- قد يتأخر بعض الكتاب في طرح أسئلة على أنفسهم قبل خوض تجربة الكتابة وهذه مسألة تتبع درجة وعيهم، ومع ذلك أقول هل ثمة أسئلة واجهت نفسك بها، ما هي؟ - بالفعل، منذ بدأت النشر وأن أحاول أن أقنع نفسي بتبني التعويذة التالية: لا تكن طاووسا ولا تكن بعوضة، في مجال الكتابة، وكن نملة وصرارا، في نفس الوقت، في حياتك اليومية! تميمة بسيطة لكنها مكنتني، لحد الآن، من الاستمرار في الحياة والكتابة بأقل الخسائر الممكنة! - في شهادتك في مهرجان العجيلي قسمت نقاد الرواية إلى أربعة أصناف، الصنف الأول: يريد أن يقرأ في الرواية الإيديولوجية التي يتبناها، والثاني لغته خالية من العلم والذوق، والثالث قراءته شكلية يتصيد ما يعتقد أنه أخطاء، والرابع وجداني يتخذ من حدسه معياراً كونياً لا يشق له غبار. ولماذا قصدت بعض التعسف عليهم؟ - هذا التصنيف كان إجرائيا فقط وكان الهدف منه أن أتمكن من إيصال فكرة بسيطة: كل أنواع النقد مفيدة للكاتب إذا عرف كيف يغربلها ويحسن الإفادة منها ولكن النقاد في الواقع ليسوا جميعا منتمين إلى أحد هذه الأصناف بشكل واضح أو مطلق: لا يخلو تصنيف من بعض التعسف، أو الاعتباطية، والأهم ألا يكون التعسف مقصودا لذاته ! -وهل تجد أن ثمة فائدة من نقد هؤلاء رغم قساوة تصنيفك؟ - لقد قلت بالحرف في ملتقى العجيلي للرواية: إن كل تلك الأنواع من النقد مفيدة للكاتب على الأقل من ناحية أنها تطرح عليه بعض الأسئلة وتدفعه إلى العودة إلى عمله مراجعة وتفحصا ولكني حين أعرف طبيعة تكوين الناقد وتوجهه أستطيع أن أستفيد منه بشكل أحسن لأني أعرف مسبقا حدوده، ما قد ينفعني عنده و ما لا ينفع أو يضر. وهكذا فإني قد أعرف من الناقد، العالم بنظريات الأدب، أو الإيديولوجيا، مدى إحساسي بزمني ونوع علاقتي بطبيعة الجنس، كجنس كوني، الذي أمارس الكتابة من خلاله و لا يهمني منه الباقي ولو سفهني أو أعلا من شأني، الخ...! ثم ختمت هذه الفكرة بالقول: هذه، بطبيعة الحال، مجرد أمثلة لتبرير ذلك التقسيم الذي قمت به لأنواع النقاد فهناك نقد آخر سريع، هو النقد الصحفي، في الغالب، ونقد متمهل لا يخرج ثمرته قبل النضج الكافي. ولكل واحد من هذين النوعين فوائد كذلك. إن الأول يعرف بعملي و لا يهمني منه أي شئ آخر بينما الثاني، ومنه قد تتشكل الأصناف الخمسة المذكورة وتتفرع، يدفعني إلى التأمل والتفكير وإعادة النظر كائنا ما كان نوعه كما سبق وذكرته. - المحكية حاضرة في رواياتك فهل تستخدمها كضرورة جمالية أم لضرورات أخرى، ولماذا في رأيك ينظر البعض للمحكية على أنها دون الفصحى جمالياً؟ - وصف الفصحى الذي نخص به العربية التقليدية، أو الكلاسيكية، حكم قيمة مسبق يرتبط بالرفع من شأن هذه اللغة على حساب كل اللغات الأخرى التي نستعملها في الإبداع والتواصل، وهو حكم ليس له أي مبرر علمي، ولاحظ أننا نستعمل في مقابله عبارة العامية! أنا أفضل عبارة الدارجة ولكن، وعلى كل حال، فإني حين أقارن، على سبيل المثال، وهنا عندنا في المغرب، بين الشعر الجاهلي وما نسميه «الملحون»، وهو شعر بالدارجة المغربية، أوبين أي