في كل مرة يزور فيها الملك محمد السادس دول إفريقيا الغربية، تثير حفاوة الاستقبال، التي يخصونه بها مُواطنُوها، انبهار المتتبعين خصوصا من المراقبين السياسيين الدوليين. وبدا ذلك بشكل كبير خلال الزيارات الملكية الأخيرة للسينغال والكوت ديفوار والغابون وغينيا بيساو، والتي استغرقت زهاء الشهر. وهو ما جعل هؤلاء المراقبين يتساءلون: ما سرُّ هذا الاستقبال الشعبي "الاستثنائي" الذي يحظى به العاهل المغربي بهذه الدول؟ في جوابه على هذا السؤال، يقول الباحث في التاريخ والمهتم بالقضايا الوطنية وقضايا الأمة، الأستاذ عبد الواحد محجوبي، "أكيد أن هذا الاستغراب يزول، إذا استحضرنا العلاقات الثقافية والدينية والاقتصادية والبشرية بين المغرب وبلاد السودان الغربي إلى حدود مرحلة الإمبريالية الغربية التي مهدت للمرحلة الاستعمارية". المغرب جسرٌ لنشر الإسلام في السودان الغربي وأوضح محجوبي، في تصريح ل"الرأي"، أن المغرب الأقصى شكل جسرا رئيسيا وبوابة حقيقية لنشر الإسلام واللغة العربية في السودان الغربي، فكتب التاريخ تؤكد أنه منذ بداية الدعوة المرابطية، كان أحد ملوك غانة ويدعى "تنكامنين السوننكي" قد قَبِل الدخول في الإسلام والخضوع لسلطة المرابطين. واشار المتحدث إلى أنه في هذا العهد كثرت المساجد في السودان الغربي، فحسب رواية البكري المغرب في ذكر أخبار بلاد إفريقيا والمغرب "فقد بلغت المساجد في غانة اثنتا عشر مسجدا، ولها أئمة ومؤذنون وراتبون وفيها فقهاء وحملة علم وقد احتل هؤلاء الفقهاء مكانة مرموقة، فتسلقوا مناصب إدارية هامة ومؤثرة، مما يؤكد الثقة التي أصبحوا يتمتعون بها داخل الأوساط الحاكمة في بلاد السودان، فتراجمة الملك من المسلمين وكذلك صاحب بيت المال ووزرائه. ولفت محجوبي على أن نظرة على الكتب المتداولة دليل على النفوذ الذي أصبح للمذهب المالكي في بلاد السودان الغربي منذ عهد المرابطين، منوها إلى أن "كتب عياض السبتي والإمام مالك ومدونة سحنون هي الرائجة وعليها يعتمد في إصدار الأحكام وتعليم الناس". المراكز التجارية المغربية ونشر الإسلام في الغرب الإفريقي وفي هذا الصدد، نوه الأستاذ الباحث إلى الدور الذي لعبته أيضا المراكز التجارية والثقافية التي احتضنت فقهاء ودعاة وأئمة يعلمون القرآن وينشرون الإسلام، مشيرا إلى أن هذه العلاقات استمرت وتكرست من خلال التجارة الصحراوية وقوافل الحجيج، طيلة مراحل تاريخ المغرب الوسيط والحديث. وأردف المتحدث: ويكفي أن نتوقف مع ما أورده صاحب "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، الرحالة المغربي ابن بطوطة الذي أكد أن سلطان مالي (مسنى سليمان)" صنع طعاما برسم عزاء مولانا – أبي الحسن (المريني )- رضي الله عنه واستدعى الأمراء والفقهاء والقاضي والخطيب" فقرؤوا القرآن، ودعوا للأبي الحسن المريني، كما يستفاد من أسماء العلماء والتجار والصلحاء، الذين التقى بهم إبن بطوطة في رحلته إلى بلاد السودان الغربي، أنهم من أصل مغربي حيث يذكر المراكشي والمكناسي والسلاوي والتادلي والفيلالي والسجلماسي.. كلها أسماء تعكس عمق التواجد المغربي ببلاد مالي. الإمبريالية الغربية ومحاولة تقزيم دور المغرب في المنطقة وفي السياق ذاته، أشار عبد الواحد محجوبي، في التصريح ذاته، إلى أنه في فترة الإمبريالية الغربية، كان الغرب الاستعماري يدرك البعد الجيوسياسي للنفوذ المغربي، فعمل بنفس تاريخي واعي على رسم خريطة سياسية جديدة بهدف تطويق المغرب وتصغير حجمه لقطع جذوره الإفريقية التي تأسست عبر قرون من الزمن، مضيفا: "فالاستعمار كان يدرك أن الإسلام والعربية والمذهب المالكي والحضارة الإسلامية وعبورها إلى إفريقيا كان من خلال المغرب، فكان الهدف وضع شريط عازل مانع لاستمرارية اتصال المغرب بغرب إفريقيا والشروع في وضع تقسيمات نهائية للضعف والموت البطيء للإسلام وحضارته، ونقل المغرب من هوية إسلامية إلى هوية لاتينية، وتطويق المملكة في عقر دارها ومنع الوحدة السياسية للمنطقة وضمان التبعية لأوروبا على جميع المستويات". استمرار حضور البعد الإفريقي بالمغرب بعد الاستقلال وبعد الاستقلال، يضيف محجوبي، ظل البعد الإفريقي حاضرا في المغرب