طلعت علينا جريدة "التجديد" : (جريدة من لا جريدة له)، بافتتاحية –في الآونة الأخيرة- تدافع فيها عن حرية التعبير، حرية أن يبدي العلماء رأيهم في ما يَجِدُّ، ويستجد ويطرأ في الواقع المجتمعي والمعيش للناس، من دون حِجْرٍ ولا قيد، بدعوى أن تلك الآراء إما أن تقبل أو ترفص جملة وتفصيلا، لأنها آراء "فقهية" تصدر عن أشخاص سواء كانوا أهل علم أو غير ذلك، لا يلزم الأمة. ويبدو أن الجريدة انتصبت متخصصة في المنافحة والدفاع عن "العلماء"، ذائدة عن ملعبهم ولعبهم، مستقوية بالحزب الإسلامي الذي يقود الحكومة، ما دامت لسانه، وصوته الدعوي والإعلامي. أما مناسبة الافتتاحية، فهي –كما لا يخفى- سيل الفتاوى، وتكاثر الوعظ والإرشاد، والزعيق المتفيقه في المساجد، والدور التي تتخذ أفضية وأمكنة للشطح والردح، والإرغاء والإزباد، ما دفع جبهة الحداثيين إلى التصدي لها، والكشف عن خطلها وسخفها، وما أثار حفيظة الجريدة، فسارعت إلى نصرة إخوانها وأتباعها، ناسية أو متناسية ما يوسم به أصحاب الفكر الحر من لدن هذه الطائفة، وما يرمون به من أقدح النعوت والصفات، والاتهامات. وللمرء أن يستغرب مما يحدث، ولما يقع، ويأخذه العجب العجاب. فكيف يبيح البعض لنفسه أن يفتي بالغرائبي والبدائي، والمذل، والحاط بالكرامة الإنسانية، ثم يجد من يدفع عنه النقد والتسفيه، بدعوى احترام حقه في التعبير، وحريته في الإرشاد والتجيير. وبحجة أن كل تسفيه لمثل هذه الفتاوى، والترهات الفارغة، هو مصادرة ومنع وتكميم لأفواه "العلماء" (كذا). فهل دعوة المجلس العلمي الأعلى، إلى التدخل قبل أن يستفحل أمر هذا الجهل.. أمر هذه الفتاوى الشبقية المرضية، استعداء للمجلس على هذه "النوعية" من الفقهاء؟ وتحريض له على إسكات صوت "العقل" و"المعرفة" و"الاجتهاد" و"التقدم"؟ لنقلب المعادلة، ونسأل "التجديد" عن رأيها في من "يفتي" من العلمانيين بوجوب حلق اللحى، ونزع الحجاب، ونبذ التَّجَلْبُب، والإقبال على "التهندم"، والاختلاف إلى العمل الإداري والعمومي اليومي خدمة للمواطنين، وإنهاضا للبلاد التي تعاني من عقابيل التخلف والتأخر في كل الميادين والمجالات قياسا إلى جاراتها، وإلى بلدان عربية وأسيوية، كانت بالأمس القريب أقل تنمية منا، وأقل تطورا؟ مع ما يتطلبه هذا الاختلاف والمواظبة من ابتعاد عن تأدية الفرائض الجماعية (الصلاة مثلا)، وتركيمها حتى العودة مساء إلى المنازل؟ ما دام أن هذه الأفكار تندرج ضمن حرية الرأي والتفكير، والحق في التعبير؟. فماذا هي قائلة؟ هل تعتبر كلاما كهذا حرية تعبير، أم تعتبر أصحابه كفارا مارقين، لأنهم يريدون إسقاط "شرع الله"؟ا لكن –رويدك- فإن الحداثيين – ليبيراليين واشتراكيين- لا يفكرون- البتة- في هذه المسائل التي هي قناعات خاصة، واختيارات شخصية، وممارسات، وصفات لا دخل لأحد في تغييرها أو زحزحتها أو تعديلها، لأنها أدخل ما تكون في الحرية الشخصية، وهي أس نضالية القوى الحية، قوى المستقبل والفرح والحياة. بيد أن تشريع الحرية ودعمها في الترهات التي أشرنا إليها في مدخل المقال، هو دعم للبؤس الفكري، والرداءة المتعالمة الفاقعة، ومساهمة واعية – بكل