شعر بالعربية تلك وبين أنواع أخرى من الشعر الدارجي، أجد أن هذه الدارجة لا تقل فصاحة عن تلك. إن ما نسميه الدارجة هو، أولا، عربية وهو، ثانيا، العربية التي نتكلم أكثر من غيرها وهو، ثالثا، اللغة الأم الحقيقية التي يتربى بها وعليها كل عربي فلنعد من هذا الاغتراب إلى ذاتنا: إن لغتنا المكتوبة اليوم هي، إلى حد كبير، نتاج تدريج العربية وتعريب الدارجة! - كيف استفدت من البحث الأكاديمي في كتابة الرواية، وهل لك أن تعطينا نموذجا على ما فعلت، وهل تتخوف من سطوة الأكاديمية على الرواية قبل أن تبدأ خطوتك؟ - كنت، في بدايتي المهنية، أستاذا للفرنسية ثم أصبحت، منذ 1975، مدرسا للفلسفة، بالثانوي، وبالجامعة، منذ 1982، وما تعلمته من هذين التخصصين كثير جدا قد انعكس، بالضرورة، على تصوري وممارستي للأدب. من ذلك أن المدرس يظل يتعلم وهو يعلم ويظل يكتسب طرق التبليغ والتواصل. وبهذا المعنى فإن الطالب، بالنسبة للأستاذ، متلق، أي قارئ محتمل، أو نموذجي، لا يمكن أن يوصل إليه شيئا إن لم يراع مواصفاته. وهذه المواصفات هي مواصفات الطالب المتوسط وليس الضعيف أو النابغة.كل أسرار مهنة التدريس تقوم على هذا السر البسيط: اكتساب مهارة التواصل مع الطالب المتوسط. وهذا هو نموذج القارئ لرواياتي، قارئ متوسط، له معرفة بالرواية لكنه ليس بالضرورة نابغة. في الفصل الدراسي تستطيع أن تساعد الطالب الضعيف، وتتواصل بسهولة مع الطالب الذكي ولكنك في الكتابة لا تستطيع أن تخاطب القارئ الذي ليست له سوى معرفة قليلة، أو منعدمة، بالرواية. وقد تجمعك الصدفة، أو ضرورات المهنة، بزميل، أو أستاذ، يفتح أمامك آفاقا لم تكن تتصورها فقد كنت أعتقد، قبل دخولي إلى مركز تكوين أساتذة الفرنسية، أني أعرف جيدا الأدب الفرنسي، وخاصة الرواية، ولكن وجود أستاذ فرنسي هناك جعلني أعيد قراءة كل ما قرأت من أجل شيء واحد: كيف يكتب الكتاب وما هو الأسلوب الذي يميز كل واحد منهم؟ سأعرف فيما بعد أن هذا أهم ما يفعله جل الكتاب وهم يقرأون الكتاب الآخرين ولكني آنذاك لم أكن كاتبا، كنت أتعلم الكتابة فقط وكنت لا أزال مترددا بين اختيار الفرنسية أم العربية بالرغم من أني نشرت مجموعتي القصصية الأولى قبل ذلك بأكثر من سنتين! هذا قليل من كثير. أما الفلسفة فستعلمني أن الرواية تحتاج إلى الحوار الوظيفي وأن الحوار لكي يكون مولدا يتطلب قدرا من التهكم، أو السخرية، يمكن الكاتب من شيء من المباعدة مع ذاته وشخوصه وأن النص الأدبي الخالي من بعد فكري ليس أدبا أو هو أدب ضعيف. أما الرواية، كجنس أدبي، فهي ليست ملحمة، ولكنها أسطورة هذا العصر: إن شخوص الرواية اليوم هم أناس مثلي ومثلك ولكن وكما كان أبطال الأساطير القديمة، أي الأبطال الممدنون، يؤسسون نماذج ومعنى للحياة، يضيئون « ظلمة» الكون، فإن أبطالنا اليوم يقاومون من أجل قيم الحياة، من أجل أن يكون الإنسان إنسانا ولا يكف عن التطور من ناحية إنسانيته، عن توسيع دائرة الضوء في عالم يزداد «ظلاما» ووحشة باستمرار. { يرى بعضهم أن الرواية في أحد أبعادها هي ما لم يستطع الكاتب أن يعيشه أو ما يطمح لأن يعيشه، هل ترى بأنها نظرة ضيقة للرواية لا تعطيها حقها بما تقدمه من معرفي وجمالي؟
