أكبر صدمة قد يتلقاها قائد جيش ترابط وحداته على حدود تحفها الأخطار من كل جانب أن تبلغه استعلاماته العسكرية أن رجاله الذين انتقاهم واحدا واحدا ودربهم أحسن تدريب وجعل منهم أسودا في الصحراء ونمورا في الغابة والذين علمهم الشدة على العدو والرحمة بينهم، رجاله الذين يستعيذ بهم على أعداء البلاد الكثر والذين يظن أنه بإمكانه النوم ملأ جفونه لأن جنوده لا يغمض لهم جفن، يرفعون السلاح في أوجه بعضهم البعض داخل ثكناتهم الحدودية بعد أن يكون الكحول قد لعب بعقولهم، بل الأمر أنه عندما يأمر بإجراء تحقيق في الأمر لاستجلاء السبب يكتشف أن الاقتتال سببه حنق بعض الجنود وسخطهم إثر عمليات إعادة انتشار عادية تم خلالها تكليف وحدات جديدة بقيادة مواقع استراتيجية يعتبر هؤلاء أنهم الأحق بالظفر بها لأنهم هم من حرروها من براثن العدو .. ما مناسبة القول؟ إنه ما شهدته غير ما مرة أثناء التجوال بين حيطان العالم الأزرق من آثار هجومات جارحة لمجموعة من المنتسبين للعدالة والتنمية على .. زملاء لهم في الحزب ! وكم مرة طالت النيران كل من سولت له نفسه نصرة المهاجَم بل وحتى أولئك الذين تدخلوا للدعوة إلى الهدوء و"لعن الشيطان" ! ما فاجأني وأفزعني في الأمر ليس هو الخصام وتبادل الاتهامات لأن الاختلاف هو الأصل ولأنه لا تخلو جماعة بشرية من صراع بين مكوناتها بل وبه تتحرك الجماعة وتبرز قوتها ومكانتها ولكن الأسلوب والسلوكات التي رافقت ذلك والتي تنم عن عدم انضباط تنظيمي إذا اعتبرنا انتماء أصحابها المؤسساتي وعن كارثة أخلاقية واضحة بالنظر إلى "المرجعية الإسلامية" التي يدعي هؤلاء الانتماء إليها. أينهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (والمنكر هو ما نسميه نحن المغاربة بالشوهة)، ومن النهي عن الغيبة ومن النهي عن تبادل السباب ومن النهي القرآني عن التنابز بالألقاب؟ ألم يفكر هؤلاء في عواقب فعلتهم المخزية وأقوالهم المشينة على سمعة حزبهم وحركتهم وسمعة المنتميين إليهما؟ أين هم من باب إتمام مكارم الأخلاق؟ ولننظر للأمر من باب السياسة. عندما تطلع على ساحة المعركة يتبين لك أن غضب المهاجمين اشتعل عندما نظم رئيس الحكومة قبل أسابيع عشاء بطاطسيا بسيطا على شرف بعض الشباب الذين اعتبروا مؤثرين في الفايسبوك لاستطلاع رأيهم حول الراهن المغربي، فثارت ثائرة المهاجمين الذي رأوا في الأمر إقصاء لهم بصفتهم أبناء الحزب بل ومنهم من ذهب إلى حد القول إن قيادة الحزب تعتبرهم مجرد جنود أو حطب انتخابي وأن الامتيازات يستفيد منها المقربون وذوي النسب .. إنه منطق الغنيمة ! المنطق الذي استولى على تاريخ الدولة الإسلامية وقسمها إلى شيعة وآل بيت وسنة ورهن مستقبلها للتطاحنات الايديولوجية وجعل حاضرها إحياء دائم لزمن الفتنة الكبرى. لست من المنتسبين للحزب أو أعضائه رغم تعاطفي معه السياسي ولكن لا يشرفني بتاتا أن أضم صوتي السياسي إلى صوت أعضاءه إذا كانت الغنيمة محرك انتمائهم الحزبي لأنهم بذلك يكونون أبعد ما يتصورون عن فكرة النهضة وعن روح الحداثة وعن مبادئ العدل والحق والقانون. ألم يسأل أحدهم نفسه ولو سرا أين هو من المبدإ السامي الذي وضع عمر أساسه الفلسفي بقوله "إننا لا نولي أمرنا هذا من يطلبه"؟ هل يوجد حزب في البلاد التي تعتبر منارات للعدل والمساواة تجد أعضاءه يميزون بين بعضهم على أساس الأقدمية وما يصطلح عليه في بلاد القبلية المقنعة، بلداننا، بالشرعية النضالية؟ إنه شكل منمق لنفس الثقافة التي يرزح تحتها المغرب منذ قرون، ثقافة "الشريف" الذي ورث شجرة نسب مزورة يستعبد بها قبيلة أو مدينة بأسرها بدعوى النسب الشريف، ثقافة بطاقة المقاوم التي تخول الحق في الولوج إلى امتيازات شتى بدعوى شرعية مقاومة المستعمر، ثقافة "الكريمة" التي تغني من يلتقي الملك ويحصل منه على رخصة سيارة أجرة عن العمل والكد بل وحتى عن التقيد بقانون السير لأنه حاصل على "كريمة سيدنا" لنصل اليوم في حلة ما بعد الحداثة المغربية إلى الشرعية النضالية التي تعطي العضو المؤسس الأولية على القادم الجديد المتطفل .. منذ متى كان المقاوم والمناضل متعاليين متساميين فوق العباد ويطالبان بالمقابل على نضالهما؟ ما الذي دفعهما إلى النضال والمقاومة غير نكران الذات؟ ثم لننظر للأمر من باب "قل سيروا في الأرض فانظرو كيف كانت عاقبة الذي من قبلكم"، ومن قبلهم الذين أقصدهم بالتذكير ليسوا بالبعيدين عنا كل البعد لا وقتا ولا زمنا. إنهم آل حزب أحرق رصيده النضالي وتنازل عن طوع نفس عن جماهيره التي أسالت دماءها دعما له، إنه حزب الاتحاد الاشتراكي. وإذا لم يكونوا على علم بتاريخه فليسألوا عن الذين سبقوهم لمنطق الغنيمة السياسية وكيف انقسم الرفاق مباشرة بعد مفاوضات اكس ليبان وهم مازالوا في كنف حزب الاستقلال إلى نخبتين: النخبة الفاسية التي كان يزعمها علال الفاسي والنخبة الرباطية التي كان قائدها المهدي بن بركة. بطبيعة الحال، وكما يعرف الجميع دشن هذا التطاحن الايديولوجي المحض سلسلة من الانشطارات (من الاستقلال إلى الاتحاد الوطني إلى الاتحاد الاشتراكي إلى الطليعة …) جعل كل الأحزاب المذكورة تحرق نفسها بنفسها بسبب إيديولوجياتها المتعالية التي لم تمت يوما لمجتمع كان أغلبه من سكان البوادي شيئا بل ركزت لدى هذا الأخير فكرة مفادها أن تلك الأحزاب إرث استعماري فرنسي. واليوم، وما لا يعرفه المشاحنون المتطاحنون المطالبون بالغنيمة من طاجين البطاطس أن حزبهم يعتبر أول حزب حضري في المغرب بمعنى أنه تقوى في سياق انقلب فيه الثقل الديموغرافي من البادية إلى المدينة لأول مرة في تاريخ المغرب وأصبح صوت المدينة أقوى سياسيا وهو المعطى الذي كانت تحلم به العائلات اليسارية كثيرا ولم يتحقق لها فكانت تعتبر أن البادية معقل المخزن وعدو الحداثة، فهل يعتبر أولو الألباب ويتعلموا من أخطاء من سلفهم ويتحملوا مسؤوليتهم في دعم قاطرة التغيير السياسي أم أنهم سيفنون زهرة العمر في الذود عن الغنائم السياسية والتعالي على المجتمع؟
وبالعودة إلى صاحبنا قائد الجيش، فإنه يتحمل مسؤولية تصويب المسار وهو ما لا يكون دون تطبيق صارم للقانون في حق كل من ثبت إخلاله بالنظام العام وبالقانون ومن حمل سلاحه في وجه أخيه ولو بالطرد.