تجردت من أحاسيسك يا كتلة الأجور، وضاعت كرامتك وأنت تستخلصين المال نهاية كل شهر، بينما ينعتك كل المسؤولين أنك أنت سبب البلاء وسبب الأزمة الخانقة وارتفاع العجز والدين العمومي. ميزانية الدولة مثقلة، جيوش من الموظفين تنتقل كل صباح من مقرات سكناها إلى مقرات عملها، منها من يعمل ومنها من أصابها العطب فهي تحضر ولا تعمل أو تعمل أكثر مما تتقاضى أو تتقاضى أكثر مما تعمل، والغريب أنه مازال من بينها أشباح تتقاضى أجورا من غير أن تُرى، والكل يترقى ويرتقي. من أغرق الجماعات الحضرية والقروية بالموظفين وأشباه الموظفين؟ من فتح أبواب المناصب المالية ونوافذها وأبوابها الخلفية للرفقاء والعائلة والمقربين ومناضلي الحزب؟ وحين تفتقت عبقرية المسؤولين اقترحوا عملية "المغادرة الطوعية" للتخفيف من الانفاق العمومي على مستوى الأجور، لكن سرعان ما طالعنا نفس المسؤولين، سنوات بعد ذلك، بأرقام عن ارتفاع كتلة الأجور، والمحصِّلة إدارة ومواطن وموظف يتبادلون التهم، ولا أحد يدين بالمعروف للآخر، الكل جاحد: الادارة بالنسبة للموظف لاخير فيها ولاتقابل إخلاصك وإحسانك في العمل إلا بالجفاء، والمواطن يدعي أن الموظف لايفعل شيئا ويتهمه مسبقا بالزبونية والمحسوبية والرشوة أما الادارة فكل مسؤولين يتهمه مرؤوسيه بالتقصير والاخلال. رغم هذا الارث الثقيل، تسعى الدولة منذ سنوات إلى تحديث إدارتها انسجاما مع الحركية التي يشهدها العالم من حولنا من جهة، ووفاء بالالتزامات الناشئة عن تصديقها على مجموعة من المعاهدات والمواثيق الدولين الرامية إلى تعزيز حقوق الانسان. هذه المشاريع تستهدف بالأساس رقمنة الادارة وحوسبتها بجعلها إدارة الكترونية مرنة، لكن تنزيل هذه المشاريع لم يكن بنفس الوتيرة، فأفرز لنا إدارات تتقدم بايقاعات مختلفة، فتباين مستوى التدبير بين إدارة وأخرى وبين قطاع وآخر، ولعل الادارات الحيوية والحساسة حظيت بالعناية بينما تخلفت مجموعة من الادارات الأخرى عن الموعد ولايعرف السبب الحقيقي هل هو غياب الارادة الحقيقية لدى المسؤولين أم هي مقاومة التغيير التي تطبع عقلية البشر عموما والموظفين بشكل خاص (مشروع مسار نموذجا)؟ كل هذه المعطيات جعلت من الوظيفة بالقطاع العام مصدر جذب للحالمين بالوصول إلى بر الأمان، ولمن يريد أن يحظى بمنصب لا يسأل فيه عن المردودية والنجاعة والفعالية بل وحتى الغياب في أحايين كثيرة، فالتشريعات الادارية لم تفلح في إقرار نظام منصف للترقي على أساس الكفاءة والمردودية، بل لازالت الأنظمة الأساسية تكافئ الشواهد والدبلومات فقط، في حين لا يحظى المواطن /المرتفق بخدمات إدارية وتربوية وصحية في المستوى، ولا حقَّ له في الشكوى إلا إلى الله. لقد كانت دول إلى حدود التسعينيات من القرن الماضي (كندا نموذجا)، أكثر مديونية وبادارة بيروقراطية غارقة في التخلف لا تنتج سوى تذمر الناس، لكنها حددت لنفسها استراتيجية عشرية للتغيير فاستطاعت أن تكسب الرهان وتحسن خدماتها من خلال تحقيق أقصى ما يمكن بأقل ما يمكن. هذه النماذج وجب أن نستلهم منها، لان التحديات القادمة صارت تكبر خاصة مع تناقص الموارد المالية مقابل ارتفاع الحاجيات، مما يتطلب تثمينا اكبر لمواردنا البشرية وتغيير النظرة بمقاربتها كموارد لا ككتلة أجور. نحتاج أيضا لترشيد النفقات لانه لا يعقل أن تمنح السيارات بسخاء للمسؤولين وذويهم، يتنقلون ليلا ونهارا وأيام العطل في حين تعجز مجموعة من الادارات عن تأمين وسيلة نقل لموظفيها للقيام بمهام إدارية. قديما قال الحكماء :" حسنُ التدبير نصفُ الكسب، وهو نصف المعيشة".