لا، ليست نظرة ضيقة كليا، فيها جانب من الصواب، فالذي يركز على موضوع الرواية بذلك الشكل لا ينسى، كما أتصور، أن هناك أبعادا جمالية و معرفية في الرواية. ولكن هذه النظرة، من زاوية أخرى، فضفاضة لأنها لا تميز الرواية عن الأجناس الأخرى، مثل القصة القصيرة، أو القصيدة: إن الكاتب، أي كاتب، وفي أية ثقافة، لا يكتب سوى عن نفسه، أي أن الأدب نوع من السيرة الذاتية دائما، ولكنه سيرة وجدانية، سيرة تتعلق بكل تجارب اللذة والألم، كما يعيشها فرد أو جماعة، وبالتالي فهو ليس ترجمة حياة فقط، بمعنى أنه يكتب ليس فقط عما عاشه بالفعل ولكن عن عيوبه، وأحلامه، واستهاماته، عما هو وعما ليس هو، عما استطاع أن يكونه وعما لم يستطع أن يكونه، عن طموحه إلى أن يحقق شرطه الإنساني وعن عوائق هذا الطموح وصعوباته، الخ...وهذا هو الموضوع المفضل لكل أدب، للفن عموما، أي لا يخص الرواية وحدها ولا يكفي بالتالي لتعريفها!
{ بعد مرور عشرة أعوام من نيلك جائزة المغرب للكتاب لعام 2000 في صنف الإبداع، ما الذي حفزتك عليه الجائزة وكيف كان تأثيرها عليك؟ لا شيء، لاشيء على الإطلاق. عفوا، لقد ساعدني مبلغها المتواضع، حوالي أربعمائة دولار، على تخفيف القرض البنكي الذي كنت أصرف منه على دراسة أولادي وربما ساهمت الجائزة في تحويل تلك الرواية إلى فيلم تلفزي تلقيت عنه تعويضا بنفس قيمة الجائزة: مبلغ مهم بالنسبة إلي آنذاك!
أصدرت وزارة الثقافة المغربية منذ خمسة أعوام أعمالك الكاملة تضمنت رواياتك( فقط)، كيف تثمّن مثل هذه الخطوة، هل تعتبرها التكريم الذي يستحقه المبدع وهو حي؟ - هذه خدمة مهمة للثقافة المغربية وللكتاب المغاربة سواء كانوا أحياء أو أموات: جمع أعمالهم وتوفير ما نفذ منها، وهو كثير، لجعله في متناول القراء والباحثين ولذلك ينبغي متابعتها وليس توقيفها، ينبغي متابعتها بهدف واحد، ونية واحدة، أعني توثيق الثقافة المغربية و تقريبها من أكبر عدد ممكن من الناس ومصاحبتها بالتوجيه والمتابعة فالأمر يتعلق بذاكرتنا وبمتخيلنا. وهذا أعز وأهم ما يطلبه مبدع من قومه، بالإضافة إلى كونه واجبا وطنيا وقوميا، و هو حسب عبارتك نوع من التكريم بالفعل. وكيفما كان عمق، ومدى، النقاش الذي دار حول عبارة « الأعمال الروائية الكاملة» فإن من حسنات هذه المبادرة أنها أحيت نصوصا كانت في طريقها إلى الانقراض. وليت هذا المجهود يستمر بالنسبة لبقية الكتاب ولم لا استكمال أعمال الذين ما زالوا يكتبون؟
{ يعرف عنك أنك صاحب قناعة شخصية وتصور ذاتي لمسألة النشر داخل المغرب مع أن بعض رواياتك صدرت في بيروت، هل تسلط لنا الضوء على هذه القناعة؟ كان ذلك في وقت كانت فيه عميلة النشر قد بدأت تعرف بعض الازدهار ، مع إقبال القارئ المغربي على بعض النصوص الروائية، ومع دعم نشر الكتاب، من طرف وزارة الشؤون الثقافية، ألخ...وكان أملنا أن نشكل نوعا من الجبهة لترشيد التعامل مع هذا الكتاب لكن اليوم كم يباع من الكتاب الأدبي المغربي المطبوع في المغرب والموزع فيه؟ و إلام آلت إليه عملية دعمه؟ لحد الساعة لم نفلح حقا في إخراجه خارج حدودنا إلا بواسطة بعض المعارض في البلدان العربية! ثم إنك إن استطعت أن تنشر كتابا واحدا في السنة، أي أن تنشر بوتيرة معينة، سيعتبرك الكثيرون عندنا مجنونا أو لا تحترم نفسك: كتاب كل سنة، بدعة، كأن من يواظب على الكتابة والنشر ينشر كل ما يكتب في نفس السنة، بينما أنا، على سبيل المثال، ولكي لا أتحمل مسؤولية كلام أحد غيري، أكتب العمل الواحد ثلاث أو أربع مرات، بمعنى أنه يتطلب مني، إلا نادرا، ثلاث أو أربع سنوات بمعدل أربعة إلى ستة أشهر في السنة! أضف إلى ذلك أن انفتاح المشرق علينا قد تتطور بدوره فلم لا أعود إليه فأنشر في سوريا، مثلا، وفي مصر وغيرهما ما دام كتابي يصل إلى المغرب وبجودة أفضل في غالب الأحيان؟ ولكن هذه القناعة، التي أشرت إليها، قد تم تجزيئها أو تشويهها فأنا حينها كنت أتحدث عن «رواية مغربية» وليس فقط عن النشر في المغرب. كنت أقول إن الروائي المغربي، الذي يكتب من بلده، كما يكتب سوري، أو مصري، أو لبناني، أو سوداني، محكوم عليه بأن يكتب عن الإنسان في بلده، ولكن بمواد من هذا البلد وعلى رأس هذه المواد، أو المكونات، اللغة وخاصة الدارجة منها. إني أستعمل هذه الدارجة لضرورات تعبيرية وجمالية وحتى إن لم أستعملها بشكل مباشر فهي موجودة في قلب العربية التي أكتب بها. ولقد أثارت هذه القضية نقاشا، واعتراضا مبدئيا، حتى داخل المغرب لأسباب عديدة ووصل الحوار بيني وبين أصدقاء لي في المشرق إلى درجة قولهم لي: مالذي تقوله بالدارجة ولا تستطيع قوله بالعربية الكلاسيكية سوى أنك توسع من دائرة سوء التواصل بيننا وبينكم؟ كأن مثل هذا الكاتب المصري، أو السوري، أو اللبناني لم يتأمل، أو يتفحص، اللغة التي يكتب بها وكأني كاتب بالدارجة، كأني أول من فعل هذا في المغرب، كأن بلدانا عربية أخرى لم تعرف، ولا تعرف مثل هذه القضية، فلا يطرح الأمر إلا على الكتاب المغربي، ناهيك عن الأغنية المغربية! اليوم لم يعد هذا الإشكال قائما، على الأقل بالصورة التي كان عليها، سواء في المغرب أو خارجه، تطور الأمر من الجهتين. لكل هذا قررت أن أعود إلى النشر بالمشرق وقد سرني أن روايتي الأخيرة، المنشورة، بدار الحوار بسوريا، رغم كثرة الدارجة المغربية فيها، لم تعترضها أية صعوبة تذكر في تلقيها: إني أرجع إلى نفس الساحة الرحبة التي انطلقت منها بعد أن غادرتها للتفرغ لقضية!
{ كيف ترى مفهوم القارىء اليوم ومن هو هذا القارىء للرواية؟ ولمن يكتب الميلودي شغموم رواياته؟ ذاتيا، إنه قارئ يشبهني كثيرا، قارئ لا يفتح رواية لينام ويحب النصوص المليئة بالوجدان، ولكن غير الخالية من الفكر، النصوص التي توفر متعة الجمال وترفع من الذوق كما توفر لذة الفكر والبناء، يحلم مثلي بقراءة نص من هذا النوع كما أحلم أنا بكتابته مكتملا ذات يوم! أما موضوعيا، فإنه يشبه ذلك الطالب الباحث، المتوسط، الذي تحدثنا عنه سابقا، مع عينة لا بأس بها من المتفوقين، قارئ جاد، مواظب ومتابع، محاور جيد، فضولي كبير!
