«امرأة تخشى الحب» رواية للكاتب المغربي مصطفى لغتيري من الحجم الصغير، صدرت سنة 2013 عن دار النايا للدراسات و النشر والتوزيع بسوريا، تضم عشرة أجزاء، يتطرق خلالها الروائي المغربي لظاهرة تزداد تفاقما في العصر الحديث ألا وهي الطلاق وما يترتب عنه من تأزم نفسي ومشاكل اجتماعية، يتميز الخطاب السردي بالانفتاح والحرية والوضوح، تتخلله لغة بسيطة حوارية درامية تنسجم والأسلوب السهل ليعطيان إطارا واضحا للشخصية المتأزمة، بحيث يجعل المتلقي يكون صورة واضحة عنها وعن تحركاتها وعن حالتها السيكولوجية، وهذا ما أصبحت الرواية المغاربية تتميز به في الفترة الأخيرة، فالشخوص أفراد من المجتمع و الحوارات مباشرة إلى أقصى درجة كما نلاحظ في المكالمات الهاتفية، والحوار بين ماريا وشفيق، وبينها والأستاذة رقية. تميز الخطاب السردي للرواية بتنوعه، وذلك تبعا لتداعيات الشخصية الرئيسية وهواجسها، فهي تمر من عدة حالات نفسية أدت بها إلى سرد سيرتها الذاتية من خلال الحوارات الداخلية، والذكريات والأحلام، بالإضافة إلى علاقاتها القليلة وحواراتها البسيطة معهم، فماريا نذرت نفسها لتربية إخوانها في غياب الوالدين المتوفيين، في ص 6 «منذ أن اخترت الانفصال عن زوجي، الذي لم تجمعني به سوى سنتين كئيبتين، خلفتا في النفس مرارة لا يمكن للزمن أن يمحو آثرها قررت أن أكرس حياتي للبيت ولإخوتي... على هذا المنوال استمرت حياتي... خاتم الزواج لا يفارق إصبعي وكأنني امرأة متزوجة... حقيقة لقد اكتفيت من الرجال... إنهم متعبون ومكلفون وأنانيون، المرأة بالنسبة لهم مجرد آلة جنسية لتفريغ كبتهم. لا يمنحونها أي تقدير مهما ضحت وتنازلت، وداست شخصيتها بل وتخلت عنها. أبدا لن أكرر التجربة... لذا حين تخلصت من ذلك الزوج، شعرت بالانعتاق...» فعلاقة ماريا بالرجل تتميز بالتوتر والقلق، ولكن من خلال توظيف الحلم يتبين أن شخصيتها متذبذبة، تملك قيما مزدوجة وفي غالب الأحيان غامضة، فهي كما يبدو مترددة وممزقة، دائمة الانتقاد لنفسها وسلوكياتها، تصدر أحكاما جاهزة على الغير، وأظن ذلك بسبب العزلة التي فرضتها على نفسها وفرضها عليها وضعها الاجتماعي. في ص13 «أرى نفسي أرتدي بياضا. شعري مسبل على كتفي، ومن الأفق هناك رجل يتطلع إلي من بعيد..أمضي نحوه مجبرة بخطى ثابتة وجلة، وفرحة في الآن ذاته.. كلما دنوت منه ابتعد. يصهل قلبي حزينا، يراودني إحساس بأن لا فائدة من المحاولة، أقف، ألتفت من حولي باحثة عن أي شيء يعيد لي توازني، فإذا بامرأة تشبهني تنبثق فجأة من عمق الوردة، تنظر إلي.. تلوح لي بيدها، يتملكني شوق عارم لمرافقة المرأة، أتحسر.. فجأة ينبثق الرجل، الذي رأيته سابق، يظهر من عدم... يربت على كتفي. أندهش بحضوره، أمد يدي نحوه لأمسك به، وقد اعترتني ارتعاشة الرغبة. لكنني لا ألمس شيئا... لا شيء..