلم يجد سوى مسألة رياضية كتبت على السبورة، أخذها الشاب وأمضى أسبوعا بأكمله، إلى أن حلها، عاد للأستاذ وقدم له الفرض..تساءل حينها أستاذه أي فرض وأنا لم ألزمكم شيئا، فأراه ورقته والعمل الذي قام به.. فصعق الأستاذ ! المسألة التي كتبت لم تكن سوى من بين المسائل التي لم يجد لها أحد حلا بعد في كل العالم، كتبها الأستاذ لتلامذته وأخبرهم أنه لا حل لها، ولحسن حظ صديقنا أنه كان نائما... رب نومة في الفصل كانت أفيد من تركيز جماهير من الطلبة ! إنها القناعة.. القناعة بأنك تستطيع.. بأنك تحب.. بأنك مقهور.. بأنك تتألم.. بأنك تكره.. هي منحة ربانية حبكها صانع بديع، فالطفل المحتفظ بفطرة سليمة لا يخفي حبه، لا يتملق لمن يكره، أصلا يرفض تقبيل من لم يرتح له، يعبر عن ألمه بالدموع و الصراخ، لا ينتظر أحدا أن يملي عليه ما يعتقده ! إنها القناعات، تماما مثل أنني أشعر بالبرد، لا يمكن لأحد أن يأتي ليملي علي الشعور بالبرد أو أني جائعة، لا يستطيع أحد كيفما كان؛ ولو كان أبي أو شيخي أو أستاذي، رئيسي في العمل أن يقنعني بأني لا أشعر بالجوع ذلك أمر لا يستيقنه سواي. إن الأمر يبرز في المجال الفكري والنفسي والاجتماعي والديني أساسا، كالاعتقاد بالحب أو الثقة بالنفس أو حب الوطن، وكذلك الشعور بالظلم أو الألم، فكل هذه قناعات داخلية لا دخل ليد دخيل في تغيره! فأن أحب وطني هي قناعة بأني أشعر بشيء جميل تجاهه وأن أكرهه فهو ذلك، لا يمكن لنشرة أخبار بئيسة أو محفل لسياسي مهرج أن يجعلني أحبه، هو شيء استيقنته عميقا وترسخ بداخلي محفورا في وجداني.. وانتهى! فأن يشعر إنسان أنه مظلوم، لا تحاول أن تقنعه بعكس ذلك، فهو مظلوم، وهو يشعر بحرقة الظلم، فلن تجدي معه لا تحليلاتك و لا استثناءاتك ولا تنظيراتك ولا شيء .. هو مظلوم، أقرها قلبه واستيقنها عقله .. وانتهى ! عندما تؤمن إحداهن أنها تحب شخصا، هي آمنت بذلك، اقتنعت به، فلا أفكار العشيرة ولا خيالات الصديقات ولا محاولات الوالدين يمكن أن تغير من قناعتها شيئا ... هي تحبه وانتهى ! إن قناعاتنا نبنيها بإيمان عميق مزج بتلمس تلك الفكرة وبالحوار المبني على التجربة والمعرفة والحجة، أو بالاعتقاد الداخلي والقناعة الفكرية بعد طول مكابدة وقلق، فنستشعرها بداخلنا كجنين، ننفخ فيها من بصيص يقيننا..حينها يعجز أيا كان على تغييرها قيد أنملة. فلا يمكن أن تملي على أحدهم أن يستشعر وجود الله أمرا وفرضا...هو يخوض تجربته الحسية، قد يفشل وقد ينجح، لكنه في الأخير يبقى شعوره به وقناعته بوجوده نتيجة عن إحساس وإيمان تمخض عن تجربة عاشها دون تدخل أحد .. القناعات لا نأتي بها من الفصل ولا من التلفاز ولا من الكتب، رغم أهميتها في التأثير والتوجيه لكنها تبقى محدودة إذا لم نسمح لها بالدخول إلى عالمنا وبنيتنا النفسية والفكرية؛ فالقناعات بنيان نصل إليه بعد مسارات من التفكير والتأمل والبحث في ذواتنا والوجود والاطلاع على التجارب... هي رحلة إنسان داخل خبايا إنسانيته، هي شعور يكمن من دواخلنا لا يستشعره سوانا ... قناعاتنا هي نحن التي تطفو على السطح، لتنبئ بوجود قاع غاص بالأحاسيس و الخواطر . قناعة ذلك الطالب أنه يستطيع، هو يقين نبع من عمقه أنه قادر، هي قناعة تشكلت بعيدا عن تأثير الأستاذ، أو تشويش الطلبة فاستحالت إلى إنتاج عبقري...وهكذا كان ! البشرية التي صنعنا وفقا لنظامها، تستوجب علينا خلق قناعات تنتج عنا لا عن أساتذتنا وذوينا، تستوجب منا تبني كل شعور كل فكرة كل خاطرة كأنها نطفة ترعرعت ما بين اللحم والدم .. فلا معنى لخطبة من الأفكار وزبد من التحليلات إن كانت ناتجة عن فهم شيخك وقناعات أبيك وجدك. ولا معنى لشهادتك إن كانت قد أنتجت من خلال أفكار أستاذك وفهمه وتحليله، لا معنى لوجودك إن كنت نسخة عن رب العمل أو فقيه المسجد، تردد منتشيا تصورات وخيالات لم تستشعرها يوما، لم تلامس فيك العمق البشري، لم تتصبب عرقا عند اجتيازك لها... لا معنى أن تحاضر لي حول الصدق وأنت لم تستشعره، ولم تخض تجربة معه وتبني قناعة عنه، لا محل لتحليلك له من الوجود وإن كنت بحثت في بطون الكتب وأقوال الأوائل ... لن تفلح ! فاسمعونا يا أيها الكبار، أيها الآباء والشيوخ والأساتذة والفقهاء، لا تحاولوا جعلنا نسخا عنكم، لا تملوا علينا قناعات أنتجتموها عصورا خلت، لا تحاولوا فرض آرائكم علينا، وإن كنتم أكبر تجربة وأقوى حجة، اعلموا جيدا أن القناعات لا تملى، ليست إملاء و لا إنشاء... لا تحاول جعل ابنك يفكر بنفس طريقتك وإلا سخطت عليه، لا تحاولي جعل ابنتك ترتدي بنفس أسلوبك أو تصبح عاقة، ولا تحاول أن تربي مريديك على طريقة فرعون، لا أريكم إلا ما أرى، دعونا نخض تجاربنا.. دعونا نفشل وننجح ونبك ونسعد ونبتهج عند امتلاك قناعة بذلنا في سبيلها الغالي والنفيس، دعونا نتمخض عن إنسانيتنا ونصل للحلول من خلال ذواتنا، لقد عشتم أزمنتكم، دعونا نعش أزمنتنا ونبني قناعتنا، ونؤسس مفاهيمنا ونجدد فكرنا، بما ينتج عن تجارب تلامس الشغف الكامن فينا ... فلتعذرونا ... القناعات لا تملى يا سادة !