{ هل ترحب بتحويل رواية من أعمالك لفيلم سينمائي، أو تطمح لذلك ، ولماذا في حالتي الموافقة أو عدمها؟ السينما، وحتى التلفزيون، قد تعطي لرواية ما بعض الشهرة و الذيوع وتساهم في التعريف بالكاتب ولكن ينبغي أن يكون الكاتب مستعدا لتلقي قراءة أخرى لعمله، فالكتابة السينمائية غير الكتابة الروائية، وألا يضجر وهو يشاهد روايته وقد تحولت إلى شيء قد لا يتعرف فيه عليها. ومع هذه الواقعية فإن التعاون بين الروائيين والسينمائيين في المغرب ما زال بعيدا رغم كل هذا الضجيج الذي يثار حول السينما المغربية ورغم كل الأموال التي تصرف عليها سنويا من المال العام لأن العديد من السينمائيين متطفلون عليها ولأن أكثرهم لا يقرأ بالعربية ولأن بعضهم لا يقرأ بالمرة و لا ينبغي أن تفاجأ إذن إذا قرأت أ و سمعت أحد هؤلاء يصرح: ليس عندنا رواية، ولا قصة، في المغرب! هل معنى ذلك أنه قد أصبحت عندنا سينما في المغرب؟ فرق كبير بين أن تكتب على شريطك «فيلم» وبين أن يكون فيلما بالفعل وهو الأمر نفسه الذي يحدث لنا في الرواية، أو القصة، وحتى في الشعر! وبطبيعة الحال، فإن هذا الكلام لا يقلل من قيمة بعض سينمائيينا الحقيقيين وأكثرهم اليوم شباب نأمل أن يعرفوا كيف يربطوا علاقات مثمرة مع مختلف أشكال الإبداع في المغرب!
{ هل من الجائز أن نسألك لماذا لم تخلص للزوجة الأدبية الأولى القصة، أي ما هي دوافع خيانتك لها؟ إذا سمحت لي بأن أمازحك فإن لا أحد يظل مخلصا طول عمره للزوجة الأولى! ولكن هذه مجردة مزحة، كما قلت، آمل ألا تكون ثقيلة، أما في الواقع فأنا لم أنقطع عن كتابة القصة. وهكذا فإن من يزر موقعي على الويب سيجد مجموعتين قصصيتين لم أنشرهما بعد كمجموعتين، بل لم أنشر منهما، في الجرائد والمجلات، سوى القليل جدا. لقد ارتبطت عندنا في المغرب القصة، القصيرة على الخصوص، بالصحف والدوريات وكان الواحد منا يجمع، بعد سنوات، هذه القصص ثم يصدرها في كتاب. وأنا لم تعد تروقني هذه العملية المزدوجة: إذا نشرت قصة منفردة فلا ضرورة لأن أضيفها إلى قصص أخرى لأخرج منها كتابا. لقد نشرت وانتهى أمرها بالنسبة إلي ومن الأفضل أن أفكر في نشر شيئ آخر. و القصة القصيرة ترتبط عندي بتجاربي و مشاهداتي، فيها الكثير من السيرة، على عكس الرواية التي فيها الكثير من التخييل.لذلك يبدو لي أحيانا، فأقول وأكرر، و من غير أن أكون متأكدا تماما من ذلك، أني في كتابة القصة أكون أقرب إلى السيرة الذاتية، ففي كل القصص التي كتبت، و خاصة الأخيرة ، و التي لم أنشر إلا القليل منها، أجد عناصر كثيرة من سيرتي، و محيطي الوجداني، بينما في الرواية أحس بأني أكتب أكثر عن غيري، عن المجتمع، وكأن القصة سيرتي الشخصية بينما الرواية سيرتي المجتمعية. و في الرواية نكون كذلك و كأننا نبني بيتا بكامله، بكل شروط و أدوات بناء مسكن أو دار، وبكل ما يلزم من تجهيزات، بينما في القصة نكون كمن يبني بيتا متكاملا في غرفة واحدة. وفي هذه الغرفة الوحيدة ينبغي أن تتوفر جميع الشروط البيتية الضرورية لحياة إنسان أو أسرة.لهذا قد نحتاج في القصة القصيرة إلى الكثير من الأثاث الذاتي لتعويض الأثاث المادي الذي لا يتسع له فضاؤها. هذا على كل حال ما أشعر به وأنا أكتب القصة: لا أحب المفاضلة بينهما كأنهما جنسان مختلفان كل الاختلاف!