تأكيد- في إلهاء الناس وصرفهم عن انتظاراتهم، وطلباتهم من الحكومة الملتحية، والأحزاب الداعمة لها. وإذا كانت "التجديد" تشير إلى "أن هناك إقبالا متزايدا على الدين، كما أكدت ذلك حقائق السوسيولوجيا، وبالأخص "الجواب الديني"، مما يعني أن الفتوى أصبحت تشكل خدمة اجتماعية بامتياز"، فلأن الدين كان ولا يزال، وسيظل = سواء أتعلق الأمر بالديانة اليهودية أو الديانة المسيحية، أو الديانة الإسلامية، أو العقائد الأرضية الأخرى مثل البوذية والطاوية والكونفوشية، واحة واستطابة للمتعالي، وتشوفا من لدن الكثيرين- إلى الجنة الموعودة، وملاذا للضعفاء والمعوزين، ومعذبي الأرض، وملجأ وفيئا للباحثين عن الطمأنينة الروحية، والسكينة النفسية، هربا من جمر الواقع الملتهب، وشوك الشك الواخز والقاتل، وصداع القلق العاتي. ينبغي أن نسلم بأن انتماءنا للإسلام، وَتَبَنُّكَ مكانة دينية ضمنه، لا يمنحنا الحق في التطويح بالآراء الشاذة، والأفكار المنكرة، ورميها ذات اليمين وذات الشمال، والقيام بتمثيل أدوار فجة داخل مسرحيات سمجة و"حامضة" للتأثير في العامة، مستهدفين استغلال خشيتهم وخوفهم من الله، وقلة زادهم المعرفي، إن لم تكن أميتهم الضاربة والظالمة والتي تسدل سجفا من الجهل، وسهولة الاستدراج إلى ترهات هاته "الغرانيق" التي لا تعيا من الإفتاء كما لو أنها تُوَقَوقُ وتبيض آناء الليل وأطراف النهار. أعرف أن مبدأ : (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) هو أساس الحريات عند المودودي، وعند سيد قطب. ولاشك أن تداعيات هذا المبدأ، هذا المنظور الديني، شكل ويشكل خلفية معرفية وفقهية هادية ومرشدة لكثير من الأصوليين، وانتقل إلى مضامين خطاباتهم، وأدبياتهم الفقهية والتربوية. وإذا كنا نفهم – من دون كبير عناء- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يتجليان في الدعوة إلى الفضائل والأخلاق الحميدة، وحسن المعاملة، وتمتين عرى الأواصر والصلات بين الأفراد والعوائل والجماعات والأقارب، والناس، والتضامن والتلاحم في السراء والضراء، ونبذ المنكرات التي تتجلى –أساسا- في الفتنة، والاقتتال بين الإخوة، والرشاوى، واختلاس المال العام، والظلم المجتمعي، والفقر المستشري، والأمية المتفشية، إذا كنا نفهم هذا وغيره كثير، فأين نضع فتاوى الزمزمي، والمغراوي ونهاري؟ أليست هي المنكر بعينه؟ كيف لا؟ وهي فتاوى تنطوي – بالواضح لا بالمرموز- على إشارات دالة على التحريض والتحشيد والتجييش؟ فضلا عن أنها فتاوى بليدة تعاكس تيار التقدم، وتريد أن توقف عجلة التاريخ، وترتد بنا إلى عصور الانحطاط حيث سادت الخرافة والشعوذة، والطرقية، والكرامات والأوبئة، وطابو "المقدسات". بالله عليكم – أفيدونا إن كان بنا عَيٌّ أو بُقْيا فَهَاهَة، واعتياص في الفهم والغوص؟ لماذا هذه الفتاوى في هذا الوقت بالذات؟ هل هذه صَحْوة إسلامية، أم إفاقة مترنحة بعد سبات في الهزيع الأخير من ليل الحضارات؟ ماذا يفيد ويعني الإفتاء بجواز شرب المرأة الحامل للخمر بدافع الوحم؟ وجواز مجامعة الرجل لزوجة – جثة فارقتها الروح؟ أو تلك الفتاوى التي تقضي بتزويج ذوات تسع سنوات، وممارسة الجنس بالخضروات المنتصبة كالجزر والخيار والباذنجان، والآلات الحديدية أو النحاسية المستعملة كيد المهراز (المهراس)، اتقاء للزنا أو مضاجعة الشيطان، والافتاء بإرضاع الكبير في القرن الحادي والعشرين : (أتصور أن الإفتاء الأخير إذا تم تنزيله وتطبيقه على الأرض، سيتطلب استنفارا للقوات العمومية لتنظم الصفوف والدفوف حيث الحشود والجموع، والطوابير أمام أبواب الإدارات والمصانع والمعامل والشركات، تتََنَاكَبُ، وتتدافع من أجل أن تظفر بحصتها من الرضاعة- خمس رَضَعَات للواحد- من نساء مصطفات كاشفات عن أثدائهن ينتظرن المَاصِّين، والمَاصُّون جياع وعطاشى –وَأَيْمُ الله- منذ دهور، وقد حررتهم الفتوى العظيمة، والفتح الديني الفقهي المبين، من كبتهم الذي طال واستطال، ومكنتهم – بعد صبر وانتظار تاريخيين – من إطفاء ظمإ مكين، وعطش مقيم !. إن هذه الفتاوى المقززة، والبدائية، والتي تضحك ربات الحداد البواكيا على رأي شاعرنا المتنبي، تسائلنا جميعا، تسائل في البدء :الحرية المنفلتة، فالأمر دين قبل كل شيء، والدين يمثل المخزون النفسي والروحي لعامة الناس. كما تُسَائِلُ أصحاب القرار السياسي، والمجلس العلمي الأعلى، وطبقة العلماء المتنورين، والانتلجنسيا الحداثية والديمقراطية. فإلى متى نظل متفرجين، نقهقه حتى تبدو نواجذنا، ونهز أكتافنا شماتة واستهزاء، ونلوي شفاهنا ونعضها سخرية وتهكما.. ؟ ألم يحن الوقت بعد لإيقاف الخزعبلات والخرجات البهلوانية التي تعكس –كما قلنا- بؤسا فكريا، وفراغا معرفيا، وذهولا عن العصر، واضطرابا سيكولوجيا، وعلما محنطا ومقمطا في أسمال بهتت وحالت إذ ولى زمنها وعصرها، كما تعكس انفصالا وانفصاما عما يجري من تطورات وتحولات وتبدلات في الفكر والعلم والأدب والاختراع، والقيم والسلوك، وعلى مستوى الأسر النووية، ومجتمع العلم والمعرفة، الذي شرعت العولمة والرقمنة في ابتنائه وتشييده، وإطلاقه ضدا على الهوية الواحدية، الهوية المغلقة، الهوية الميتافيزيقية. ألا تسيئ هذه الفتاوى –في الأول والأخير- إلى الدين الإسلامي، ما دامت تصدر عمن يعتبر نفسه مختصا في فقه "النوازل" كدت أقول: فقه "الزَّوْبعات الفنجانية" والطواحين الدونكيشوطية" و الكوابيس المباغتة والزلازل. "نوازل" أم "نزلات" حمى شارفت بِمسكونها على حافة الهذيان، وحرف الهلوسة واللخبطة. أما وأن الزمزمي، ومن هم معه وفي صفه، إذ هو –كما يجب أن نعلم- رئيس الجمعية المغربية للدراسات والبحوث في فقه النوازل – يصر (يصرون) على تفقيس وتفريخ الفتاوى الخرقاء والمضحكة، فقد جعلني أخلص إلى أننا أمام أمرين لا ثالث لهما : -إما أن الرجل فقد ملكة التمييز والاتزان والميزان، فأصبح يخبط خبط عشواء، ما يدعونا إلى الدعاء له بالشفاء العاجل، والعافية السابغة، وحسن الختام. -وإما أنه في كامل وعيه، يدرك ما يفعل، ويعي تمام الوعي ما يقوم به، وما يأتيه، إذ بخرجاته تلك، يتغيا إثارة الانتباه، ولفت الأنظار، ما يجعله "ماليء الدنيا وشاغل الناس"، ومن ثم، فلا مفر من أن نقول له بالفم "المليان" : اتق الله في نفسك، وفي مقربيك، وفي بلد يسمى المغرب، يعج بالعلماء والمثقفين، والفئات المتعلمة المتنورة، والقوى المجتمعية الديمقراطية الحية: قوى نسائية، وقوى حقوقية، وقوى سياسية، وقوى ثقافية. أليس هؤلاء الذين ذكرنا قمينين بالاحترام والتقدير والاعتبار؟ أم أنك تطوح بهكذا تعاليم وافتاءات وأفكار، مثل حاطب ليل، أو مُسَرْنَمٍ، فوق دوخته لا يلام؟ ختاما، أين هؤلاء السلفيون الجدد الذين يعيشون عصرا فَوَّارًا مَوَّارا بالفتوحات العلمية والطبية والفكرية والفلسفية، والإبداعية، والفنية، من سلفيينا الصالحين الذين أَفْتَوا بالنهوض من الكبوة التاريخية، والانخراط في العصر بملاحقة ما يجري ويحدث لدى الغرب، لدى الآخر، وبالحفاظ – في الآن عينه- على مقوماتنا الإسلامية المشرقة، أي على مغايرتنا من دون انغلاق، بما يفيد الاختلاف الباني، والتنافذ الخلاق، والثراء الثقافي، والهويات المتفاعلة المتراكبة، لا الهويات المتقاتلة المتحاربة، الهويات الماحية للأخرى، والاستعلائية. أينهم –أقول- من الأفغاني والكواكبي وعبده وأبي شعيب الدكالي، ومحمد بن العربي العلوي، والمختار السوسي، وعلال الفاسي، وعبد الله كنون، وغيرهم، من دون أن نذكر علماء آخرين معاصرين لنا يعملون في صمت، ويفيدون بأريحية علمية ودينية، ونكران ذات. أولئك الذين أضاءوا بسعيهم الفاتح، وعلمهم، وانغماسهم في أتون المجتمع، مرشدين إلى ما به يكون النهوض التاريخي من العثار والتخلف،عبر تجديد الدين والإفادة من الغرب، محاربين الطرقية البالية، والصوفية "المرقعة" و"المدروشة". هؤلاء الذين ميزوا –إلى حد ما- "ما بين عقل المطلقات، وعقل الواقعات المرتبط بالممارسات المتجددة للإنسان" إذا استسعفنا بمقولة المفكر والمؤرخ عبد الله العروي، مع استحضار اللحظة التاريخية –آنئذ- ومحدودية تجذير مواقف السلف المذكور من العصر والتحديث و التراث والغرب، إذ كانت الحلول التي وظفوها بإزاء الواقع والفكر والتربية، وقضايا اجتماعية أخرى، حلولا وسطى توفيقية وتلفيقية في بعض الأحيان. فالمفتون "العباقرة" و"الجهابذة" الجدد، يعارضون بدعاواهم كل مظاهر التجديد والتحديث والحداثة، مع أنهم منها وبها يََنْعَمُون وَيَتَنَعَّمُون، لكن عليهم أن يعوا درس العروي جيدا: "لا يمكن معارضة الحداثة إلا بتجاوزها، ولا يمكن تجاوزها إلا باستيعابها". إشارة : فتاوى ما تحت الحزام، فتاوى الشبق التي لا يخلو منه قطر من الأقطار العربية التي ابتليت بزمرة من المتفيقهين، الذين يعتبرون المرأة كائنا دونيا على رغم دحض عملها وعلمها للمخيال الذكوري المتفيقه المريض. فعلى غرار فتاوى الزمزمي التي سارت بذكرها الركبان، هناك فتوى شَرَّعَها فقهاء العربية السعودية، يطلق عليها : (زواج المسيار). وهذه الفتوى "التاريخية" شرعها مجمع الفقه الإسلامي بالسعودية، وسط احتجاج كبير وواسع من قبل النساء السعوديات المثقفات والحقوقيات. أما زواج المسيار" هذا – يرحمكم الله- فهو زواج مؤقت لمدة محدودة، مقابل مبلغ من المال (أليس هذا النوع من الزواج أقرب إلى الدعارة منه إلى الزواج الشرعي الذي جعله الله والإجتماع الإنساني مودة ورحمة بين الأنثى والذكر؟. وإلا غام الحد واختلط الجد بين سفاد الديكة وحب البشر ) .