وتجسد ذلك في الدعم الذي قدمه لحركات التحرير الوطني، وتدخلات جيشه العديدة في إطار مهام حفظ السلام الأممي. وفي بداية الاستقلال، يستطرد المتحدث، تضمنت إحدى الحكومات حقيبة وزارة الشؤون الإفريقية التي أسندت للدكتور عبد الكريم الخطيب، والذي ظل طيلة حياته وفيا لهذه القناعة ومدافعا شرسا عن أهمية هذا البعد الاستراتجي الإفريقي في العلاقات الخارجية المغربية. الزوايا والحجيج.. ترجمة ل"النفوذ" الروحي للمغرب في الغرب الإفريقي الأستاذ الباحث شدد أيضا على الدور الذي لعبته الزوايا كقناة رئيسية ل"النفوذ الروحي" في علاقة المغرب مع بلاد السودان الغربي، منوها إلى أن المغرب حرص على "تمتين العلاقات مع الزوايا ذات الوزن والانتشار مثل الزاوية التيجانية، حيث لا زالت هذه العلاقة مستمرة إلى اليوم من خلال مرور الرحلات الحجية للسينغاليين ومن دول اخرى عبر فاس لزيارة ضريح سيدي أحمد التيجاني ومقر الزاوية التيجانية". وأشار عبد الواحد محجوبي، في هذا الصدد، إلى أن المغاربة ظلوا يقودون ركب حجيج السودان الغربي، بل حرصوا على تأمين طريق الج في القرن الثامن والتاسع الهجريين، مضيفا أن التاريخ يشهد لمولاي علي الشريف الحسني السجلماسي أنه عمل على تأمين طريق الحج الصحراوية في اتجاه جنوب الصحراء، فأمن هذا الطريق الجنوبي إلى الديار المقدسة عبر ""كانم برنو" وجنوب مصر إلى السويس والبحر الأحمر، وكان يرأس الموكب الحجي الآتي من بلاد السودان الغربي. انتقال العلماء المغاربة إلى السودان وارتباطا بنفس الموضوع، قال الأستاذ الباحث في التاريخ وقضايا الأمة إن علماء مغاربة كثر انتقلوا إلى السودان الغربي عبر قرون عديدة، وأقاموا فيها مددا متفاوتة لنشر اللغة العربية وتعاليم القرآن الكريم، بل اختار البعض منهم الاستقرار بشكل نهائي هناك، لافتا الانتباه إلى أن مركز "تنمبوكتو" يعد واحدا من أشهر مراكز استقرار العلماء المغاربة بالسودان الغربي. ونوه المتحدث إلى أنه "في المقابل حط الرحال بالمغرب عدد من طلبة السودان الغربي، الذي درسوا على أيادي أعلام "الصحراء"، و"أغمات"، ومراكش وفاس. العلاقات السياسية بين المغرب والغرب الإفريقي في العهد العلوي وقال الأستاذ عبد الواحد محجوبي، في هذا السياق دائما، أنه منذ فترة حكم السلطان العلوي المولى الرشيد كان أرسل بعثة ذات طابع ديني وسياسي إلى "تنمبكتو" لأخذ البيعة عام 1670، كما توجهت بعثة سنة 1867 تحمل رسالة ممثل السلطان إلى باشا "تنمبكتو" تؤكد اعتبار "الأكلم" جزءا من أقاليم السلطة العلوية، كما استمرت الضرائب في الوصول إلى سلاطين المغرب، الذين ظلوا يعتبرون "تنمبكتو" ولاية مغربية إلى غاية القرن 18. علاقة المغرب بالغرب الإفريقي.. تحول عميق في عهد الملك محمد السادس وشدد الأستاذ الباحث على أن العلاقات الخارجية المغربية شهدت تحولا عميقا في مسارها في عهد الملك محمد السادس، حيث أصبحت إفريقيا حاضرة في أجندته الخارجية، مما يشكل علامة فارقة، في العلاقات الخارجية للمغرب الذي ظل يراهن لفترة طويلة على القارة العجوز. واضاف أن ما وصفه ب"التصالح الحقيقي" مع التاريخ والجغرافيا بإعادة الجسور إلى طبيعتها، جاء بشكل قوي في عهد الملك محمد السادس، مشيرا إلى أن الأنشطة الملكية وما رافقها من توقيع للعديد من الاتفاقيات الاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والدينية يفتح صفحة جديدة في علاقات المغرب الخارجية تمكنه من فرص عديدة تعمق تواجده، وتجعله يستشرفالمستقبل بارتكاز على جذوره التاريخية والاستراتيجية والتخلص من عبء المرحلة الاستعمارية. وأكد المتحدث أن الزيارة الملكية الأخيرة لبلدان غرب إفريقيا تفتح آفاق واعدة للاقتصاد المغربي لأبعاد سياسية ودينية. واعتبر أنه "لتعزيز هذا التواجد لابد من الجمع بين الدبلوماسية الرسمية والدبلوماسية الشعبية، مما يفرض وضع خطة استراتجية دقيقة لتواجد المؤسسات المدنية لهذه المعادلة، خدمة لمصلحة المغرب ومصلحة البلدان الإفريقيا المعنية". ونبه إلى أهمية "تذويب جليد العلاقات مع موريتانيا حتى تكتمل الحلقة في هذا المسار وتبقى الجبهة الشرقية مغلقة إلى إشعار آخر"، يقول عبد الواحد محجوبي.