لا شيء.. أشعر وكأنني أفقد نفسي، أضيع.. أندثر.... بيد أن طيف الرجل لم يفارقني.. هذا الحلم أو شبيهه يراودني كل ليلة تقريبا باختلاف بسيط...» إن ماريا التي تصر على رفضها للرجل في حياتها اليومية تلبس قناعا فقط ، أما الحقيقة اللاشعورية فيوضحها الحلم، وهذه المفارقة تجعل- كما قلت من قبل- منها شخصية مترددة لا تملك خيار نفسيتها وأحاسيسها، فهي مشوشة البال مضطربة النفس، لها رغبة أكيدة في الارتباط بالرجل، ولكن حاضرها محاصر بماضي مأساوي خلف ندوبا في نفسيتها، فهي تتوق للحياة الطبيعية وتعوضها باهتمامها بإخوتها - الأمومة المفتقدة- كما تحاول الخروج من قوقعتها من خلال علاقتها بالأستاذة رقية الكاتبة المسرحية التي استدعتها لحضور عرض لمسرحية تجريبية، فتنطلق ماريا مع ذكرياتها –فلاش باك-أيام دراستها الجامعية، لتتكلم عن المسرح وعن الفن التشكيلي وعن السينما وعن طموحاتها التي أقبرت في ص11 «قبل الزواج كانت أحلامي بشساعة البحار والمحيطات.كنت أظن العالم هدية لي، لم أعاند القدر في اختياره. إن حالة الإحباط التي تعيشها ماريا جعلتها مشوشة الفكر والإحساس، حتى لما التقت بمخرج المسرحية الأستاذ شفيق الذي يحاول التقرب منها، ولكنها تظل مترددة خائفة في ص 45 «هواجس وانشغالات وهموم اكتسحتني لمدة أسبوع... أفكر في الاتصال بالرجل، ثم سرعان ما أتعقل وأطرد الفكرة من رأسي..» ولكنها لاشعوريا تظل تقارن حالها بوضعية المتزوجين في الصفحة 46 «أثار انتباهي رواد المطعم. كانوا في أغلبهم يتكونون من ثنائيات، رجل وامرأة، النساء مبتهجات، والرجال يسعون جاهدين لتلبية متطلباتهن، أحزنني ذلك قليلا، ذكرني بوضعي البائس، شعرت بحنين لا يطاق إلى لمسة رجل حانية». يظل الحلم والحوار الداخلي يطغيان على أحداث الرواية ومن خلالهما نتعرف أكثر على الحالة النفسية للشخصية التي تصر على مواجهة مصيرها وتحدي ذاتها ومجتمعها، فتلتقي بشفيق وتلتقي برقية وتمتزج تصرفات وخيالات الشخصية فتصير استيهامات اوديبية تراجيدية، تؤدي بماريا إلى الإحساس بالذنب تارة، والاحساس بالأمان تارة أخرى، خصوصا لما تكتشف أن الأستاذة رقية لها ميول سحاقية اتجاهها، في الصفحة 44 تحاول أن تقنع نفسها بأنها أنثى جميلة وتحن لعلاقة عاطفية مع رجل «أعرف أنني جميلة،... هذه المرة يبدو الأمر مختلفا،... يبدو مختلفا عن الرجال الذين صادفتهم من قبل...» وفي الصفحة 73 تقول «هكذا يبدو أنني تجاوزت عقدة اللقاء الأول، لا أنكر أنه خلف في نفسي أحاسيس منتاقضة لم تساعدني على حسم أمري...» ولكن في علاقتها مع الأستاذة رقية تبدو أيضا مترددة، وكأنها تساير رغبتها المكبوتة، وكأن لها مشاعر شاذة مثلية، في ص 80 «تقول رقية: الرجال لا يأتي منهم سوى الهم والقلق، أبعديهم عن تفكيرك، فترتاحي» «قالت ذلك، وهي تمرر يدها على شعري، ثم ما لبثت أن تسللت يدها إلى عنقي، شعرت بقشعريرة تخترقني ,,,فرأيت الشهوة تلمع في عينيها...» في ص 84 «تلك اللمسة التي انفلتت من يد الأستاذة رقية لتحط على نهدي، كانت لمسة غريبة، أشعر بها الآن وكأنها حدثت للتو، لقد فرضت نفسها علي، أحاول عبثا التخلص من تأثيرها» «تدريجيا أجد نفسي أبتعد عن الاستاذة رقية ولمستها الشهيرة، لأفكر في الأستاذ شفيق... ما هذا الذي يحدث لي؟ هل أكون سحاقية... هذا الأمر جعلني أفكر بشكل مختلف في طلاقي، وعدم سعيي لإغواء أي رجل، تصبب جسدي عرق... وكأنني أكتشف حقيقة مرعبة عن نفسي... لم يقبل عقلي هذه الفرضية... فيما كان جزء ما من قلبي ووجداني متعلق بها». إن سلوك ماريا يعود بنا إلى نظرية فرويد في التحليل النفسي بحيث يقول «يمكن لمضمون لا شعوري أن ينتقل إلى ما قبل الشعور، ثم يصبح شعوريا وهو ما يحدث على نطاق واسع في حالات الأمراض الذهانية، وهذا يؤدي إلى القول بأن الاحتفاظ بقدر معين من المقاومات الداخلية، شرط لحالة السواء، وفي حالة النوم تقل هذه المقاومة ويندفع مضمون اللاشعوري فتكون الاحلام...»1 وهذا ما حصل لماريا فهي تبدو مريضة نفسيا، وتفرغ شحنتها بالأحلام في ص 85-86 «فإذا بي أرى نفسي أمضي في أرض خلاء.... فجأة انبثقت من العدم شجرة ضخمة... كان سيري لا إراديا... انحلت شبكة الأفاعي... رأيت اثنين منها تقصدني... لا أدري كيف تحول رعبي إلى نشوة غير متوقعة... نظرت إليهما عن قرب، كان لهما وجها شخصين أعرفهما جيدا... حاولت التخلص منهما لم أقو على فعل ذلك ، فاستسلمت لدغدغتهما.... تشابكتا في صراع حامي الوطيس، كل مهما تحاول القضاء على الأخرى..... اختفت الأفعى المنهزمة... فإذا بالمنتصرة ترفع رأسها نحوي... وجدت نفسي أنجر وراءها وأنا مسلوبة الإرادة... وجدت نفسي داخل وكر غريب، فإذا بالأفعى التي لم أتبين جنسها ذكرا كانت أو أنثى تلتف من حولي,,, أشعرني ذلك براحة غريبة... بمرور الزمن أحسست بوطأة الأفعى على صدري... كانت تهرصني بلذة.. بدأت أختنق...» «إن الحلم المزعج يأخذ أحيانا طابع سخرية تفضح المفارقة التي تحكم الشخصية الروائية بين صدق الباطن المسكون بالرغية المكبوتة والإنسانية المقهورة، وبين زيف الظاهر الذي يفتعل أخلاقيات ويدعيها..»2 إن ماريا تعيش صراعا نفسيا وجسديا جعلاها في حالة ذهنية مشوشة، وربما أصبح لديها نزعة نحو السحاق، فالخطة التقنية التي اتبعها الأستاذ لغتيري أي المناجاة الذاتية، أعطى بها مساحة موضوعية مستقلة للشخصية «فالمناجاة: حديث النفس للنفس، واعتراف الذات للذات، لغة حميمية تندس ضمن اللغة العامة المشتركة بين السارد والشخصيات، وتمثل الحميمية والصدق والاعتراف والبوح... وقد اغتدت المناجاة ، في أي عمل يقوم على استخدام تقنيات السرد العالية، تنهض بوظيفة لغوية وسردية لا يمكن أن ينهض بها أي مشكل سردي آخر»2 فجاءت الرواية جلها عبارة عن مناجاة داخلية عرفت القارئ على شخصية ماريا وهواجسها وتعقيداتها النفسية3. * كاتبة مغربية رواية امرأة تخشى الحب ، عن دار النايا للدراسات والنشر والتوزيع بسوريا، سنة 2013 ص: 6-11-13-45-46-73-80-84-85-86 -1 في التحليل النفسي لسيغموند فرويد، مقال عن أكاديمية علم النفس -2 الرواية المغاربية، تحولات اللغة والخطاب لعبد الحميد عقار، ص 123، شركة النشر والتوزيع، الدارالبيضاء -3 في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد، ص: 139 تأليف عبد المالك مرتاض.